إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

وداعا يا عم حاكم

أقول له وداعاً يا عم حاكم وأنا أدرك آسفا أنه لن يرد علي: سلاما يا عم أنور كما تعود أن يناديني دائما برغم فارق السن بيننا. لقد غيب الثرى تلك الابتسامة الصافية التي كانت تخبئ وجهه الأسمر ولحيتهالشهباء. عرفته من رسومه قبل أن أراه. وكنت أعجب بهذه الروح الوثابة التي تنبض خلف كل خط من الخطوط ثم أصبحت زميلا له في مجلة العربي فأصابتني العدوى من هذه الروح. كان قادراً على قلب يومي وإشاعة البهجة في تفاصيل العمل اليومية، ولم يكن يتوقف تقريبا عن الرسم وعن قول التعليقات الساخرة.

في المرة الأخيرة التي زرت فيها القاهرة كان راقداً على فراش المرض وكان معي زميلي الكاتب أبوالمعاطي أبوالنجا، كان وحيداً تقريبا، يبتسم لنا في وداعة. وعجبت بيني وبين نفسي كيف يجرؤ الموت على اقتناص هذه الابتسامة الوديعة. بعد ذلك امتلأت الغرفة بالعشرات، جاءوا يحملون الورد والحلوى والضحكات كأنما كانوا يدعمون وجوده على قيد الحياة. وتحولت ابتسامته إلى ضحكات برغم وهن جسده. كان معين الحياة في داخله لا ينضب. فبرغم أن الموت كان له بالمرصاد. وبرغم أنه اختطف ابنته "منى" وهي في زهرة شبابها إلا أنه استطاع الانتصار عليه بسلاح ضعيف جداً هوالريشة التي كان يرسم بها.

قضى عم حاكم معنا في الكويت 25 عاما كاملة. وكان يحلو له الحديث أحياناً عن والده الذي كان جندياً في حرس الحدود والذي استقر في مصر برغم أنه سوداني الأصل وكان أمله أن يذ هب ابنه إلى الكلية الحربية ليصير ضابطا صاحب سلطة ولكن ابنه هرب من رغبته وفضل أن يكون صاحب فن. كانت الابتسامة في داخله أقوى من أن يقتلها بأطماع السلطة.. التحق بكلية الفنون الجميلة وأصبح رساماً صاحب أسلوب مميز لفت إليه الأنظار قبل أن يأتي إلى الكويت كان قد شارك في أكثر من تجربة رائدة. اشترك في رسمم أول فيلم مصري كرتوني للأطفال. كذلك شارك في إصدار أول مجلة مصرية خالصة للطفل هي "كروان " ثم أصدر مجلة كاريكاتير مع صديقه مصطفى حسين.

لقد طار "الكروان" إلى الكويت دون أن يتوقف عن الغناء. وجعل من مرسمه وبيته مزاراً مفتوحا لكل هواة هذا الفن الجميل. وأصبح هذا البيت في شارع هارون الرشيد معلما مهما لكل من تسمو روحه إلى هبة من الهواء العليل وسط القيظ. وعندما وقع الغزو العراقي الغاشم على الكويت اتصل بي ليقول إنه مختبئ داخل بيته ولن يغادره إلا بعد رحيل آخر جنود الاحتلال. ولكنه عرف أنهم يبحثون عنه في كل مكان للمساهمة في الجريدة التي كانوا ينوون إصدارها ، وهكذا لم يكن أمامه مفر من الرحيل خفية من الوطن الذي أحبه.

عاد إلى القاهرة ورصيده من النقود "صفر" ولكن رصيده من حب الأصدقاء لا يقدر بالملايين وبعد التحرير عاد يواصل عمله معنا من خلال مجلة العربي، وكانت العربي تخصص له دائما مقالاتها الافتتاحية التي يكتبها د. محمد الرميحي. حتى وهو على فراش المرض كان يستعد لإقامة معرضه في الكويت. سوف نقيم المعرض ياعم حاكم وسوف نضحك معك ونحن نثق أنك سوف تبادلنا الضحكات فالموت لا يقدرعلى مقاومة سخرية فنان مثلك.

 

 

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات