مدن الضوء

مدن الضوء

كل ما عليه أن يترك الملف الكبير أمامه ويخلد للراحة بضعة أيام في منزله الريفي. بهذه الطريقة فكّر البروفيسور «ك»، والحق أن ملف الحالات الغريبة التي ظهرت أخيرًا كان يستحوذ على جلّ تفكيره، هذا الملف الذي يمكن أن يظل مفتوحًا لاستقبال حالات أخرى غريبة. لم يشاهد تلك العوارض بعينيه، في الوقت نفسه أثبتت الفحوصات الدقيقة أن هؤلاء المرضى سليمو البنية أصحاء الأجساد، واستبعد أن يكونوا مرضى وهم، فما من مرض وَهْم مزعوم يداهم عشرات المتعبين والمحبطين بالدرجة ذاتها، فيتفقون على أن يقدموا وصفًا واحدًا له على الرغم من أنهم لم يلتقوا من قبل أو يعرف أحدهم الآخر: رجفة كما يدّعي الجميع، شعور بالعدوانية، هياج وصراخ ثم هدوء وسكينة تامان.

لقد انتبه البروفيسور «ك» إلى أن جميع مرضاه من سكان القرى، ومن المفترض أن تظهر الحالة - إن صح ادّعاء مرضاه - في المدينة المزدحمة، حيث الصخب والضجيج، إذ لم تسجل حالة واحدة لمريض من المدينة إلى الآن. لا يريد أن يستبق الأحداث فيتهم مرضاه بالقلق ومرض الوهم، فيحيلهم إلى زميله وتلميذه الطبيب النفساني الدكتور «ن» الذي اشترك معه في كثير من التجارب العلمية، لذلك فكر بالخلود إلى الراحة قبل أن يخطو مثل هذه الخطوة الجريئة.

إن إقناع مريض واحد من قبل جراح مشهور كالدكتور «ك» باللجوء إلى طبيب نفساني يتطلب روية وجهدا كبيرًا، فغالبية المرضى يفضلون أن يكونوا مصابين بمرض عضوي على أن يتهمهم الطبيب بالهلوسة، كيف إذن وهو يقف أمام أكثر من مريض، كلهم يعانون مرضًا واحدًا، والملف لما يغلق بعد بانتظار حالات أخرى.

لذلك كله صمم أن يترك الملف جانبًا، ويأوي إلى منزله الريفي ليستعيد بعض نشاطه، لعله يجد حلا لهذا اللغز المستعصي الغريب!!

كان بيته الريفي أشبه بالمنتجع المنعزل، منزل ورثه عن أبويه وكثيرًا ما آوى إليه في حالات التعب، أو حين تواجهه مشكلة ما لينعم بالهدوء والراحة، فيستعيد ذكريات طفولته وصباه ويتذكر كل ماضيه، غرفته التي يرقد فيها الآن، النافذة، ليالي الصيف الساحرة، والدته وهي تغطيه في ليالي الخريف وتغلق النافذة بإحكام ثم تسدل الستارة السميكة لكي لا يصاب بالبرد أو تخيفه العواصف والرعد كما تقول أو وهي تزيح في بعض ليالي الصيف الصافية الستارة ليداعب ضوء النجوم والقمر عينيه. كان المنزل يبعد عن مركز القرية مسافة بضعة كيلومترات حيث يبدو هو وبعض البيوتات عند سفح التلة المشرفة على الحقول الواسعة والغابة القريبة أشبه بالعيون التي تطل منها القرية على الفضاء الخارجي الواسع البعيد إلى درجة أنه كثيرًا ما كان يضيق ذرعًا بظلام قريتهم الدامس بخاصة ليالي الشتاء الطويلة، غير أن انزعاجه لم يتحول قط في يوم ما إلى خوف.

كان ذهنه مشغولاً بذكريات الطفولة التي تلاشت قبل أن يغفو أمام الحالة الجديدة الغريبة التي أبت إلا أن تفرض حضورها عليه حيثما حل، فيصبح العالم كله في إطارها مصابًا بالوهم. من الممكن أن يشكو مريض ما من ألم غير حقيقي في يده، وآخر يتصور وجعًا في رجله، وثالث يتألم من مكان مجهول، أما أن يتفق الجميع على حالة واحدة لا يجد لها أساسًا في أي من تحاليله وفحوصاته والأعداد في ازدياد، فربما يعني ذلك أن العالم كله بعد سنوات سوف يصاب بالوهم!

تلك الليلة ذات الجو الخريفي البارد أسدل الستائر الكثيفة، وبدأ جفناه يسترخيان للنوم بعد حال من التفكير والتأمل الطويل.

لكن أمرًا ما حدث له بصورة مفاجئة حالما انطبق جفناه واستسلم لنوم عميق هادئ، فجأة شعر بشيء ما يهزه هزات عنيفة، جلده يتنمل، أنفاسه تضيق تتهدج، وإحساس غريب يدفعه إلى أن يدمر كل ما يعثر عليه في طريقه إنسانًا كان أم أي شيء آخر في هذه اللحظة الغريبة رأى كل المشاهد تثيره وتستفزّه وما عليه إلا أن يلجأ للعنف. كانت أشبه بنوبة عصابية تجتاح جسده، أما عيناه فلم تبصرا شيئًا وسط الظلمة سوى أنه تعثر بالمنضدة الصغيرة جنب سريره فصب عليها جام غضبه وركلها بقسوة وهو يتلمس طريقه نحو الباب حيث الزر الكهربائي.

ثم في أقل من لحظة إذ غمره الضوء المنبثق من المصباح عاد إلى هدوئه السابق، تنفس الصعداء كأن شيئًا لم يكن، إنها الأعراض ذاتها التي يعانيها مرضاه، فهل أصيب بالعدوى منهم، وأية عدوى ولا أحد منهم مصاب بمرض عضويّ، لعله كابوس، جلس على حافة السرير يتأمل، ووضع احتمالات مختلفة تراوحت بين عامل المصادفة التي جعلته

يعاني أعراضًا أصابت مرضاه وحلمًا بغيضًا أو كابوسًا، ورجع به تأمله إلى عصر اليوم وهو يزاول المشي في طريق القرية وطعام العشاء لعله يجد علاقة وسببًا بين كل ما سبق والكابوس البغيض الذي أيقظه من النوم ولم يتحرر منه إلا حين أنار المصباح.

لم يمر وقت طويل على الكابوس الأول، إذ أيقظه من نوم لذيذ حلم آخر عنيف له وقع الكابوس الأول حيث راودته الأعراض الأولى من تهدج وضيق في النفس وعدوانية حادة تجاه أي شيء، وفي المرة الثالثة أيقن أنها ليست المصادفة، وليس ما ينتابه من حالة غريبة يمكن أن يطلق عليه كابوس بغيض، بل هو شبح أو مخلوق من عالم الخفاء يقبض على الجسد ويربض على الأنفاس، ولا يهرب إلا حين يفاجئه الضوء. لايشك أنه الآن أمام حالة غريبة ربما انتقلت إليه من المرضى زوار عيادته، أو لعل العالم بدأ يعود إلى زمن الأساطير والأشباح والقوى الخفية التي تحدث عنها أجدادنا قبل قرون بعيدة.

بعد أن تأكد من سلامة جسده، أدرك أنه أمام حالة غريبة بعيدة عن أن تكون مرضًا عضويًا، لقد وجد صعوبة في إقناع مرضاه أصحاء الجسد ممن عانوا الحالات ذاتها بالرجوع إلى طبيب نفساني، لكنه وجد من اللائق أن يسبقهم ويقر بمرض يسمى الوهم يعانيه وهو في حالة نوم، مرض يربض على صدره ويقبض على أنفاسه فيدفعه إلى العنف. قبل حلول النور يجد أن شيئًا ما ينقصه، هو مخير بين نوبة صرع تشبه الصرع أو مرض الرقص وإدمان على شيء ما، ومادام يعرف نفسه جيدًا، فلا يجد حرجًا في الاتصال بتلميذه السابق وزميله في بعض الأبحاث الدكتور «ن» عالم النفس الشهير.

قد يكون في بعض المواد التي تناولها مخدر ما لكن لم تظهر النتائج في أثناء النوم؟

وقد يكون هناك مرض وراثي مخفيّ بدأ يتحرك الآن!

كل افتراض يحتمل الخطأ والصواب مادمنا لم نصل إلى حل بعد!

أما رأي عالم النفس الشهير الدكتور «ن» وهو تلميذ البروفيسور «ك» وزميله في المستشفى حيث يعمل، فقد ذهب إلى أنها حالة نفسية عابرة ربما يكون مصدرها عقلاً باطنًا يؤطره حلم عميق يتعلق بالطفولة وذكريات بعيدة يختزلها هذا المنزل الريفي القديم، ومع أن رأي الدكتور «ن» بدا مقنعًا لأيّ مريض آخر، إلا أن البروفيسور رسم حوله أكثر من علامة استلهام. لم يعان أعراض مرضاه؟ المرضى كانوا من مختلف الأعمار. هل هي حالة صرع؟ كيف ظهرت الآن خلال زيارته البيت الريفي؟ لم يختف الشبح الذي يقبض على صدري حالما أشعل الضوء؟ أسئلة كثيرة وافتراضات يضعها الدكتور «ك» أمام الطبيب النفساني، أما الدكتور «ن» الذي لم يراوده الشك بعد طول تأمل في أن أستاذه البروفيسور بدأ يعاني بسبب الكبر والعمل المضني من حالات عصبية قد تؤدي به إلى حالة هستيرية، فأخفى علامة امتعاض كادت تلح على وجهه ليتفق الاثنان على زيارة المنزل الريفي، فينعما بالراحة لبضعة أيام هناك.

وكان هدف الدكتور «ن» أن يثبت هواجسه التي راحت تحوم في فكره عن أستاذه البروفيسور ولم يجد الجرأة الكافية ليواجهه بها.

في تلك الليلة بقي البروفيسور «ك» يقظا، احتسى بعض القهوة، وغالب النوم، واكتشف للمرة الأولى أن زميله الدكتور «ن» يشخر عاليًا في أثناء نومه فجأة حدث مثلما توقع، تهدجت أنفاس النائم وارتعش رعشات عدة، تصلب جسده وقفز من نومه محاولاً أن ينتقم من كل شيء يعثر فيه. ظل يهرش جسده أشبه بمدمن مُنع فجأة عنه المخدر، دفعته وسط العتمة حالة للانتقام من زميله البروفيسور الذي وقف عند الزر الكهربائي، وأخذ يتطلع بوجه زميله المرعب:

هكذا كنت البارحة ويبدو أنني لم ألتفت إلى شكوكي.

خلال أقل من لحظات بعد انطلاق النور عاد «ن» إلى وضعه الطبيعي، وهو يتساءل:

ماذا حدث لي؟

بالضبط ما حدث لي مرات عدة.

لم يكن زميله البروفيسور يعاني وفق توقعاته الأولى من تعب نفساني أو خوف الشيخوخة، وكأن البروفيسور الجراح المختص في جراحة الأنسجة قرأ أفكار صديقه، فاقترح عليه أن يبقى في الغرفة ويعود إلى النوم، أما هو فقد خرج كي يرقد في الغرفة المجاورة، وهو مصمم على ألا ينام في عتمة تامة أشعل شمعة واسترخى على الفراش. كان فكره يستعرض الحيوانات التي أخضعها لتجاربه السابقة، الفئران قصيرة العمر تحمي نفسها بالأنفاق والقطط ذات عمر أقل من الإنسان،الأرانب، الحشرات، الخيول تنعم بظلام كاف وهي تأوي إلى اسطبلاتها، أما نحن البشر، فالقضية في هذه التجربة تتعلق بأجيال كاملة وبعمر الإنسان نفسه. تلك الدقائق وهو يرقد في غرفة والديه وعلى فراشهما، أدرك أن الأمر لم يكن مصادفة، بل هو أشبه بالمرض، إنها الحقيقة التي ربطت بين اكتشاف أديسون ووفاته وبيت والديه الريفي البعيد عن مركز القرية وليالي الصيف الرائعة، التي كانت تسمح فيها والدته للقمر والنجوم أن تداعب جبينه من النافذة ثم هبوط الظلام الكثيف وقت الخريف والشتاء، ذلك الوقت من ثلاثينيات القرن الماضي فتح عينيه في هذه القرية ذات البيوت المتناثرة. لم تكن هناك شوارع تحتشد فيها أعمدة الكهرباء، كانت الإنارة تغطي البيوت فقط فيرقد سكانها عند الليل وسط ظلام دامس، وهاهي مدن العالم التي أصبحت منيرة بفضل اكتشاف المصباح تأبى في العام 1391 أن تعيش في ظلام دامس بضع دقائق حدادًا على أديسون المكتشف الكبير على النقيض مما تفعله بيوتات قريته إلى الآن، فأي مفارقة عجيبة جعلته يتساوى مع مرضاه، بل جعلت الجميع يتساوون في المرض ذاته من دون أن يدركوا ذلك.

كان ضوء الشمعة الخافت يوحي إليه ببعض الطمأنينة، ويبدو أن ذكرياته أسلمته إلى نوم عميق قطعه عليه زعيق زميله الدكتور «ن» في الغرفة المجاورة وهو يصرخ إني أكرهك أكرهكم...، فهرول إليه وهو يهتف في أعماقه: لقد وجدتها عثرت عليها، وجدتها بالتأكيد!

حين ضغط على الزر الكهربائي وغمر الغرفة ضوء المصباح، وجد زميله الهائج يعود إلى وضعه السابق بعد أن رآه يقف منه موقف المهاجم وهو يهرش جسده أشبه بمدمن عاودته النوبة، ثم وهو يجلس على حافة السرير - بعد انبثاق الضوء - هادئًا ودودًا أليفًا كأن شلالا من سائل غير مرئي مرّ على جسده وتوغل في أعماقه، فأعاده إلى طبيعته الأولى، فتمعن في وجه البروفيسور كالمستغرب متسائلاً:

غريب أية تسمية تطلقها على هذا الكابوس؟

هز البروفيسور كتفيه قائلاً:

سمه كابوس العتمة أو الشبح أو بالتأكيد الضوء!

فرد وهو يبتسم ابتسامة العاجز:

يسعدني أني اشتركت معك في كل التجارب، أما هذه فلم أزل عاجزًا عن فهمها بالرغم من أني خضعت لها مرتين. أنا متأكد باليقين القاطع أنهاه حالة إدمان من نوع آخر.

لولا أني وقعت تحت هذا التأثير لشككت، بل وأقول لك لكي لا يظل ضميري يؤنبني إني في البداية ظننته إرهاقًا وربما بالغت فظننت خرفًا أو بعض الهوس.

- بإمكان أي أحد أن يشك مثلما شككت في مرضاي وفكرت أن أحيلهم إليك وللمرة الأولى أصارحك أن هناك أكثر من مريض زارني في المشفى، لكني حين ربطت بين بيتنا الريفي وشوارع المدينة حيث نعمل ومن قبل مدن ولاية نيوجرسي هناك حيث توفي أديسون، المدن التي رفضت أن تعيش في ظلام دامس بضع دقائق، وما اعترى مرضاي الذين ظننت أنهم مصابون بالعصاب، وما اعتراني أنا ومن بعدُ أنت كل تلك الظواهر أكدت لي الحقيقة المرة.

- هذا يعني أن العالم يعاني الآن ثقل موجة كهرومغناضوئية قد تودي به إلى الجنون.

- أبدًا لا بل لها علاقة بالكهرباء «تأمل لحظة ثم واصل في حين راح زميله يتطلع إليه باهتمام»:

في المدينة يا عزيزي تنشر المصابيح على الأرصفة وفي كل مكان وحين نأوي إلى النوم في شققنا يبقى بعض من ذلك الضوء الصناعي يتسلل إلينا عبر النوافذ والستائر، أما في المنزل، فالضوء يرافقنا إلى ساعة متأخرة، فذلك يعني أن خلايانا والأنسجة تشحن نفسها من خلال الضوء الخافت فلا نشعر بالاضطراب «وواصل وهو يزدرد ريقه» بحساب الأجيال نحن نمثل الجيل الثالث بعد اختراع الإنارة الصناعية، أما الجيل الرابع والخامس.

هنا بدأت الفكرة تتضح للدكتور «ن» فقاطع أستاذه:

- تقصد أن خلايانا التي اعتادت في ظروف طبيعية منذ الأزل على نسب محددة من الظلام والضوء بدأت بمرور الزمن تعتاد على العيش في الضوء الصناعي تمامًا فتغيرت طبيعة الخلايا والأنسجة في حالة تشبه الإدمان.

- بالتأكيد وأظنك الآن فهمت لِمَ لَمْ نصب بالهيجان ونحن ننام في المدينة لأن الضوء المتسلل إلينا من النوافذ والستائر كاف لمغنطة أنسجتنا وخلايانا، ولم يكن بإمكاني أن أجري التجربة على الفئران، كونها تعيش على الأرض وتأوي إلى الجحور والأنفاق، أما خلايانا نحن، فقد خضعت لتراكم ضوئي زادت نسبته عبر قرن من الزمن عن العتمة التي يفترض أن نعايشها، وهي الظواهر ذاتها التي بدأت تعتري مرضى عيادتي القرويين الذين يعانون العصاب حالما يرقدون في ظلام دامس ولو كنا في مدن الشمال حيث الطول المفرط لليل والنهار خلال فصلي الشتاء والصيف لقلنا إنها الكآبة.

- إذن هل تسمي اكتشافك الجديد إدمان الضوء؟

فنفث البروفيسور الهواء عميقًا وأكد:

- المشكلة ليست في التسمية فقد تكون التسمية صحيحة إلى حد ما.

في طريق العودة استغرقهما صمت طويل. كان كل منهما يشحذ ذهنه لعله يهتدي إلى اكتشاف جديد يعالج به لغز الظلام والنور، راح الدكتور «ن» يبحث في إمكان الاستفادة من طريقة تتراوح بين مجموعة الحبوب المهدئة والمسكنة بصفتها علاجًا مؤقتًا يمكن أن يلغى فيما بعد حين نجد العلاج البديل، وكان ذهن البروفيسور «ك» يتراوح بين اليقظة والنوم. كم يبدو غريبًا هذا العالم في كيانه المتناقض فهو إذ نحتاج إلى حمامات ضوء نغسل فيها نفوسنا من الكآبة أو نجعل أجسادنا أكثر سمرة، في الوقت نفسه تتآكل في خلايانا بقع سوداء مظلمة تمنع عنا العصاب!

معادلة صعبة وعلاجها يبدو أكثر صعوبة في الوقت الحاضر!

خلال الدقائق التالية أدرك، وهو خلف المقود، أننا في حال اليقظة لاندلف في ظلام تام، بل لا نفكر في ذلك قط وإن حدث وأرغمنا أمر ما على معايشة العتمة التامة لدقائق، فإننا نملك الوعي الواضح للتخلص منها قبل أن تلوح علينا بوادر العصاب، أما عند النوم في ظلام دامس، فإن خلايا الجسد والأنسجة تعتمد على مخزونها الكهرومغناضوئي فتستهلكه حتى إذا وصلت إلى نقطة التلاشي بدأت تتحفز فينا بأشكال مختلفة منها العصاب والعدوانية وهرش الجسد، نحن مرضى وأكثرنا لا يحس بمرضه لأنه يعيش جانبًا واحدًا من الحياة هو وجهها المنير فقط.

ومثلما هتف الليلة الماضية وجدتها بصوت واضح يجد نفسه يهتف الآن بصوت خافت العبارة ذاتها، ويلتفت إلى تلميذه وزميله ملاطفًا:

- قد احترف في المستقبل مهنة أبي!

فرد الآخر ممازحًا:

سأترك مهنة الطب وأشتغل نادلاً معك!

كان جادًا في حديثه على الرغم من أن الدكتور «ن» عدها مزحة خفيفة قطعت عليه بعض تأملاته. تلك اللحظة تذكر مهنة والده الذي افتتح مطعمًا كبيرًا في المدينة بعد أن انتقلوا إليها قبل زمن طويل. ماذا لو أعاد التجربة بصيغة أخرى، سوف لن يستنسخها كاملة بل يضيف إليها عامل الظلام، فيجذب المرضى للعلاج وهم يظنون أنفسهم في نزهة فريدة، مطعم جديد بأجوائه التي يخيم عليها ظلام دامس، لا مصابيح ولا شموع، العاملات والعاملون يقدمون للزبائن طعامًا في الظلام والزبائن يأكلون وسط العتمة، ربما الطباخ نفسه يطبخ وسط الظلام، يمكن للزبائن أن يجلسوا ويتحدثوا ليتناولوا

ما يرغبون من دون ضوء. هم أن يفصح بأفكاره لزميله وهواجسه، لكنه سرعان ما استثنى لأن فكرته لم تختمر بعد ثم همس لنفسه:

في البدء سأعالج العالم في إعادته للظلام الذي فقده من جديد دون أن يشعر بذلك! والتفت إلى زميله مرة أخرى:

- هل يمكن أن نعالج المرضى من غير أن يحسوا أننا فعلا نعالجهم!

- من الناحية النظرية يمكن، أما من حيث المفهوم العملي فلم يحدث ذلك إلى الآن.

ابتسم وهو يلف المقود مع منعطف الطريق وكانت السيارة تقترب من المدينة التي استعدت شأنها كل مساء مع ميلان الشمس نحو الغروب لاستقبال ليلة جديدة مفعمة بمصابيح ساطعة النور!.

 

قصي الشيخ عسكر