أزمة اللغة العربية السياسة والإعلام والتعليم... أين الحل؟

أزمة اللغة العربية السياسة والإعلام والتعليم... أين الحل؟

لغة السياسة والإعلام ومناهجنا التعليمية هما السبب المباشر لذلك التدهور اللغوي العام الذي نشاهده من حولنا.

أذكر أيام عبدالناصر أن أغلب المسئولين كانوا يرددون بعض لوازمه اللغوية، ويكررون بعض صياغاته (من مثل أهمية «أن نكون في الصورة» أو استخدام «نكسة 1967» بدل «هزيمة 1967»). وكانت هذه اللوازم والصياغات وأمثالها تنتقل إلى دوائر واسعة من الاستخدام اللغوي في قطاعات المجتمع. ولازلت أرى في ذلك دليلاً على أن الأداء اللغوي لرجل السياسة يفرض نفسه على المستمعين إليه، وينتقل إلى الشباب منهم بوجه خاص بما يشبه فعل العدوى أو المحاكاة اللاشعورية للنموذج المحبوب. وبالقدر نفسه، فإن فقر الأداء اللغوي لرجل السياسة الذي يحتل «اليوم» مساحات أكثر اتساعًا من وسائل الإعلام المختلفة يفرض نفسه على المشاهدين والمستمعين في كل مكان، ويسهم في تطبيع ممارسة الخطأ لديهم من غير شعور به، كما يسهم في تعويدهم على هذا الخطأ بوصفه عادة لا يخجل منها صاحبها، ويمضي فيها اللاحق على طريق السابق.

وأتصور أن البعد الإعلامي هو الوجه الآخر من البعد السياسي في علاقتهما بتدهور الأداء اللغوي، فأجهزة الإعلام هي التي تنقل صوت رجل السياسة وتشيع صورته الناطقة بين الناس صباح مساء إلى أن يألفوها، وتغدو بعض وجودهم اليومي المعتاد بكل لوازمها اللغوية. والدور الذي تقوم به أجهزة الإعلام، في هذا المجال وغيره، خطير إلى أبعد حد، خصوصًا في زمن الثورة المذهلة لتكنولوجيا الاتصالات التي نحياها في كوكبنا الذي تحوّل إلى قرية كونية صغيرة بالفعل. وقد حاولت بعض الدول المتقدمة، ولاتزال، مواجهة آثار ما تبثه هذه الأجهزة من مواد أجنبية على لغتها القومية، ففرضت «الدبلجة» حماية لهذه اللغة، واحترامًا لها، وتأكيدًا لحضورها في وعي المشاهدين، وقد لجأت بعض التلفزيونات العربية أخيرًا إلى هذه الطريقة ومضت فيها، وإن كانت لغة الترجمة المستخدمة في عمليات «الدبلجة» لا تخلو من مزالق مضحكة إلى اليوم.

لكن الأمر يجاوز ذلك إلى ما هو أبعد منه خطرًا من زاوية العدوى اللغوية التي تنشرها أجهزة التلفزة العربية، فهناك حرب اللهجات التي دخلتها الفضائيات العربية، ومحاولة كل فضائية إشاعة العامية الخاصة بها وتسييدها على غيرها من العاميات، مستعينة على ذلك بكل التوابل والمغريات التي تجذب المشاهدين، خصوصًا في الأقطار العربية التي تتشدد فيها الرقابة إلى حد كبير، وتمنع هذه التوابل والمغريات في تلفزيوناتها المحلية، ويقترن ذلك بضعف لافت في الأداء اللغوي بالفصحى، سواء في مخارج الحروف ونطق الكلمات المعرّبة وسلامة التراكيب، ويصل الأمر إلى درجة التظرف بالنطق الخاطئ لبعض الأحرف، بل السخرية أحيانًا من النطق السليم أو الاستخدام الفصيح لتراكيب اللغة، كما لو كانت السلامة اللغوية - لا التقعر - سببا من الأسباب التي تبعث على التندر أو التفكه.

ادعاء الوجاهة

وأتصور أن هذا البعد الإعلامي لتدهور الأداء اللغوي العام لا ينفصل عن بعد يرتبط بعوامل ثقافية واجتماعية متداخلة، أما العوامل الاجتماعية فتبدأ علاماتها من محاولة ادعاء الوجاهة الاجتماعية باستخدام الكلمات الأجنبية، جنبًا إلى جنب السخرية من الرموز المتصلة باللغة العربية، وعلى رأسها مدرس اللغة العربية المسكين الذي نال من سخرية الإعلام ما لا يستحقه. وتتصل هذه العوامل بنظرة اجتماعية تمايز بين الطبقات والفئات، وتفصل بين كل طبقة أو فئة وغيرها من الطبقات أو الفئات على أساس علامات بعينها، منها طراز الأزياء ونوعية الملابس، وطرق السلوك وأساليب التعامل، وطريقة التعبير اللغوي ومستوياته الكاشفة. ومن منظور هذه العلامات، تتحدد النظرة الاجتماعية إلى حامل العلامة أو فاعلها، وتبدو اللغة من المنظور نفسه، أساسًا للتمييز، في انتقاء مفرداتها أو تركيب جملها، أو تكوين أساليبها، أو ما ينطقه أفرادها من كلمات أو عبارات أجنبية، تنتسب إلى لغة قوم أكثر تقدمًا وثراء، ويترتب على ذلك ما يشيع من اعتقاد مؤداه أنه كلما ارتفعت المكانة الاجتماعية تزايدت الرغبة في استعراض المقدرة على التكلم بالإنجليزية أو الفرنسية. مع الأسف، يدعم هذه النظرة نظام تعليمي يجعل الطبيب والمهندس مرتبطين بشريحة اجتماعية أعلى، وكليات لا تقبل إلا صفوة الطلاب المتفوقين، بينما تقترن أقسام اللغة القومية في الأذهان بفئات اجتماعية أدنى، ولذلك تقبل طلابها دون قيد أو شرط، وربما أعلنت عن مكافأة لتشجيع الإقبال الضعيف على دخولها.

أذكر أننا ظللنا نتندر طويلاً على شخصية الشيخ درويش في رواية نجيب محفوظ «زفاق المدق» بجلبابه وبنيقته «رباط رقبته» ونظارته الذهبية وقبقابه، فقد التقطنا سخرية نجيب محفوظ من هذه الشخصية التي حاولت ملاحقة التغير دون أن تكون مؤهلة له، فانتهى بها المطاف إلى مقهى المعلم «كرشة» بلا عمل، لا تفعل شيئًا سوى التشدق ببعض الكلمات الإنجليزية التي تعرفها، وتتمسك بها كما لو كانت علامة تميزها على بقية رفاق المقهى، فيبتسم الجالسون في إشفاق لا يخلو من الحنو، شأنهم شأننا نحن القراء الذين أعجبوا بأداء الممثل القدير حسين رياض، هذه الشخصية في الفيلم المأخوذة عن رواية نجيب محفوظ. ولقد تحول الشيخ درويش هذه الأيام من فرد واحد إلى أفراد عديدين، ومن أفندي قديم إلى أفندية معاصرين، وأصحاب محلات وشركات، يؤثرون الكلمة الأجنبية عنوانًا لشركاتهم بعثًا على الثقة المقرونة بالأجنبي المستورد وتميزا عن المحلي المحاط بالريب، شأنهم في ذلك شأن الأفندية الجدد الذين يرددون الكلمات الأجنبية تأكيدًا لتميزهم الاجتماعي أو الثقافي، وإعلانًا عن تميز شرائحهم الاجتماعية التي أصبحت تنشئ مدارس تعليمها الأجنبي الخاصة، وتسعى إلى تأسيس تميزها الثقافي الذي هو الوجه الآخر للتميز الاجتماعي.

ويقودني ذلك إلى العوامل الثقافية التي تتصل بعقدة النقص التي يعانيها الكثيرون من المثقفين شعوريًا، أو لاشعوريًا، إزاء الثقافات الأجنبية، كما تتصل بلوازم هذه العقدة التي تفضي إلى عدم الثقة في القدرات الأدائية للغة القومية، ويترتب على ذلك الميل إلى استخدام التراكيب الأجنبية بدل العربية، وإقحام الكلمات أو العبارات الأجنبية بمناسبة أو غير مناسبة. والبعض بفعل ذلك بوهم عدم وجود مقابلات دقيقة في اللغة العربية لما ينقله عن اللغات الأجنبية، مع أنه لو أجهد نفسه وعرف لغته جيدًا لسهل عليه اكتشاف هذه المقابلات.

والبعض الآخر يفعل ذلك قاصدًا إلى زخرفة للكلام، أو تأكيدًا لسطوة المعرفة بثقافة الآخر المتقدم ولغته، أو بحثًا عن الوجاهة الاجتماعية، وسعيًا وراء التأثير في المستمعين أو إبهارهم.

فقر الإبداع

ويتصل بهذه العوامل فقر الأداء اللغوي عند بعض شباب المبدعين الذين لم يقوموا بواجبهم في إتقان أدواتهم اللغوية، ومعرفة أسرارهم التي تعينهم على التميز في الأداء، وبدل معالجة هذا الفقر، ومحاولة تحسين المعرفة باللغة التي هي الشرط الأول للإبداع، يلجأ بعض هؤلاء الشباب - على سبيل الآلية الدفاعية - إلى التعلل بأهمية التمرد الإبداعي، وتكرار شعارات: كسر رقبة البلاغة، ومن ثم تبرير الأخطاء المعيبة بأنها تجليات الفعل التدميري للذات التي تنقض كل قاعدة، وقد يصل الحال ببعض هؤلاء إلى السخرية من حرص غيرهم على سلامة الأداء اللغوي، وينسى هؤلاء، مع الأسف، الفارق الجوهري بين السلامة اللغوية التي هي الشرط الأول لسلامة التوصيل والبلاغة التي يمكن التمرد على قواعدها، بل كسر رقبتها إذا أصابها الجمود، كما ينسى هؤلاء أن اللغة في حالة الإبداع الأدبي على وجه الخصوص هي المادة الخام التي لا يمكن لأحد أن يبتدع بها وفيها - أو منها - إلا بعد أن يعرف أسرار دقائقها الإيقاعية والتركيبية والدلالية، ويصل في هذه المعرفة إلى الدرجة التي يتمكن معها من إعادة إنشاء هذه اللغة في علاقات جديدة، لا تخرج على قاعدة السلامة اللغوية وإنما على قاعدة العرف والعادة.

وأتصور أن خلل الأداء اللغوي الشائع بين الكتاب الشبان، بل بين بعض الكبار مع الأسف، إنما هو نتيجة مباشرة من نتائج خلل العملية التعليمية وعجزها عن تطوير نفسها بما يرتفع إلى مستوى المشكلة العامة لضعف الأداء اللغوي في المجتمع، فأنظمة تعليمنا لاتزال على ما كانت عليه من تقاليد بالية في مجالات كثيرة، كما سبق أن قلت.

مواجهة شاملة

وأتصور أن مواجهة ظواهر أزمة (أزمات) اللغة العربية - سواء في انتشار الخلل الأدائي بها، وتجذر الازدواج اللغوي وما يترتب عليه، واستمرار غزو المفردات الأجنبية الخطاب اليومي، وتخلف طرق التعليم - لا يمكن أن يتم بمعالجة كل ظاهرة على حدة، فهي ظواهر مترابطة، متفاعلة، تتبادل كل منها التأثر والتأثير مع غيرها، الأمر الذي يفرض ضرورة المواجهة الشاملة لها معًا، في خطوات متجانسة، تتواصل كل منها مع غيرها، مهما اختلف مجالها أو شكلها، تمامًا كما يحدث في الأواني المستطرقة.

والخطوة الأولى هي تعميق الوعي باللغة العربية نفسها، ليس بوصفها لغة جميلة كما يصفها برنامج فاروق شوشة الشهير، أو لغة شاعرة كما وصفها العقاد في كتابه المعروف، وإنما بوصفها لغة الإبداع العربي الذي لايزال باقيًا من العصر الجاهلي، ومستمرًا إلى ما يشاء الله من عصور. وهي - فضلاً عن ذلك - كائن حي قابل للنماء والتطور العفي، أو الهزل والمرض المفضي إلى الموت، وذلك بسبب المتحدثين بها الذين يمكن أن يمضوا بها قدمًا في طريق العافية والنماء والتقدم، أو ينحدروا بها إلى الدرك الأسفل من الضعف الذي يغدو بداية للموت.

والخطوة الأولى، في طريق العافية والنماء التقدم، هي تحديث برامج التعليم تحديثًا جذريًا، لا يتوقف عن التطور والتجدد، واختراع كل الأساليب الممكنة للتقدم الذاتي، ويعني ذلك أنه لابد من عدم التوقف عند مدى بعينه في التحديث الجذري لبرامج التعليم، فتعليم اللغة الفاعل هو العملية التي لا يتوقف فاعلها عن النظر إليها بوصفها عملية قابلة للإضافة في كل وقت، وبحسب تقدم العلم الذي يحيط بها والذي لا يتوقف تطوره عند حد.

ولا حاجة بي إلى القول إن برامج التعليم اللغوي - في لغتنا القومية - لم تصل إلى درجة التقدم اللازمة، وذلك بما يؤكد أن مواجهة الأزمة «الأزمات» لن تنتصر أطرافه في القريب العاجل، فبرامج التعليم لاتزال متخلفة بالقياس إلى برامج التعليم في العالم كله. أعرف مثلا أن تعلم اللغة الإنجليزية له درجات ومستويات، ويمكن أن يتم في شهر لمن لا يعرف اللغة الإنجليزية، ويمكن أن يتم في شهرين أو ثلاثة، وذلك بقدر هائل من المرونة والتقدم والمتابعة المستمرة لروح العصر ومتغيراته، بينما لانزال نحن، إلى اليوم، لا نملك برامج تعليمية حديثة متطورة تستجيب إلى حاجات الناس في تعلّم اللغة العربية، لا على مستوى المتحدثين من الأجانب الذين ينبغي أن يتعلموها أو يحتاجوا إلى تعلمها، ولا على مستوى أبناء الوطن العربي في امتداده وعلى اختلاف بلدانه التي لابد من تغيير برامج التعليم فيها تغييرا جذريًا لا كميًا.

النقطة الثانية هي ضرورة المرونة في قبول المفردات والتراكيب الجديدة، لقد كان القدماء يتحدثون عن «المعرب» والدخيل وغيرهما، وعن الكلمات التي ترد إلى اللغة العربية من لغات أجنبية، وقبول هذا الدخيل - أو المعرب - علامة ثراء تبدأ من القرآن الكريم الذي ضم عددا من المفردات الأجنبية، ووضعها في سياق لغوي، وكان بذلك يؤسس لمبدأ ينبغي أن نمضي عليه إلى الآن، فنتقبل المفردات والتراكيب الأجنبية التي دخلت، والتي فرضت نفسها، ولا أدل على ذلك من أن المعاجم الأجنبية في الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات المتقدمة والحية حقًا، تتغير باستمرار، ومن يراجع أية طبعة من طبعات المعاجم العالمية الشهيرة في اللغة الإنجليزية، مثلاً، كما يحدث في معجم «أكسفورد» أو «وبستر» أو غير ذلك من المعاجم، سوف يجد أن المعاجم يعاد النظر فيها كل فترة زمنية، وتدخل فيها مفردات لم تكن موجودة من قبل، لأن اللغة الإنجليزية قد تقبّلتها وأخذتها واستوعبتها بمرونة وليس بجمود أو رفض عصبي على نحو مطلق.

أما النقطة الثالثة، فتتصل بما قبلها، وتعني التحديث المستمر للمعاجم العربية الحديثة، والحرص على تطويرها بما يجعلها سهلة الاستخدام وميسّرة بالنسبة إلى من يحتاج إليها، مضيفة الجديد إلى القديم، والوافد أو الدخيل إلى الأصيل.

الرابعة - وهي نقطة بالغة الحيوية - وتتصل بتوسيع أفق الترجمة، في مجالاتها المتعددة، والارتقاء بها في كل مجال، وبخاصة في المجالات العلمية الحديثة والمعاصرة التي لا تكف عن التقدم أو التطور. ويمكن للترجمة، في هذا المجال أو ذاك، أن تكون مصدرًا من المصادر الثرية في إغناء اللغة العربية وفي مدّها بتراكيب جديدة هي من نتاج العصر الذي يتغير، والذي لا يتوقف تطوره عند مرحلة بعينها. يؤكد ذلك أننا نعيش في عصر سريع الإيقاع في تغيره، وفي تقدمه العلمي، ولا سبيل إلى اللحاق بهذا العصر إلا بواسطة الترجمة، هذا هو الدرس الذي تعلمناه من المأمون ومن بيت الحكمة، عندما تُرجمت العلوم القديمة للحضارات السابقة على العرب والعلوم الخاصة بالحضارات المعاصرة لهم، فكانت النتيجة اغتناء اللغة العربية وثراءها على نحو ورثناه نحن، ولكننا لم نحافظ على هذا الميراث العظيم، وإنما أضعناه.

استيحاء التراث

واللافت للنظر أن كثيرًا من المفردات التي استخدمها العرب يمكن أن تصلح مرادفًا لكثير من المفردات الجديدة. أذكر أنني كنت أتوقف عند كلمة onomatopoeia، وهي تعني: محاكاة اللفظ - صوتًا - للمعنى، وظللت أعاني في ترجمة هذه الكلمة إلى أن هداني أستاذي حسين نصار - جزاه الله خيرًا - إلى أن أقرأ كتاب «الخصائص» لابن جنّي، فوجدت في هذا الكتاب مصلح «التصاقب» الذي شرحه ابن جنّى بوصفه مقابلاً للكلمة الحديثة onomatopoeia، ولا أريد بهذا المثال سوى أن أقول إننا لم نقرأ تراثنا اللغوي بعد بالقدر الكافي، ولم نقرأ الترجمات القديمة بما يجعلنا نستفيد منها، أو يدفعنا إلى أن نضيف إليها ترجمات جديدة يمكن أن تتسع بآفاق اللغة وتثرى تراكيبها، ولاشك أن هذه المحاولة تزداد غنى بترجمة العلوم الأجنبية الحديثة والمعاصرة إلى اللغة العربية، تمامًا كما فعلت اليابان وكوريا وغيرهما من البلدان التي تنتسب إلى حضارة أقدم من الحضارة العربية وتراثها الإسلامي - ولابأس - في هذا المجال - من إكمال المحاولات التي بدأت في بعض الأقطار العربية، والمضي بها قدمًا إلى الأمام، ليصبح فخرنا العلمي ابن اليوم لا الأمس، ومستعدًا للحركة صوب المستقبل لا الماضي.

الخطوة الثانية هي ضرورة إشاعة الموروث الأدبي، وتأكيد حضوره الإبداعي في الأذهان، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك. وما أكثر التقصير الذي تبديه وسائل الإعلام في مسألة اللغة العربية في إشاعة تذوقها الجميل، كان الأستاذ فاروق شوشة يقدم لسنوات عدة، برنامجه الجميل «لغتنا الجميلة»، وكان الأستاذ طاهر أبو زيد - وهو من روّاد الإذاعة ومؤسسيها - يقدم برامج مماثلة، أين هذه البرامج الآن؟ لقد وصف العقاد اللغة العربية بأنها لغة شاعرة، لكن وسائل الإعلام المصرية والعربية

لا تعترف فيما يبدو بشاعرية هذه اللغة، ولا بجمالها، ولذلك فإنها تتجاهلها عادة في خريطتها الثقافية، ومن هنا تكثر البرامج الثقافية دون أن تحتوي على برامج لغوية خاصة ترتقي بذوق المستمع أو المشاهد لغويا، وتصل به إلى ما يمكن أن يكون بداية جيدة للتذوق اللغوي السليم.

ولا ينفصل عن ذلك، بالطبع، تقديم القصائد القديمة والحديثة والمعاصرة التي يغنيها أبرز المغنين والمغنيات، وذلك في أداء جميل يجبب المستمعين في الفصحى ويجذبهم إليها. ومن ذلك - على سبيل المثال - قصائد شوقي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل التي غناها محمد عبدالوهاب، فضلاً عن رباعيات الخيام التي ترجمها أحمد رامي وغنتها أم كلثوم بالإضافة إلى قصائد شوقي الخالدة (النيل، نهج البردة... وغيرهما)، وحافظ إبراهيم (مصر تتحدث عن نفسها)، إلى نزار قباني وغيره من أصحاب القصائد التي تتعود بها الآذان على تذوق الفصحى وإدراك جمالها، وذلك بما يوازن بينها والعامية، ويحول دون منح الصدارة للعامية وحدها.

الحرص على سلامة اللغة

والخطوة الأخيرة هي التي توازي الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام وتتداخل معه، أعني ضرورة الحرص على السلامة اللغوية في خطاب الإعلاميين والقيادات السياسية والفكرية والثقافية. والغريب أن أغلب المسئولين السياسيين والزعماء لا يحرصون على سلامة اللغة التي ينطقونها، فلغتهم محطّمة مكسّرة لا تعرف السلامة ولا الفصاحة إلا فيما ندر، وهي لغة تشيعها، وتعمل على تطبيعها اللغوي غير المباشر، أجهزة إعلام تجعل منها نموذجًا قابلاً للاحتذاء، سواء بالمعنى اللغوي أو بالمعنى المعنوي، فالشابات والشبان يقلدون الأزياء التي يرونها في أجهزة الإعلام، بالطبع دون أن يدركوا طبيعة اللغة التي يستخدمها من يتحدث في الإعلام. هناك - بالطبع - برامج تعليمية وتثقيفية للمذيعين والمذيعات، لكن هذه البرامج فيما يبدو لا تستطيع أن تحدث تأثيرًا كبيرًا، فنرى إلى الآن مساوئ النطق، بالإضافة إلى ما يمكن أن أسمّيه نوعًا من «التخنيث» - إذا جاز استخدام هذه الكلمة - أو الدلال في استخدام اللغة العربية عند المذيعات اللاتي لا يحسن النطق، ويتخيلن أن الخطأ في النطق هو نوع من الرقة أو الدلال الذي ينبغي أن يحرصن عليه.

وأعتقد أننا لو حرصنا على تنفيذ الخطوات السابقة، بوصفها خطوات مترابطة، متآزرة، لسرنا في الطريق السليم لإصلاح أوضاع اللغة العربية، وبالتأكيد لا يمكن أن نمضي في هذا الطريق بواسطة مؤسة واحدة أو وزارة واحدة، لأن النهوض باللغة العربية في نهاية الأمر مسألة ثقافية عامة،

ولا يمكن أن نصلح أي معضلة ثقافية إلا بتضافر الجهود والوزارات المعنية. لا أعني وزارة التربية والتعليم فقط، رغم جسامة دورها، وإنما أعني وزارة التعليم العالي ووزارة الأوقاف والإعلام والوزارات الأخرى، التي لابد أن تتضافر للارتقاء باللغة العربية، ففي وزارة الأوقاف - مثلاً - ينبغي الارتقاء بلغة وعاظ المساجد الذين يؤثرون في أحيان كثيرة الحديث باللغة العامية لكي يقتربوا من الجماهير الأمية أكثر وأكثر في ظنهم، وفي الإعلام تضيع اللغة العربية، كما تضيع في أماكن أخرى ووزارات غيرهما. وهذا يعني أنه لا فائدة من الحفاظ على اللغة العربية في مستوياتها الراقية، والمضي في تطويرها دون تعاون كل الوزارات والمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي وباللغة على السواء.

أذكر، مثلاً، مظاهرات قام بها طلبة الأزهر، وكانت هذه المظاهرات احتجاجًا على نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر»، التي نشرتها وزارة الثقافة واتُّهمت، بأنها تشجع على الكفر والإلحاد بنشر هذه الرواية، وقد دافعت وزارة الثقافة عن نفسها في ذلك الوقت، وأوضحت حقيقة الأمر، لكن ما كان يشغلني أكثر ويلفت اهتمامي هو اللغة التي كتبت بها البيانات التي وزعها الطلاب الأزهريون، لأنها كانت بالغة الركاكة والغرابة، ولا يليق بطلاب الجامعة الأزهرية الذين ينبغي أن يُحسنوا من شئون الدين وعلومه ما يحسنونه من علوم اللغة وأصولها، ويعني ذلك أن انهيار التعليم اللغوي في الأزهر علامة بالغة الأهمية على انهيار اللغة وتعليمها، وهو مؤشر قوي على ضرورة أن نرتقي، وأن نبدأ فورًا في إصلاح أوضاع اللغة العربية وتحديث برامج تعليمها تحديثًا جذريًا على الفور.

والخطوة الرابعة والأخيرة هي التقليل من بعد المسافة ما بين اللغة المنطوقة والمكتوبة، وهذا أمر شائع وموجود في كل لغات العالم، وهو الازدواج اللغوي الذي تمثله - في لغتنا - الثنائية اللغوية التي تتعارض فيها الفصحى مع العامية، أقصد إلى العامية من حيث هي لغة منطوقة يتحدثها الناس في الشوارع، والفصحى من حيث هي لغة مكتوبة، يقرؤها الخواص دون العوام. هذا الازدواج موجود في كل لغات العالم، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها، ولكن ليست المسافة بين طرفي الازدواج بالغة الاتساع على نحو ما هي موجودة في اللغة العربية، حيث تزداد المسافة اتساعًا عامًا بعد عام، ولا نستطيع أن نواجهها مواجهة جسورة إلا بأن نقترب بكلتا اللغتين (العامية / الفصحى) من الأخرى، كما حاول أن يفعل توفيق الحكيم فيما أسماه اللغة الثالثة، أو يوسف إدريس الذي كتب «العامية المفصحة». وكلتا المحاولتين تؤكد أهمية العمل على تقريب المسافة بين العامية والفصحى، وذلك بتوسيع آفاق التعليم والحرص على وجود لغة فصحى سليمة سلسة وسهلة في كل أجهزة الإعلام العربي، سواء في مجالات الحوار أو التمثيل أو غيرهما.

اللغة تنعى حظها

وأتصور أن الشاعر حافظ إبراهيم كان يعبر عن الخوف على الفصحى عندما كتب قصيدته «اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها» التي نشرها سنة 1903، ويؤكد بها مخاوف تيار بأكمله في الثقافة العربية من «لوثة الإفرنج» التي سرت في الحياة كما سرى لعاب الأفاعي في الماء العذب، ويلفت الانتباه في هذه القصيدة خطابها الدفاعي الذي يرد ضعف اللغة العربية إلى ضعف الناطقين بها، مؤكدًا قدرتها على الاتساع لوصف الآلات الجديدة وتنسيق أسماء المخترعات الحديثة، فهي كالبحر في أحشائه الدرُّ كامن، ينتظر الغواصين الذين يكتشفون فيها ما يصل عظمة الماضي بتطلعات الحاضر، وهو خطاب يكشف عن توتره الذاتي بين الماضي الذي فاخرت لغته أهل الغرب، والحاضر الذي يهدد هذه اللغة بأن يهجرها أبناؤها إلى لغة أخرى، وهو أمر يحمل كل يوم مزلقًا يُدنى اللغة القومية من القبر دون إبطاء، ولا حل لهذا الوضع - فيما يقول حافظ إبراهيم في قصيدته - إلا بالعودة إلى لغة الضاد التي حوت كتاب الله لفظًا وغاية، وما ضاقت عن آي به وعظات، واستخراج كنوزها المطمورة لمواجهة مخاطر الحاضر المحاصر بتحديات الآخر المتقدم.

قد يرفض بعضنا، اليوم، نظرة حافظ إبراهيم التي تبالغ في خوفها على اللغة العربية، وقد نرى في خطاب قصيدته نوعًا من الحديّة التي تمضي إلى أقصى الطرف المحافظ، لكن البديل بالقطع، حتى لأولئك البعض، ليس التغريب المتعمّد للغة، أو المضي في متوالية ولع المغلوب بتقليد الغالب على نحو

ما نرى في هذه الأيام، وعلى نحو ما نرى من الإسراف في استخدام الكلمات الأجنبية ادعاء للعصرية، والاندفاع إلى المسميات الأجنبية استخفافًا باللغة القومية، فذلك البديل نوع من الاتّباع الثقافي الجديد الذي يلازم التبعية السياسية والاقتصادية بأسوأ معانيها، وآثاره الضارة على الهوية لا تقل خطرًا عن آثاره التي تهدد استقلال الوعي وقدرات الإبداع الذاتي للأمة.

 

جابر عصفور