هدر الفكر وفكر الهدر.. د. سليمان إبراهيم العسكري

هدر الفكر وفكر الهدر.. د. سليمان إبراهيم العسكري

هناك إدانة - على نطاق واسع - في أوساط المثقفين العرب, لآلية النقل من الماضي, لأنها تقطع الطريق على كل اجتهاد يوائم ما بين الحاضر ومكتسباته والماضي ومعطياته.

لكن إدانة النقل من الحاضر, المنتمي لثقافات تهيمن - أو تريد أن تهيمن - على الثقافات المستضعفة في عالم اليوم, ومنها ثقافتنا العربية الإسلامية, لم تحظ إلا بأقل القليل من محاولات النقد أو حتى إعمال التفكير فيها. ومن هذه المحاولات القليلة, بل النادرة هذه الأيام, مداخلة ذكية لمفكر عربي, نرى أنها جديرة بالاهتمام والتمعن فيها.

  • أخذت الحضارة الغربية التفكير عن ابن رشد المسلم, فكانت الرشدية الأوربية, كما أخذت الفعل والتجريب عن ابن الهيثم العالم المسلم, وضيعنا نحن إرثهما في زمن الهدر العربي
  • خاض الغرب معركة استمرت قرونًا لصالح البرهان وسيادة العقل, وقادتنا ثلاثية الهدر (الاستبداد, والعصبيات, والماضويات) إلى معارك خاسرة في الاتجاه الخطأ
  • العقل العربي اللاإستراتيجي يظل أسيرًا لفكر (تدبير الحال) وردود الفعل مما يحرمنا من اكتشاف الطاقات الكامنة في الحاضر, والواعدة في المستقبل, ويسد الفجوات بالأوهام
  • هدر الفكر تجريمًا وتحريمًا وحجرًا على العقول, هو هدر فعلي لفرص التنمية التقنية والإنسانية سواء بسواء, ولا يمكن التساهل بشأنه لأنه يغتال المبادرات المبدعة ويهدد الأمل

بيروت, لاتزال, بالرغم مما أصابها, ولايزال من محن دموية, وسياسية, هي حديقة للكتاب العربي وحاضنًا للإبداع والحرية, وبالرغم من وجود عدد من تلك الحدائق في عالمنا العربي, تظل حديقة الكتاب اللبناني لها تاريخها الخاص ونكهتها المميزة. ومن هذه الحديقة التي مثلها مثل غيرها يهجرها مزيد من الناس الذين ينصرفون عنها إلى شاشات التلفزة والإنترنت, اخترت كتابًا للكاتب مصطفى حجازي, شدني عنوانه: (الإنسان المهدور.. دراسة تحليلية نفسية اجتماعية).

ومن الوهلة الأولى, رجحت أنه اكتشاف فكري, وكلما غصت فيه وجدته واحدًا من هذه المؤلفات التي تكمن أهميتها, لا فيما تحتويه فقط, بل فيما يمكن أن تفتحه من أبواب للتفكير والبحث, وما تزخر به من أضواء يمكن تسليطها على مناطق معتمة لاستكشاف أغوارها التي تُخبّئ أسباب التدهور والداء, أو تحجب مكامن الصحة والعافية.

كتاب يضع يده على مركز فهم مأساة وملهاة الواقع العربي المعاصر, المتراجع بكل المقاييس العامة, والمنذر بمزيد من التراجع والتدهور, إن لم نسارع بأخذ إجراءات سريعة لإسعاف هذا الواقع المريض, والمشرف على الموت, وإجراءات أبعد مدى وأكثر جهدًا لإنقاذ المستقبل.

تداخل حقول المعرفة

(الإنسان المهدور) كتاب يركز على الإنسان العربي الذي ينطلق منه وينطلق نحوه, في دراسة جادة هي نموذج لتداخل حقول المعرفة, من أجل غوص أعمق في موضوع الدراسة. فبالرغم من أن مرتكز الكتاب هو علم النفس وعلم الاجتماع, إلا أنه يتشعب في استخدام أدوات معرفية عديدة, من السياسة إلى التاريخ إلى وظائف الأعضاء, بل إن هناك لمحات من الفلسفة وفقه اللغة, ومن ذلك تعريفه بموضوع الكتاب الذي يقول فيه: (إن الموضوع الذي يعنينا في هذا المقام هو هدر الإنسان تحديدًا بمعنى التنكر لإنسانيته, وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه). ثم يدخل في منعرج لغوي ليقول إن القهر يعني في التعريف القاموسي (الغلبة والأخذ من فوق, وبدون رضى الشخص الآخر).

أما الهدر فهو أوسع مدى بحيث يستوعب القهر الذي يتحول إلى إحدى حالاته. فالهدر يتفاوت من حيث الشدّة ما بين هدر الدم, واستباحة حياة الآخر, باعتباره لا شيء, وبين الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان, كما يحدث في علاقة العصبيات بأعضائها, وهو بين حدَّي الهدر يعدد أسبابًا ونتائج كل منها يستحق وقفة, بل وقفات, ومن ثم أجدني أختار من هذا الكتاب الكبير في طموحه, والمقدام في مداخلاته, العنصر الذي أجده مركزيًا في منظومة هدر الإنسان العربي, وهو (هدر الفكر).

فكر الانفعال.. لا تفعيل الفكر

في سياق الحديث عن هدر الفكر, يتوقف الكاتب عند نمط واضح من أنماط التفكير السائدة في الواقع العربي, والمفسرة لما يترتب عليها من نتائج, فمن أبرز هذه الأوجه التي كثر الحديث عنها وتناولتها الأبحاث بالدراسات المستفيضة والكاشفة قصور التفكير التحليلي النقدي. وهو ما يؤدي إلى فقدان سيطرة العقل على قضايا الواقع, وإحلال الحلم والتفكير المُحبَّذ على التفكير الذي يتمكن من التعامل مع القضايا تحليلاً ونقدًا, ونقضًا وتغيرًا. يحل الانفعال, بعد أن تعطل عمل القشرة الدماغية ووظائفها العقلية العليا. وهكذا, فبينما تُكرَّس سيادة العقل في البلاد المتقدمة شرقًا وغربًا في التعامل مع الظواهر وتسييرها وتغييرها, تطغى الوجدانيات وردود الأفعال ذات الطابع الانفعالي الاستجابي, بدلاً من التفكير المبادر والتحريضي.

إن الكاتب يتخذ من الحالة الغربية المدنية مثالاً, أو مقياسًا, وهذا أمر منطقي في إطار أن الكاتب يجري بحثه المقارن بين مجتمعات مهدرة لطاقة التفكير بين أبنائها, ومجتمعات تجيد استثمار وتنمية هذه الطاقة, على الأقل في دائرة الفكر الذي يثمر إبداعًا يغير من شروط الحياة الاجتماعية والسياسية, بل حتى الإنسانية لأبناء هذه المجتمعات. وسيكون من قبيل التربص والتصيد أن ندعي على الكاتب ما لم يذهب إليه في مجال بحثه, وأعني منطقة التراث الخاص والأبعاد الروحية للشعوب, فمداخلة الكاتب واضحة وضوح الفارق بين السائد في مجتمعاتنا وبين مجتمعات الديمقراطيات والتنمية الجادة وإعمال القانون والمحافظة على الإنسان وحقوقه في الحياة, وهي أمور دنيوية كلها. يقول: تأمل واقع العقل الغربي يُبرز خاصيتين أساسيتين, هما التفكير والفعل, أما التفكير فهو الأبرز في الثقافة الأوربية اللاتينية التي قدمت للتراث العالمي كبريات النظريات الفكرية المعروفة, وأنتجت المنهجيات فائقة الحيوية في التحليل والنقد والنقض والتفكيك وسر خفايا الظواهر, مما قدمه ولايزال روّاد الفكر والفلسفة الغربية. وأما الفعل فهو السائد في الثقافة الأنجلوسكسونية وفلسفتها الحسيّة التجريبية ومناهجها الإجرائية والبراجماتية, مما شكَّل عماد الثورة الصناعية في أهم منجزاتها, ومما طوّر طرق التسيير الأكثر فاعلية في إدارة الواقع وقضاياه, وصولاً إلى نتائج عملية أتاحت بناء القوة. وأما (التعقيم) الفكري في أنظمة الهدر فلقد فتح باب الانفعال في النظرة إلى الذات والآخر والواقع.

لقد ورثت الحضارة الغربية كلا من التفكير والفعل على مستوى العلم من الحضارة العربية الإسلامية: أخذت التفكير عن ابن رشد مما تمثل في تأسيس الرشدية الأوربية, كما أخذت الفعل والتجريب عن ابن الهيثم وأعماله المهمة في البصريات.

واستمرارًا للمداخلة يكرر المؤلف حديثه عما أسماه ثلاثية الهدر وهي: الاستبداد, والعصبيات, والأصوليات, وهنا أتوقف من جديد لأبرئ ساحة المؤلف مما يمكن أن يكون هدفًا للتربص بمفهومه عن (الأصوليات) فهو, ومن سياق حديثه في الكتاب كله, معني بأمر خروج الأمة من التخلف بصون طاقات التطور والتقدم, ومن ثم فهو في ذكره للأصوليات لا يمكن إلا أن يكون مصوّبًا على الصياغات السلبية لأمور تدّعي الأصولية, وهي ليست إلا تأويلاً يصطبغ بما في بعض النفوس التي لا تريد أن تتحمل أعباء العصر وتهرب من الحاضر إلى ماضٍ تصفه على هواها وتشكله حسب تفسيراتها وبما يتلاءم ورغباتها في التخلص من مسئولية العصر ومواجهة مشاكله وقضاياه. فالكاتب يقول هنا: (وبينما خاض الغرب معركة استمرت قرونًا لصالح البرهان واستتباب سيادة العقل وسيطرته, قادت ثلاثية الهدر (الاستبداد, العصبيات, الأصوليات) معركة لا تقل عنها ضراوة, إنما في الاتجاه النقيض والمعاكس, أي للقضاء على العقل وهدره. وبدلاً من تعزيز مركز الضبط الداخلي الذي قاده الغرب في سيطرة الإنسان على ذاته, من خلال العقل, تم - في مجتمعات الهدر - تعميم مركز الضبط الخارجي الذي يسلب الإنسان سيطرته على ذاته لصالح قوى القهر. إن كلاً من الاستبداد والأصوليات - بالمعنى المشار إليه - يلغيان التاريخ بما هو جهد بشري مبادر ومنتج ومنجز لبناء كيان وصناعة مصير, لأنهما يلغيان المبادرة الإنسانية, والإرادة الإنسانية, والفعل الإنساني ذاته. وهكذا يفرض على الناس العيش ضمن حدود تاريخ الاستبداد, أو في فردوس الماضي الذي لم يعد له وجود).

غياب العقل الإستراتيجي

وبالطبع فإن إلغاء التاريخ, بما هو بناء الكيان, يجعل العقل العربي غير إستراتيجي, فلا تخطيط بعيد المدى, ولا استيعاب للواقع في رؤى شمولية دينامية جدلية. وكيف يكون هناك تخطيط إستراتيجي مع استفحال ذكاء (تدبير الحال) ومداراة الحاضر بالحاضر, والتعامل مع التحديات والوقائع بردود الفعل. يعتبر التفكير الإستراتيجي قمة الكفاءة الذهنية من حيث القدرة على التحليل والتوليف والرؤى بعيدة المدى, وبناء تصورات عالية التعقيد للواقع, بحيث تستوعب قواه الأساسية ودينامياته المحركة وتتحكم بتسييرها وتغييرها خدمة للمصالح بعيدة المدى. إنه - أي العقل العربي اللاإستراتيجي - على النقيض من الفكر الإستراتيجي, يظل أسيرًا لفكر (تدبير الحال) وهذا المصطلح على إيجازه يكتنز من الأضواء والظلال الكثير الذي يرسم صورة محزنة لأمة تدبر حالها يومًا بيوم, بينما هناك من يتربص بها - بكل أدوات التربص ونواياه وأهدافه المتنوعة - ويخطط تربصه بأبعاد إستراتيجية تمتد لعقود, لا بل إلى قرون, وتجعل من يكتفون بفكر (تدبير الحال) في خطر عاجل وليس آجلا, فالانهيار الكامل يبدأ بضربات معاول قليلة قد لا تكون ظاهرة التأثير في بواكير عملها, لكنها أكيدة الهدم إن استمرّت في ضرباتها, ولكم نتلقى من الضربات التي توجهها لنا معاول وافدة من خارج حدودنا العربية, وأخطر منها معاول هدرنا نحن لأنفسنا بأنفسنا, خاصة معول (هدر الفكر) قصير النظر في التدمير بعيد المدى في التأثير, وهو ما يقتضي منا نظرة مقارنة بؤرتها ما حدث في الغرب, لا على سبيل النموذج والمثال, بل لإثارة الحمية والفكر وإعمال النظر. ألا يكفي النظر إلى داخلنا لنعمل الفكر فيه, أليس حال فلسطين وحال العراق وحال لبنان وحال السودان - على الأقل - كافيًا لأن نستخدم العقل فيه قبل ردود الفعل والانفعال والصراخ, ومزيد من هدر الإنسان واضطهاد العقل والفكر?!

لقد تلازمت ثورة العلوم الإنسانية مع ثورة فلسفة العلوم كي تجعل انطلاق المشروع الصناعي الكبير في الغرب ممكنًا, وكي توفر له الأسس والمقومات والمنهجيات, والأدوات كانت ثورة الأنوار التي تابعتها العلوم الإنسانية, والتي أنجزت تحرير الإنسان الفرد من عصر الإقطاع والاستبداد السياسي وتحكم الاستبداد اللاهوتي. إنها ردت له حريته وإرادته كمدخل أساسي لإطلاق طاقاته الحيوية الذاتية, وتحمل مسئوليته في الإنتاج والإنجاز وإدارة الذات. وحين يسترد حريته وإرادته, ويتولى مسئولية ذاته, يفسح السبيل أمام انطلاق طاقاته الحية. ولم يكن هذا الإفراط في إطلاق العنان للحرية الشخصية للفرد في الغرب, وحمايتها عبثًا لمجرد إيصال الليبرالية إلى حدودها القصوى, بل على العكس, هناك جدول أعمال خفي وراء ذلك, يتمثل في تحرير طاقات الجسد والعقل من أجل مزيد من العطاء والانطلاق فيه, وتجاوز القيود والحدود كمدخل لتهيئة التربة الخصبة للإبداع من كل لون, لاعتباره ضمانة السبق في عالم احتدام التنافس على الجودة, وخرق كل ما هو تقليدي في الإدارة والصناعة. كذلك لم تكن مسألة ترف معرفي تلك الجهود الهائلة لاكتشاف أسرار الوجود الإنساني فرديًا وجماعيًا, مما قدمته مختلف نظريات الآداب والفنون والعلوم الإنسانية). إنها إرادة المعرفة, وسلطة المعرفة من أجل مزيد من السيطرة على الواقع وتسييره, أما التمادي في إطلاق الحريات والذي يراه كثيرون مسئولاً عن توليد الانحرافات على اختلافها, والتي أصبحت مثار شكوى حتى في بعض الغرب, فهو أمر يمكن فهمه كآثار جانبية لفرط الحرية, لكن هذه الآثار قابلة للاحتواء بصرامة تطبيق القوانين على كل الناس, ودون تمييز أو انتقاء, ثم إن الانحرافات المشار إليها ليست وقفًا على مجتمعات الإفراط في الحرية, فهي ربما أكثر في مجتمعات (ثلاثية الهدر), لكنها ترتدي أقنعة النفاق تارة أمام التزمت, وتجيد الاختفاء تارة أخرى وراء أسوار الاستبداد, وتشكّل نوعًا من الادعاء الكاذب في ظل العصبيات العرقية والقبلية والاجتماعية.

إن ثورة فلسفة العلم أنجزت تحرير الكثير من العقل الغربي, وأطلقت العنان له من أجل مزيد من الاكتشافات والاختراعات في مختلف مجالات التكنولوجيا والتسيير والإنجاز. فقط سلطان العقل مكّن من إنتاج هذه الإنجازات المذهلة في العلم وتطبيقاته, وبالتالي من بناء قوة الاقتدار المعرفي, التي تقود العالم راهنًا وتسيّره. وكما أطلق العنان للحرية الفردية ومبادراتها من أجل توظيفها في الإنتاج والإنجاز, كذلك أطلق العنان للعقل انطلاقًا من مبدأ أساسي وهو عدم التوقف عند الثوابت التاريخية, التي يمكن أن تشكّل معوقًا معرفيًا, أو تجمد المعرفة مفتوحة النهاية.

لقد استغرقت هذه المغامرة المعرفية ثلاثة قرون هي عمر الثورة الصناعية, ومازالت متسارعة بوتيرة متزايدة, منتجة المذهل من التقنيات والمنهجيات, فأين من ذلك كله هدر الفكر حَجْرًا وحصارًا وتقييدًا وتجميدًا, مما يشكّل اغتيالاً فعليًا, وليس مجازيًا, للعقل وللطاقات الحية في آن معًا.

محطات الانطلاق

يقول الكاتب, ونموذجه المقارن لايزال ثورة العقل الغربي: (يمكن تلخيص مغامرة العقل الكبرى من خلال استعراض فلسفة العلم في ثلاث محطات تشكّل كل منها ثورة قائمة بذاتها, وصولاً إلى استتباب سلطانه والظفر في معركة اقتداره المفتوحة.

في محطة أولى تم الانتصار في معركة سلطة العقل ومرجعيته ضد سلطة اللاهوت, ومرجعية نظم الاستبداد القائمة على الحق الإلهي (لكنيسة العصور الوسطى الأوربية), من خلال القضاء على المرجعيات الغيبية, أو استبعادها, على الأقل من نطاق اشتغال العقل, تلك هي الثورة الأولى.

في المحطة الثانية, تم توطيد قوة العقل من خلال منهجيات الدقة العلمية والصرامة والضبط الفكري وتطوير قواعدهما وأدواتهما على مستوى التجريب, كما على مستوى المنطق العلمي الرياضي والصياغة العلمية اللغوية المحكمة للقضايا العلمية, تلك هي الثورة الثانية, التي وطدت أركان قوة العقل وإنتاجه المعرفي.

أما في المحطة الثالثة, فتمثلت الثورة في تحطيم القيود الذاتية للعقل نفسه, من خلال تحطيم أصنامه المعرفية المتمثلة في منهجياته ومقارباته, وصولاً إلى إطلاق العنان لاشتغاله في حالة دائمة من تجاوز منجزاته ومرجعياته, بل والقطيعة معها. إنها ثورة العقل الطليق, دون حدود أو قيود, الذي يتجاسر على المجهول ويسائل اليقينيات العلمية, وصولاً إلى زلزلة أركانها ونقضها).

وعليه فالعلم ليس تراكميًا, بل هو استيعابي انقلابي: نقد ونقض, ثم نقد النقض ونقضه. وهكذا تكون فلسفة العلم في جوهرها, هي فلسفة التقدم المتمثل في سلسلة متلاحقة من الثورات, حيث كل تقدم يقوم على نقد ما سبق, وبالتالي الثورة عليه.

هل للهدر فكر?

يتضح مما سبق مدى خطورة, بل كارثية, هدر الفكر, تجريمًا وتحريمًا وحجرًا على العقول, هدر الفكر هو هدر فعلي لفرص التنمية التقنية والإنسانية سواء بسواء, وليس مجرد أمر يمكن التساهل في شأنه بمختلف المبررات, كما هو حاصل في بلاد (هدر الإنسان وفكره). إننا لسنا بصدد أولويات يمكن أن تقدم أو تؤخر, بل بصدد قضية المصير ذاتها, وإعداد العدة المعرفية والفكرية اللازمة لاستيفاء شروطها ومقوماتها.

تلك مسألة أولى في رأي الكاتب, أما الثانية التي لا تقل أهمية عنها, فهي إمعان النظر في الهوّة المتسارعة الاتساع بين واقع الفكر والمعرفة في أنظمة الهدر, وواقعها في بلاد الريادة التقنية والإنتاجية, أي بلاد التمكن والسيطرة, فأين نحن من التحريم والتجريم والحجر.

إن الفكر, بما هو نتاج التفكير, يخدم غاية كبرى هي سيطرة العقل على العالم وظواهره, بما هو لازم ومطلوب وصحي, وبالتالي سيطرة الإنسان على ذاته وواقعه, وصولاً إلى صناعة مصيره الاجتماعي, وعليه يقود هدر الفكر إلى فقدان السيطرة, وإفلات زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته, وبالتالي هدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي النباتي, وإشباع حاجات البقاء البيولوجي. فالتحريم بما يشابه عقلية العصور الوسطى, كما التجريم المخابراتي السياسي, والحجر على العقول الذي تمارسه العصبيات, تدفع كلها بالإنسان إلى الإذعان, وبالتالي تعطيل العقل وما ينتجه من فكر تحليلي نقدي تساؤلي تجاوزي. وهكذا قد تدفع ثلاثية الهدر الناس إلى اقتصار نشاطهم الفكري على مستوى المعيس وحده, والسعادة والرضا بتحقيق متطلباته الدنيا. هنا يعطل استغلال الدماغ ولا يبقى فاعلاً منه سوى أقل القليل, وكيف لنا أن ننهض ونصبح شيئًا بين الأمم المتنافسة في مضمار الاقتدار المعرفي وطفراته, مادام يفرض على الإنسان العربي - في الأغلب الأعم - التفكير في نطاق (تدبير الحال). بل التفكير فيما هو أضيق وأضيق, أي التفكير بتدبير حاجات الجسد لا غير, بل التفكير أحيانًا بمتطلبات النبات الذي لا نسمع له صوتًا ولا نلمح له انفعالاً! وهذا نمط من التفكير الأدنى الذي ينتجه الهدر. ومادام الفكر نتاجًا للتفكير, فيمكننا أن نطلق على هذا الحد الأدنى من التفكير فكرًا للهدر, وهو تابع ذليل لهدر الفكر, ينتج عنه, ويدعم استمراره, فيتعايشان في حلقة شريرة تداوم الدوران, أحدهما يفرز الثاني, وثانيهما يدعم الأول, ومحصلة هذا الدوران هي سحق الحاضر وإلغاء المستقبل. فهل نسعف الحاضر وننقذ المستقبل ونوقف هذا الدوران المدمر لعجلة هدر الفكر وما يتبعه من فكر الهدر?

إنها ليست أمنية عربية حالمة, بل هي ضرورة وجود واستمرار لحياتنا, وتظل أسئلة الهدر مفتوحة المجال.. وللحديث بقية.

 

سليمان إبراهيم العسكري