قصص على الهواء صلاح الدين بوجاه

قصص على الهواء

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-----------------------------

1 - رائحة شخص نائم، سامية العطوط. إيقاع القصة سريع، وجملها قصيرة متلاحقة، وهي تتضمن دقة الوصف، وتستحضر مشاهد سريالية دالة، أحداثها المتلاحقة تنطلق من رموز الصندوق كي تعود إليها، وتمتاز بطرافة ثابتة نابعة من الإحساس بالموت واستشراف النهاية: «... ألا تدركين أنني مت، كم أنت غبية!!!».

*****

2 - حالة: عبد العزيز بركة سالم. حالة من القمع والإحساس بوعي القمع يقدمها الكاتب من خلال لغة سليمة صافية، حيث تتداخل رموز الوطن، والإحساس بالقهر، حتى تؤدي إلى سلب الإرادة والتنكيل بالذات البشرية، غير المتوقعة منسجمة مع إيقاعها غير الرتيب: «والآن.. لا.. لا تفعل يا ابن الكلب!!!».

*****

3 - فيزياء اللون، إسماعيل ميرعني. بالرغم من وجود بعض الأخطاء والهنات اللغوية، فإننا إزاء قصة تقوم على استعراض الإشكاليات الحافة بالإبداع والفن، والخوض في خلفياتها النفسية والاجتماعية، معتمدة الإيحاء والجمع بين المجرد والمحسوس. أسلوبها جميل... بل ساحر أحيانًا، ملائم لمضامينها، دال على خفاياها.

*****

4 - جلنار، زكرياء أبو مارية. تتسم القصة بالقدرة على البحث التشكيلي - تقديمًا وتأخيرًا - أسلوبها رائق ولغتها سليمة غالبًا، تعالج موضوع «القتل العشوائي، بذكاء شديد، حتى أنها لا تلمّح إليه إلا مرة واحدة، القصة مكثفة جدًا، غنية بالمعاني والدلالات، الإيحاء فيها أكثر حضورًا من الكشف.

*****

5 - حديقة مثمرة: عبدالحميد بسيوني. قصة طريفة قائمة على حركتين: - سرقة ثمار الحديقة. - موت الحارس. وهما حركتان متناسبتان عكسيًا، متكفلتان بدلالات القصة وإيحاءاتها، تكشفان قدرة الكاتب على تقديم الأحداث وإتمام التناقض في العلاقة بين الحارس والأطفال.

-----------------------------------

رائحةُ شخصٍ نائم
سامية العطعوط (الأردن)

هذا أبي، قال، ووضع الصندوق الجوزي أمامي.

كان صندوقا صغير الحجم. حوافّه ملساء مستديرة وغطاؤه منقوش بزخارف محفورة عليه بإتقان. لم أعرف ماذا أقول له. تناولت الصندوق بيديّ، وهبطت على الكنبة.

ظلّ واقفا ينظر إليّ من خلف النظارات، نظرات جامدة. لا... لم تكن نظراته جافة تماما، ولكنها كانت توحي بأنه ينتظر أيّ ردّ فعل، ببرود.

خرج كما دخل.

لم أقدم له شيئا، رغم أنه قدم لي صندوق الشخص الذي أحببته.

هل أفتح الصندوق وأرى محتوياته- هل أتركه هنا في الصالة، أم أضعه في غرفة نومي--! ما الذي يريدني أن أفعله به- لماذا لم يقل-

الضباب يلّف المكان.

أرواح تسبح هنا وهناك.

أسير دون أن أرى طريقي.

أصطدم بجسدٍ ما، على الأرض. أحدّق به. أرى امرأة غجرية، تجلس على الأرض وتضع الودع في حجرها.

احذري. قالت ورمتْ الودع. تسمّرتُ في مكاني.

قالت: يحيي العظام وهي رميم.

ولم تنظر إليّ، بل التحفتْ بشالٍ تضعه على كتفيها. غطتْ رأسها به، وانهمكت بإشعال بعض الفحم أمامها. التفتُ حولي، علّها تتحدث مع شخص ما غيري. لم أر سوى الضباب يطغى على ظلمة الليل، بلونه الحليبي الخانق.

تركتها وتابعت سيري إلى البيت.

الصندوق أمامي على التواليت في غرفة النوم. اقتربتُ منه. لمستُ حوافه بأصابعي. مرّرْتها عليها. الحوافّ ملساء ناعمة، ورائحة الصندوق تفوح بالمسك والطيب. استجمعتُ شجاعتي ورفعت الغطاء. رأيت كيسا صغيرا من المخمل الخمري داخل الصندوق.

هذه ثروتي، حدثتُ نفسي. فككتُ الرباط وفتحت الكيس. فاحتْ منه رائحة غريبة، تشبه رائحة شخص نائم..!! نظرتُ في الكيس فرأيته. كان ممدداّ فيه بانفلاش. أعضاؤه مختلطة بعضها ببعض. لم أستطع أن أميز اليدين عن العينين. لم أميز لون البشرة من لون الدم. الشعر المصبوغ من الشعر الأشيب. كانت الأعضاء مختلطة ببعضها البعض بطريقة سوريالية.

مددْتُ كفي. بالكاد أدخلتها من فتحة الكيس. لمسته بكامله. حبيبات ناعمة من التراب.

من التراب وإلى التراب.!!

***

أفقتُ من الحلم منزعجة.

نظرتُ إلى الصندوق، كان في مكانه، فحمدت الله.

حلمت أنه جاء وكان على عجلة من أمره. طلب مني أن أرتدي فستاني الجديد، لنسهر في مطعم ما. وحين ارتديتُ الفستان وجئت إليه، أمشي على مهل. صرخ بي: ألا تدركين أني متّ. كم أنت غبية!!!

***

أفقتُ من الحلم منزعجة.

نظرتُ إلى الصندوق، كان في مكانه.

نظرت إلى المرآة، رأيتني أرتدي الفستان الجديد، وقميص النوم ملقى على الأرض بجانب السرير..!!!

عرفت ماذا سأفعل.

سوف أنثر جسده في قوّار (أصّ) ورد، وأزرع في التراب نبتة. سوف أضعه على حافة النافذة في غرفة نومي، لأعتني به وأسقيه بالتراب.

***

شعرتُ أن شخصا ما يراقبني. أحسسْت بالخوف. كنت أبدّل ملابسي أمام الخزانة، ونظرات قوية مصوبة إلى ظهري. أشعر بها تلسعني. التفتّ للخلف بسرعة، كانت النبتة تحدّق إليّ بتمعن..ّّ

هذا جنون. قلت في نفسي وخرجتُ من البيت.!!

***

صحوتُ في الصباح التالي على صوت عصافير تغرّد. دخلتُ إلى الحمام، واغتسلت.

أحضرتُ مرشّ النباتات من المطبخ وذهبت للنبتة أسقيها. حين رأيتها صرختُ. كانت يدٌ ما صغيرة تنمو على أحد الأغصان. كانت تشبه يده إلى حد بعيد. وعلى الغصن الأصغر، كان ما يشبه الرأس ينمو عليها. لم أتمالك نفسي، وأغمى علي.

حين أفقت، كان القوّار (الأصّ) يفتح النافذة بيديه، ليسمح لأشعة الشمس بالدخول.

ومنذ ذلك اليوم، لم أستطع مغادرة البيت. لم أغادر غرفتي. في كل يوم، كان ينبت عضو جديد، وفي كل يوم كنت أراه يشبه النبتة، أو أن النبتة تشبهه. في كل يوم كان ينمو ويتكامل عضوا عضوا، العينان، الشفتان، القلب واللسان. وفي كل يوم كنت أهرم إلى جواره وأتساقط عضوا عضوا...!

حالة
عبد العزيز بركة ساكن (السودان)

افتحْ فمك، أغلقه مرة أخرى، أغلقه جيدا، ابسط كفك أمامك، أجل، هكذا.

ضعها على صدرك، ردّد النشيد الوطني:

نحن جند الله جند الوطن

إن دعا داعي الفداء لن نخنْ (1)

الآن أجلس علي الكرسي، أفتح الزجاجة، اشرب، لا تدع شيئا , أقذف بالزجاجة على الحائط، لا تنظر للشظايا هكذا، عيناك أكثر احمرارا، جسدك خفيف، أنهض، أشعل الكاسيت، أرقص بعنف، ردد المقاطع هكذا، تحرر من كل شيء، تحرر من ملابسك الآن، أقذفها بعيدا عني، شكلك قبيح، ولكنه أكثر نقاء!

أطفىء الإضاءة، هل تراني - هذا جيد. استلق على الأرض، أنت الآن تعانق ظلك، انهض استلق على السرير، اسحب الغطاء فوقك، أدخل رأسك تحت الغطاء، أغمض عينيك، لا تنم، لن تحتاج أن تحلم، سأغلق جهاز الكاسيت، هل تسمع صوت المطر في الخارج - الريح - إذن لم تسكر -

لا تسبّني وإلاّ قتلتك، ارفع الغطاء، انهض، ارتدِ ملابسك، انهض، قف برجلٍ واحدة، أنزلها، أمسك رأسك بيديك، اقترب من الجدار، أضرب رأسك عليه، هيا افعل، أشد، حاذر أن تحطمه، هذا يكفي.

اخرج وجهك من النافذة، لا تنشغل بالنسمة العابرة، ولا بالأرض اللينة، ادخل أصبعك في حلقك، ادخله أكثر، تقيأ، تقيأ بقوة، افرغ كل شيء، ، هاك سيجارة، انتظر، سأشعلها لك، لا تبتلع دخانها، ماذا - جائع - اجلس على الأرض سآتي لك بصحن من الطعام الجيد، لماذا تأكل بهذه الشراهة - غبي، ألم ترَ أن الصحن فارغ ! اذهب اغسل يديك كما يجب، امسحهما على الحائط، كفى، ستدميهما، لماذا تنظر لي هكذا - هل تكرهني - أنا أحبك لذا أفعل كل ذلك من أجلك، لماذا ترتجف هكذا، بردان - تعال قف أمام المرآة، تحسس وجهك، كم وجهًا لك - اثنان، حسنا، صرت معتوها، الآن يحق لك أن تفعل ما تشاء!

لماذا تحطم المرآة بيديك، توقف لقد لطخت يديك بالدم، آه، إني أرى هذا البريق في عينيك، هل تبتسم، كم أنت شاحب، لماذا تأخذ تلك الشظية - هل ستقول لي - أرجوك لا تغضب , إلى أين تذهب - إن الوقت متأخر جدا ولايجدر بك أن تزور أحدا الآن ! أرجوك عد أنا أعتذر، عد الي الداخل أرجوك، هل تبصق في وجهي، حسنا، لا يهم، خذ منديلي، جرحك لا يزال ينزف بغزارة، لا تدفعني هكذا، هل أنت مريض - حسنا اهدأ سأجلب لك كوب ماء بارد، انتظر لا تتحرك لماذا تمشي ورائي، علمت هذا من وقع خطواتك خلفي حسنا، سألتفت إليك الآن، ولا يهم أن أجلب لك كوب ماء بارد، لماذا تنظر لي هكذا، أبعد هذه الشظية عني، دع يدي، قبضتك تؤلمني، لا، لن أصرخ ولكني سأدفعك برفق إلى الخلف، إذن لن تتركني - أنا صديقك القديم جدا، هل تذكر ذلك - جسدك محموم، أنفاسك حارة، وهذا الزبد ما ضرورته الآن، لا تخف سأستدعى الطبيب، ربما بعد قليل.. بعد أن تترك يدي، سأضطر الآن أن أدفعك بعنف، وأرجو أن تعذرني إن فعلت ذلك، من الواضح لك أني فعلا بدأت أفقد أعصابي، ألا ترى ذلك! إذن سأخبرك بأني سأعد من واحد إلى خمسة إن لم تترك يدي سا.

-لا، لا تفعل ذلك، أنا صديقك القديم جدا، وأستطيع أن أؤكد لك بأنك لن تجد من يقدم لك كوب ماء بارد، أو يسمح لك بالغناء وأنت عارٍ،

.. والآن......، لا، لا تفعل ذلك يا ابن.. !!

(1) مقطع من النشيد الوطني السوداني.

فيزياء اللون
إسماعيل ميرغني ( السودان)

يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة : ترى، تحس وتقرأ في نفس لحظة اللمس، تغوص قدماه في مياه النهر الدافئة، يسمع أنين الرمل تحتها، كان يستهدف الأصداف الكبيرة ذات النهايات التي تشبه منقار النسر، هي كثيرة تقبع في المياه الضحلة، ولكن العثور عليها يحتاج إلى وقت وخبرة، هذا هو يومه الأخير في كلية التربية وقد ودع تلاميذه بالأمس بعد أن قاموا بانجاز جدارية تعليمية ضخمة تطل على نهر النيل، تجلت موهبته في رسم حركة الحشرات، السحالي والطيور الشرسة الجارحة، لذا خلده تلاميذه في الجدارية برسم ضب نزق يتسلق الحائط برجليه الخلفيتين وذيله، يقبض بقائمتيه الأماميتين على فرشاة تلوين.

يقلب صدفة على بطنها، يضعها مع الأخريات برفق في الصندوق الخشبي الصغير الذي أعده لهذا الغرض، الآن عليه الحصول علي أكبر عدد ممكن من الصدفات الصغيرات، يحتاجها لصنع أرياش الأجنحة والزغب الناعم على العنق، القوائم والمخالب، يريد أن يفعل شيئا كله من النهر ولا علاقة له بالنهر، يريد أن يقول إن النهر هو سيد الحياة. كان جائعا مرهقا سعيدا ومستثارا بصيده النهري، لبس هدوم العمل واشتغل في الصندوق، يسكن وحده في منزل يتكون من حجرتين ومرحاض، يستخدم الحجرة الكبيرة كمحترف له، حَلّ المساء تدريجيا، أضاء الكشافتين الكبيرتين اللتين توفران إضاءة أفقية تساعده في دقة الرؤية وتحديد اللون، كان يعرف أن اللون ليس في السطح أو الكتلة ولكنه في العين ذاتها وتأخذه العين من الضوء لذا كان يحتاج إلى ضوء كثيف مباشر، عندما دقت ساعته الحائطية معلنة الواحدة صباحا، كان النسر الأول قد اكتمل.

النسر الشرس الذي فرغ من صنعه للتو، حرك رأسه في اتجاه مصدر الضوء الأزرق كلية، مما جعل الصدفات الرقيقات البهيات التي صنع منهن الصدر وزغب الرقبة تصدر صريرا باهتا وما يشبه صوت تصدع صدفة كبيرة، قفز مرعوبا في الهواء ثم ضحك علي نفسه لمجرد التفكير في أنه خاف من شيء ما، حملق في النسر الذي بدا الآن ساكنا صامتا وبريئا جدا، وبرقت في عينيه الحمراوين بعض الأدمع البُنِيّةِ، يعرف أن كل ذلك ليس سوى مداعبة اعتاد عليها من الضوء، الكتلة والفراغ من جهة وعينه ومزاجه النفسي من جهة أخرى، إلا أن إحساسه بالخوف كان حقيقيا وأصيلا، أحس بألم الوحدة، أحس بأنه أرهق نفسه أكثر مما يجب وعليه أن يذهب بعيدا وبأسرع ما يمكن من هنا.

عندما عاد إلي البيت في الفجر وجد كل شيء كما هو، النسر لايزال على قاعدته، ينتظر في سكون، الأنوار مطفأة حيث إنّ الكهرباء قد نفدت، أخذ يتمعن نسره، لقد برع في صنعه، وهو يعرف أعماله جيدا، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة، هذا النسر عمل متقن، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال، ابتسم، بدأ في صناعة آخر... وآخر وآخر... وآخر.. بعد أسبوعين من العمل الشاق المتواصل والسهر كان في مرسمه الصغير عشرة نسور عملاقة، جميلة شرسة وكاسرة.

عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقا كالعادة، فاستخدمت مفتاحها الخاص، سمعت جلبة غير معتادة في داخل المرسم، بل ضجيجا، تعرف عن حبيبها الهدوء، لكنه أيضا قد يمارس الفوضى حيث إنه كثيرا ما يقوم بتحطيم أعماله الفنية بعنف وهمجية إذا لم يرض عنها وأحيانا يستخدم في ذلك فأسا ورثها عن جده، قامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة. لم يمض وقت طويل على حضور الجيران عندما علا صراخها، بل إن البعض قد شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتحلق في السماء فاردة أجنحتها الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد مبللا بالدم الطازج.

جلنار
زكرياء أبو مارية (المغرب)

عنونتها «جلنار»، ولكنني لم أحظ بدعم ليكون التوزيع والحقيقة واسعين.

- جلنار-!! تساءل واحد من أعضاء لجنة القراءة، فتساءلت بدوري بنفس عدد علامات التعجب التي أحسست أنه منحها لسؤاله:

- ألا تجدون أنها أزهار معبرة!!

جلنار كانت أصلا عالما من الحب، اختصره شاعر في قصيدة، واختصني به دون غيري.

تلألأت للحظات نجوما رصعت السماوات ما وراء غيومي، لترسم في آفاق إبحاري إشارة نجاتي، وتَهدي سفينتي بعد ضلال، وبعد أن كنت أخطو بتيهي في درب بحثي عن الحب على ضوء شمس في سماء، صرت أخطو به على ضوء قمر في قلبي، حتى ما لبثت أن اهتديت، بعد أن عرفت الحب الصادق في قصيدته.

شككني قليلا في صدقها كونها كانت أنبل من أن يستحق مواساتها أقل من وطن جريح، وشككني في شكي كونه ارتجلها في التّوّ فور أن التقاني صدفة في مقهانا القديم بعد طول خصام، تجلى أمامي بها فجأة بكبرٍ بدوت مقارنة معه صغيرة وكأنني بغير سن، وكان بكل الأعمار، وتستطيع أن تختار لك واحدا مما تشاء من أعماره تلك ليحتضنك به، أما أنا فاختصني بكل أعماره عندما أخذني يومها على غير توقعي في حضنه، مشكلا حاجزا منيعا ومتينا بيني وبين شكوكي وحيرتي، وهو يفهم، على عكسي، تلك القسوة والترصد في الصوت الذي دوى خلفي، مترددا ما بين تكبيرتين، ليغدو نصيبي من كل قصيدته أحمرها القاني وحده، لون الدم، والألم، ولون آخر لحظات الغروب الدافئ والحزين.

قتلوا شاعرا، أما أنا فاتخذت قراري بأن أتصدى أنا الأخرى بقلم لصمتي، مقررة أن أطرح ألمي وحزني أمام العدالة لتقتص له وتنصفني، إلا أن المحامي الذي أوكلت إليه بهذا الأمر أخبرني أن هذا النوع من الدعاوى مرفوض شكلا وموضوعا، ووضح لي بالتحليل القانوني الدقيق أن ما كتبته أضحى أقرب إلى حكاية يومية، لا يمكن الاقتصاص لأي من المظلومين فيها.

سألته مذعنة: والعمل؟ أجابني: التاريخ وحده أعدل قاض يمكن أن ينظر في أمر شكايتك. قلت له لم أفهم، فقال لي: انشريها في شكل رواية.

فقدي علمني أن أشك وأتشاءم، وأن تصنع الكلمة هذا الاسم اللاهب لتطلقه على أزهار الرمان بالذات، قبل أن تصنع الحرب الرمانة المتفجرة صار يعني في نظري احتمال أن تكون النية الملغومة مبيتة.

سئلت من جديد عن جدوى أن تكون معبرة وليس لها وجود فعلي داخل الرواية:

- لم ترد جلنار، قيل لي، ولو مرة واحدة في نصك لكي يؤخذ القارئ بالألفة أيضا.

وأجبت:

- لو أن الخسائر في التفجير الإرهابي لم تكن بشرية، أو أنها على الأقل لم تُودِ بالشاعر أيضا، لتتيح أمامي فرصة أن أحمل في حشاي نطفته، ثم قدر الله أن يستمر حملي لشهور أخرى، وأن يكون المولود أنثى، لكنت سميتها جلنار.

- جلنار!! قال رئيس اللجنة متأملا، ألا تظنين أن هذا العنوان غامض، ولا يفتح الرواية إذا ما حاولنا التقاطه من داخل العلاقة التي تعوّد القارئ أن تربط بين النصوص وعناوينها-

- هو لا يفتح الرواية، قلت له، لأنه ليس في الحقيقة عنوانا، وإنما قصيدة قصيرة جدا استمدت غموضها من هذا القصر نفسه، فكان لا بد لها من عنوان مناسب كناب، فيه من الطول والقوة بالقدر الذي يمنحه الشراسة الكافية لفتحها، ولذلك جاءت الرواية عنوانا لهذه القصيدة.

واعتقدت أن فلسفتي أقنعته، فإذا به يقول لي:

- شفتِ-!! ألم أقل لك بأن العنوان ليس أليفا-

حديقة مثمرة
عبد الحميد بسيونى (مصر)

فى زمن بعيد كان هناك وجه أسمر فوق جسد هزيل لعمنا خليل حارس حديقة العمدة الذى لا يسمح لأحد بدخولها، فنأتى فى أوقات نعرفها وندرسها ثم نتسلل ونتخطى أسوار الأسلاك الشائكة ونلتقط الثمار الغضة حتى إذا أفاق من غفوته أو أزعجته أصوات رآنا فركض خلفنا يزعم أن يهلكنا، وفى كل مرة يقع الولد السمين بين يديه فيضرب أردافه، وينهره، ويطلقه، وفى النهاية نغنى لعمنا خليل أغنيات الورد والود.

فى الصيف الطويل أوقات تمر، وتختفى الدموع الساخنة الساذجة، ونركض وراء كلب على حافة الطريق، وصغير منا يلتقط حجرا يرميه، وينبح الكلب وننبح له، وصغيرة تلهو مع رفاق وحكايات العريس وضحكات وأسئلة تثور وتدور ولا تنتهى، وتنتهى أوقاتنا عند باب الحديقة.

دائما ما كنا نتخاصم عند باب الحديقة، فى الخصام يغدو شأن الصغار عبثا يمنع الخروج منه، وفى الصلح رفض ومنح، تقدم وتراجع، وتلاصق وابتعاد، ودائما ما تمتد يد عم خليل عندما يرانا بعيدا عن الحديقة يجمعنا صلحا على أن نبتعد عن الحديقة وبابها، ويلقى الأمنيات فى أسماعنا بأن ينعم علينا بثمارها الناضجة ذات يوم، لا ينسى الأطفال إلا الكذب ولا يفقدون الأمل، وفى كل مرة نغدو إليه يمنينا بالقريب العاجل.

تغرب الشمس، ونلعب بالطوب وعيدان الحطب، ونمتطى صهوات جياد العصى المربوطة بالقماش نركب ونركض ونقفز ونصهل، ونجدل كمينا لطفلة لطيفة حيية ذات جدائل ممتدة، وتنفتح نوافذ الحب لأشكال جميلة فى وجوه رائقة بعيون تتحفز، ويعلو صياحنا وتصفيقنا وراء نقوش زاهية اختفت معالمها على ثوب قديم، يجمعنا فرط محبة، وحبات طماطم، وخيارة مكتنزة، ولعبة الاستخفاء ولقيمات خبز جاف، ونثقب صمت الليل، نلهو فى الظلام، نحمل ثمار وأزهار الحديقة فى سكون، يرانا عمنا خليل، ويقاوم شقاوتنا يسعى خلفنا، وتغمر أشعة القمر لعب ومرح الصغار، نفتش ونحصى، ونتفرق، ونتجمع ونتوقف.

ذات يوم مات عمنا خليل، تجمعنا وسرنا خلف نعشه تسربلنا عبرات محرقة، بعد الدفن وقفنا عند قبره طويلا، وفي المساء ذهبنا للعزاء تسبقنا آلام يتم، وقفنا أمام البيت المتهالك تأهبا للدخول، وجلسنا فوق أريكة نتذكر العزيز الفقيد.

في لحظة ما طردنا رجل قام يصرخ فينا بعنف وقسوة، سرنا بعيدا ينهش فينا صوت التوجع، وتأكلنا آهات ونوافذ مغلقة وخوف، وطرق مغلقة وساحات حزينة تنزف الألم.

نضرب على غير هدى فى الخلاء، ويندس فينا الخواء، وتنسل منا أشياء وتتسرب إلى جوفنا أشياء.

مضينا فى الطريق نولى وجهنا صوب الحديقة نسير بخطى متثاقلة تسيرنا قوة خفية دافعة إلى الحديقة، تسللنا نتخطى الأسوار، بجوار الأشجار لا نركض ولا يلتقط أحدنا حجرا، ولانتخاصم، ونمسح بأيدينا فوق ثمار وزهور الحديقة تواسينا ونواسيها، نسكب قطرات من الوجدان فوق أوراق الشجر، نخطو ونروح ونجىء كما لو كانت أشجار الحديقة تختفى وتندثر زهورها، ونبكى، ويزيدنا البكاء نحيبا وبكاء.


صلاح الدين بوجاه