إبراهيم العريض... الشاعر الذي تشظى أربع لغات!!

إبراهيم العريض... الشاعر الذي تشظى أربع لغات!! (شاعر العدد)

عندما توفي شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريض قبل عدة سنوات عن أربعة وتسعين عاما، قلنا إن هذه القطعة التاريخية الثقافية قد غيبها الموت دون أن يجرؤ على محو ملامحها التي تبددت على مدى قرن من الزمان، استغرق الراحل الكبير معظمه في العمل الثقافي العام خدمة لفكرة استولت عليه منذ سن مبكرة وعمل جاهدا على توريثها لتلاميذه ومريديه. فملامح شخصيته الثقافية الفريدة من نوعها ظلت طاغية في المشهد الثقافي العربي بشكل عام، أما البحرينيون فظلوا يتذكرون الرجل الذي صار الهوية الشعرية البحرينية لدى العرب الآخرين طوال قرن أو أقل قليلاً.

لقد عرف القراء العرب العريض كأحد مترجمي رباعيات الخيام إلى اللغة العربية وقد اتسعت نظرته الشعرية والإنسانية لتتجاوز حدود جغرافيته الضيقة وتكون الرؤية المتشظية في الخريطة العربية كلها منذ وقت مبكر حيث حلق العريض بعيدا عن واقعه البحريني والخليجي المحدود في أوائل القرن العشرين ليجايل الأصوات العربية التي تخلقت منها شعرية العرب المنبعثة منذ مطلع القرن العشرين بعد قرون من التقليد الراكد في مستنقعات الرتابة والسكون.

لم يكن العريض الذي ترك وراءه عددا من الكتب الشعرية والفكرية والمسرحية وغيرها شاعرا مجيدا وحسب، ولا مترجما فذا لعين من عيون التراث الإنساني في تجليه الشعري فقط، ولكنه كان قبل هذا وأثناءه وبعده الشخصية التنويرية التي صنعت من واقعها الضيق متسعا من الحرية والشعرية والتعددية، حيث جعل العريض من كل هذا رهانا مبدئيا في حياته التي امتدت طويلا لتصير تاريخا حافلا يصعب تجاوزه.

واذا كان إبراهيم العريض قد سكت عن القول الشعري منذ زمن طويل، على الرغم من بعض الاستثناءات التي عبقت برائحة الشعرية القديمة للشاعر من دون أن توازي قيمتها التاريخية ذات النفس الريادي، ولا جماليتها الفنية ذات النفس الرومانسي، والتي دأب على نشرها بين الحين والآخر، فإنه ظل دائما إيقونة متحركة في كل اتجاه يستطيع الوصول إليه، وعلى أكثر من صعيد من صعد اهتماماته المتعددة انطلاقا من النقطة البحرينية الأثيرة، التي لم تستطع على الرغم من ذلك أن تكون بوصلة الاتجاهات بالنسبة للشاعر التعددي.

ولد إبراهيم العريض عام 1908 في الهند حيث كان يعمل والده بالتجارة من أب بحريني وأم عراقية، وعاد إلى البحرين وهو في الرابعة عشرة من عمره لا يعرف من اللغة العربية بقدر ما يعرف الأوردية والفارسية والانجليزية التي وفرت له فرصة الاطلاع على ثقافات أخرى مما لم يحظ به مجايلوه من المثقفين العرب، كما أن معرفته اللغوية المتعددة هذه سمحت له بأن يترك وراءه دواوين شعرية بثلاث لغات حية هي العربية التي تعلمها بعد عودته إلى موطنه البحرين في العام 1926 فيما بعد وصار أحد حراسها، والأوردية، والإنجليزية، بالإضافة الى لغة رابعة هي الفارسية التي نقل عنها رباعيات الخيام، لكنه مع هذا ظل يشعر بغربته الأبدية وكأنه الكائن الذي ظل يبحث عن تحققه في كل اللغات التي تعلمها والقصائد التي كتبها.

وكان العريض قد اجتهد في دراسة اللغة العربية وآدابها بعد عودته الى البحرين، وسرعان ما أتقن لغة أهله فأصدر بها ديوانه الأول «الذكرى» الذي طبعه في بغداد عام 1931، وقد بدأ حياته العملية مدرسًا للغة الإنجليزية في مدرسة الهداية الخليفية في المنامة ثم عين نائبا لمدير المدرسة الجعفرية، إلى أن افتتح مدرسته الخاصة عام 1932 وأدارها لمدة ثلاث سنوات، قبل أن ينتقل إلى العمل الإداري في دائرة الجمارك البحرينية، ثم رئيسا لقسم الترجمة في شركة خاصة، ثم مذيعا في إذاعة البحرين ثم في إذاعة دلهي عام 1943، وبعد ذلك عين العريض سفيرا متجولا ثم سفيرا مفوضا فوق العادة في وزارة الخارجية البحرينية.

وبالإضافة إلى ترجمته لرباعيات الخيام، وديوانه الأول «الذكرى»، أصدر العريض عددا آخر من الكتب الشعرية والنثرية والمسرحية منها: «بين دولتين»، و«صور من حياتنا الفكرية»، و«في هيكل الحب»، «شعراء معاصرون»، «حوار دافيء مع صديق»، و«نظرات أدبية مختلفة»، و«وامعتصماه»، و«أرض الشهداء»، و«قبلتان». لكنه ختم حياته الشعرية مبكرًا بديوان أسماه «شموع» أصدره في مطلع خمسينيات القرن العشرين وكأنه ينسحب من المسرح الشعري بعد أن تشظى فيه فكرا عربيا فصيحا بأربع لغات حية،نختار من بينها العربية لنذيل بها بعض صفحات هذا العدد من «العربي» من بعض ما تركه لنا فيها من قصيد.

 

سعدية مفرح