ليس وليد العصر ولا يخص الإسلام: إرهابيون عبر التاريخ

ليس وليد العصر ولا يخص الإسلام: إرهابيون عبر التاريخ

حديث الشهر

كان العالم قد أفلت من عقاله. حروب أهلية دامية، وأزمات اقتصادية وعمليات إرهابية هدفها المعلن التغيير وباطنها الترويع والمتهم فيها الإسلام دون وجه حق.

يبدو أن البعض في الغرب يحاول أن يختزل الإسلام ليصبح عنواناً واحداً هو " الإرهاب "، ويختزل كل رموزه ليصبح رمزاً واحداً هو " بن لادن " وبذا تكال التهم جزافاً . ويصبح المسلمون جميعاً متهمين ويبقى علينا أن ندافع عن الوجه الحضاري للإسلام لا في مواجهة الغرب فقط، ولكن في مواجهة كل المتعصبين ذوي الرأي الواحد الذين يريدون تغيير العالم قسراً وحسب رؤيتهم المغلقة.

ولكن المشكلة الملحة التي تبرز الآن في وجوهنا جميعا هي محاولة ربط أي نشاط أرهابي في أي مكان في العالم بالإسلام كعقيدة والمسلمين كبشر. ولست هنا أدافع عن الإسلام فله رب يحميه، وقد حماه على مر العصور. وما أنا إلا مسلم عادي يأكل القديد ويؤدي الفروض ويؤمن في قرارة نفسه بأنه لا إرهاب في الدين.

وفي الحق أن ربط الإسلام بالإرهاب فيه إجحاف كبير بالملايين من بسطاء المسلمين الذين يعانون من شظف العيش وافتقاد العدل. وفيه افتراء على تاريخ طويل للمسلمين، امتد على مدى مئات السنين من التسامح والحض على المعروف.

والمسألة لم تعد تخص بن لادن برغم أنه يتصدر واجهة الاتهامات الآن ولا يخص مجموعات ( إرهابية) تفرخ هنا لتفرغ شحنتها الغاضبة هناك، ولكنها تخص عالما بأكمله أصبح فيه العنف أكثر عنفا، ولم يعد يقتصر فيه الإرهاب على هوج الأفراد ولكن هناك العديد من الدول التي نسيت قوانينها ومارست الإرهاب بدرجة أعلى من العنف والهوج.

وهكذا في غيبة أي رادع أصبحت الدول والجماعات المناوئة لها تمارس العنف والعنف المضاد بطريقة تصاعدية لا يبدو أنها سوف تنتهي.

المشكلة هنا، والتي تعنيني في المقام الأول كعربي ومسلم، هي اتهام الإسلام والمجتمعات الإسلامية قاطبة بأنها وراء أي تفجير إرهابي يحدث في العالم. وقد عودنا درس التاريخ أن أي جماعة سرية لا تمثل سوى مصالحها الخاصة. وهي في سعيها لتحقيق هذه المصالح تغلف مبادئها بالعديد من الأهداف السامية والبراقة ، ولكن يبقى تحت غلاف هذا البريق برودة المصالح وحدتها التي لا تقبل مساومة فيمن يخالفها في الرأي أو بالأدق فيما يعارضها في المصالح.

وأجزم أن العديد من الجماعات ( الإسلامية ) التي تمارس دورها في العديد من البلاد العربية والأجنبية من قتل وتفجير وإرهاب هي أبعد ما تكون عن السعي إلى هدف إسلامي محدد . لأن ما تقوم به يخالف روح الإسلام وتعاليمه. فالإسلام يحثنا أن " حكم الوسيلة من حكم الغاية " فإن كانت الغاية نبيلة وجب أن تكون الوسيلة نبيلة.

وبشكل عام فإن كل تجمعات تتخذ ( السرية ) وسيلة لها، تحتوي بالضرورة على عناصر من التناقض مع الوضع القائم في المجتمع . والعديد من هذه التجمعات السرية يحمل أفكاراً انعزالية تجعلها تقيم لنفسها طقوساً وأحكاماً غامضة تزيد من عزلتها عن المجتمع الذي يحيط بها، وتنظر إليه بالتالي نظرة عدائية.

وقد قادني التفكير في أسلوب هذه الجماعات إلى أن أحاول العودة إلى جذور مثل هذه التجمعات ( السرية) الإرهابية عبر التاريخ . ومن خلال ذلك نكتشف أن جذور العمل السري ليست وقفا على المجتمع الإسلامي كما يشاع في أدبيات السياسة الحالية التي تحاول أن تخلق ( فوضى ) جماعية ضد الإسلام والمسلمين ولا يخص المجتمعات العربية التي تعاني من الإحباط وافتقاد العدل. ولعل كتاب " الجمعيات السرية بين الأمس واليوم " من تأليف أرتون دارول ويقدم العديد من الإجابات عن الأسئلة التي تطرح حول دور العمل السري وتطوره عبر التاريخ، وهو يعود في جذوره إلى مجتمعات وجدت قبل ظهور الحضارات التي نعرفها.

صعود شيخ الجبل

في كتابه " الغصن الذهبي " يؤكد جميس فايزر أن الطقوس التي تمارسها بعض الجمعيات السرية في العالم الآن مع الأعضاء الذين ينضمون إليها، لها جذورها وسط القبائل البدائية. فقد صممت هذه الطقوس لتكون على شكل نظام يشرف على تلقين الأطفال والمراهقين مبادئ العقيدة التي تؤمن بها القبيلة ، وكانت عادة ما تأخذ شكل التأديب البدني القاسي كالصوم الطويل والمنع من النوم والتعذيب أحياناً. وكان الهدف من ذلك هو إخضاع المتدرب والقضاء على مقاومته لتشرب هذه الأفكار، والعمل بها.

والملاحظ أن هذه الطقوس، بعضها كان يتم بدنياً والآخر فكريا والهدف منها إخضاع العضو لتنفيذ كل ما تطلبه الجماعة منه حتى وإن بدا غير منطقي ومتعارضا مع رغبته الشخصية الأمر الذي يعرف حديثاً بـ"غسل الدماغ " والجماعة السرية والقبيلة من قبلها كانت تهدف من وراء ذلك إلى الاستفادة من نزوع الفرد لإطاعة الأوامر التي يتم تكرارها بقصد الحصول على جوائز بحيث تكون الأوامر والجوائز مرتبطة معا ومغروسة في الذهن، وكذلك في التجربة الاجتماعية المشتركة. بل إن بعض هذه القبائل قد استخدمت المخدرات كي تهيئ الفرد لقبول التعليمات والأوامر. خاصة إذا كانت هذه التعليمات تتسم بقدر من الغرابة وعدم المعقولية.

ويقودنا هذا إلى أشهر جماعة استخدمت هذا المخدر من أجل غرس الطاعة في نفوس أفرادها. وأعني بهم جماعة الحشاشين التي كانت أخطر جماعة إرهابية عرفها التاريخ الاسلامي الوسيط والتي مازالت آثارها موجودة حتى الآن وسط طائفة الإسماعيلية التي يؤمن أفرادها إيماناً مطلقاً بزعيمها الأغا خان مثلما كان الأتباع القدامى للجمعية يؤمنون بقدرة زعيمهم الخارق حسن الصباح على فعل أي شيء.

كان حسن الصباح أو شيخ الجبل كما أصبح يطلق عليه فيما بعد أحد المتعصبين الذين نشأوا في مدينة خراسان الذين يؤمنون بأن أي تغيير في العالم الإسلامي وقتها لا يتأتى إلا عبر القوة وإسالة الدماء. وتختلط الأسطورة مع وقائع التاريخ في حكايته مع عمر الخيام ونظام الملك. وكيف تعاهد الثلاثة على أن من يرتقي منهم أولاً في مراتب الحكم سوف يمد يده إلى الآخرين ليرفعهما بجانبه. وقد حدث ذلك بالفعل حين أصبح نظاما الملك الوزير الأول للسلطان ألب أرسلان. فمد يده إلى عمر الخيام وجعله الفلكي الأول في السلطنة وعين حسن الصباح في بلاط الملك.

ولكن بعد موت ألب أرسلان وتولي ابنه ملكشاه استطاع حسن الصباح أن يصعد في درجات البلاط وأن يستولي على عقل الملك الجديد، وبدأ الصراع بينه وبين صديقه القديم نظام الملك . وفي هذا الصراع فاز نظام الملك واستصدر أمراً بنفي حسن الصباح خارج أصفهان التي خرج منها غاضباً متوعداً بالانتقام من نظام الملك.

وفي مصر في ظل النظام الفاطمي وجد حسن الصباح الفرصة التي يريدها . لقد حصل على صورة النظام السري الباطني الذي يبحث عنه . وأعطاه الخليفة الفاطمي الثروة التي يحتاج إليها من أجل تجنيد أعضاء جماعته.

وهكذا بدأ صعود أسطورة شيخ الجبل الذي لجأ إلى واد معزول بالقرب من خراسان وأقام فيه قلعة " الموت" الشهيرة التي لا يستطيع أحد الوصول إليها وبدأ تجنيد الشباب الصغار الذين تقل أعمارهم عن العشرين عاما ونقلهم إلى قلعته مستخدما المخدرات والنساء في إقناعهم أنهم يعيشون جنة أرضية، ولكي يحافظوا على هذه الجنة أدخل في قناعتهم أنهم يجب أن يكونوا قتلة وإرهابيين. وقد بلغت طاعتهم لحسن الصباح أنهم كانوا على استعداد لإلقاء أنفسهم من فوق أسوار القلعة إرضاء له. وإن كلفهم مهمة كانوا يفضلون الانتحار بدلا من العودة إليه فاشلين في مهمتهم، ويقال إن أتباعه قد بلغ عددهم حوالي السبعين ألف شخص ما بين رجل وامرأة منتشرين في أماكن كثيرة من حواضر العالم الإسلامي وقتها من آسيا وإفريقيا.

لقد تحولت جماعة الحشاشين لتكون خطراً على كل الزعماء والأمراء الموجودين في العالم الإسلامي. فبعد أن أتم حسن الصباح انتقامه الأول وقتل صديقه القديم نظام الملك، تحول إلى سيف مصلت يهدد الجميع وأصبح على الأمراء أن يقدموا له فرائض الطاعة والولاء وأن يرسلوا إليه الأموال التي كانت تدعم من سلطته وتزيد من عدد أتباعه.

ومن المؤكد أن هدف الحشاشين لم يكن خدمة الإسلام بأي طريقة من الطرق، قد خاضوا صراعا ضد السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان مشغولا بالصراع مع الصليبيين وحاولوا اغتياله أكثر من مرة، كما أن التاريخ يذكر لنا أن العباسيين قد استخدموهم في الصراع بين بعضهم البعض ، ويقال إن ريتشارد قلب الاسد طلب من شيخ الجبل اغتياله رفيقه في الحرب ومنافسة الكويت كوزاد دي مونت.

ويقال أيضا إنهم ساعدوا جيوش الصليبيين في الاستيلاء على مدينة عسقلان التي كان يدافع عنه المسلمون.

باختصار كان ولاؤهم لشخص قائدهم ولمصالحهم الضيقة ووسيلته تعتمد على القتل والإرهاب، ففي خلال حقبة من الزمن اصبحوا أسياد فارس والعراق وأصبح لهم قلاع حصينة في أماكن كثيرة . واصبحت هجماتهم بواسطة الخناجر المسمومة علامة مميزة لهم ورمزاً للرعب الكبير الذي يثيرونه في النفوس، وبرغم محاولة الكثير من السلاطين- ومنهم صلاح الدين- الوصول إلى قلاعهم فإنهم لم يتمكنوا من ذلك . ولم تنجح في القضاء عليهم جيوش هولاكو التي اجتاحت الحضارات الإسلامية في طريقها ومن ضمنها قلعة " الموت " .

فرسان الهيكل

من المدهش أن تعاليم الحشاشين لم تنته مع سقوط قلعتهم وتشتيت شملهم لقد بقوا بشكل أو بآخر حيث انتقلت تعاليمهم مع الصليبيين الذين نقلوهم بدورهم إلى أوربا. واشتركوا في الحرب الأفغانية وحاربوا بجانب القوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، ولا أستبعد أن تكون هناك فصائل لهم ما زالت تقاتل في الحرب الضارية بين مختلف الفصائل الأفغانية حتى الآن.

ولكن التأثير الأكبر لهذه الجماعة كان على الصليبيين . ففي عام 1118 م أخذ بعض من فرسان الصليب هذا النظام وطبقوه على أنفسهم وأنشأوا جماعة بعنوان " فرسان الهيكل " وهي جماعة تختلط فيها التعاليم الدينية بالعسكرية، وكان هدفها المعلن حين قامت في القدس هو حماية الحجاج والقبر المقدس من " بطش المسلمين " ويقال إنهم في فترات طويلة من تاريخهم تعاونوا مع جماعة الحشاشين لتنفيذ عمليات إرهابية معينة.

ومثلما اجتاح الحشاشون منطقة وسط آسيا اجتاح فرسان الهيكل كل أوربا وفرضوا سيطرتهم على اكلثير من مقاطعاتها. وبرغم مرور كل هذه السنوات فمازالت الشكوك تثور حول ( الدين ) الذي يعتنقونه . هل كانوا من عبده الشيطان؟ هل اعتنقوا الاسلام سرا ؟ كيف تطابقت تعاليمهم مع الحشاشين وكيف انغمروا مثلهم في حفلات الجنس والمخدرات؟

لقد قطع " فرسان الهيكل " العهد على أنفسهم أن يكرسوا سيوفهم وسلاحهم لخدمة الديانة المسيحية ولكن تبين أنهم أبعد ما يكونون عن ذلك. وكان ولاؤهم لسيدهم الأكبر اشد من ولائهم لإله الكون. لقد اعترف بهم ملوك أوربا. وانهالت عليهم الهدايا والهبات. ومن ضمنها هبات من جماعة الحشاشين بلغت حوالي الآلاف الثلاثة من القطع الذهبية وقيل إنها مخصصات سرية من المنظمة الكبيرة إلى المنظمة الأصغر.

وقد بلغ من استشراء اعضاء فرسان الهيكل في أوربا أنهم تحدوا ملك فرنسا وفرضوا سلطتهم على المدن الصغرى فيها، وباتوا يهددونه بسلب باريس من تحت طاعته. وكانت النتيجة أن الملك فيليب ومستشاريه استنفروا كل قواتهم وأعدوا لهم كمينا بحيث ألقي القبض على اعضاء الجمعية في كل مدن فرنسا في يوم واحد . بل إن الملك نفسه ألقي القبض على زعيمهم في باريس واتهمهم بالهرطقة ثم أمر بإحراقهم جميعا.

إن تاريخ الجماعات السرية لم ينته عبر التاريخ وإن كنا قد ركزنا على الجماعتين السابقتين فلأننا اخترنا نموذجين فرضا سيطرتهما على أجزاء واسعة من العالم شرقا وغربا . ولأنهما استطاعا أن يستغلا الدين ستارا لهذا الأمر بحيث استطاع اعضاؤهما التحصن خلفه حتى أصبح من الصعب معرفة هويتهما الحقيقية .

كما أنه كان لهما من الأعضاء المخلصين الذين يؤمنون بقدسية ما يفعلونه وينفذون في بنية تكوين الجماعات المعاصرة كأننا- في مجال الإرهاب على الأقل- لم نتقد عن الأمس إلا أصبعا .

وهناك العديد من الجماعات السرية التي لم يكتب لها الانتشار بطبيعة الحال ، فقد قامت لأهداف محددة ضيقة وأسطورية غالبا ولم تتجاوز هذه الحدود، أي أنها لم تحاول أو لم تقد أن تفرض سطوتها على بقية أفراد المجتمع. مثل أفراد طائفة ( الميثرا ) التي كان أعضاؤها يعتقدون أنهم الوسطاء بين الإنسان وإله النور عند الفرس، وقد انتشرت هذه الطائفة من موطنها الأصلي في بلاد فارس إلى عدة مدن وأقطار ويعود تاريخها إلى 6 آلاف سة ماضية وقد انهارت مع انتشار المسيحية.

ولكن أطرف هذه الجماعات وأكثرها إيلاما لأعضائها على ما أظن في جماعة خصيان روسيا . ويبدو من اسمها مدى التطرف الذي وصلت إليه. فهي تقوم بخصي أعضائها باعتبار ذلك طقساً دينياً، وهو الأمر الذي جعل الآخرين يتهمونهم بالجنون . وبرغم ذلك فقد انتشرت هذه الحركة من القوقاز حتى حدود المجر . وربما كان دافعهم الأساسي لذلك هو شعورهم بأن في استطاعتهم تحقيق الاتصال الروحي بالإله عن طريق تعذيب الجسد.

وقد انتشر نفوذ الجماعة انتشاراً كبيراً ليس بين الرجال فقط ولكن بين النساء أيضاً اللواتي قبلن أن يقمن هن أيضاً بعمليات التعقيم معتقدات أن ذلك سوف يهيئهن لمعرفة السر الأعظم وهو الحقيقة. ومثل أي جماعة ( سرية ) لم تستطع أن تبتعد عن أطماع السياسة فقد كانت تعد أتباعها للاستيلاء على الحكم ونشر عقيدتهم في كل روسيا، الأمر الذي استنفر السلطات ضدهم وجعلتها تلقي القبض عليهم وبرغم ذلك يقال إن تلك الجماعة ظلت باقية حتى بعد نجاح الثروة البلشفية عام 1917 .

السحر الأسود

لقد تكونت العديد من الجماعات السرية في مجتمعات عديدة. إما نتيجة ظرف سياسي طارئ، أو انسياقا وراء حلم مستحل، أو لأغراض شريرة وعدوانية تريد أن تفرض سطوتها على بقية أفراد المجتمع. فقد وجد علماء النفس أن العديد من الأشخاص الذين ينضمون إلى الجمعات السرية تحركهم عوامل أربعة أولها : الرغبة في أن يكون لهم سطلة ما، وثانيها : حب الغموض والسرية والتكتم، وثالثهما : شعور الفرد بأنه شخص مميز، ورابعها : شعور الفرد بأنه سيحصل على شيء ما نتيجة انتمائه لهذه الجماعة السرية . ويلاحظ أن كل هذه الدوافع يمكن أن تراود أي شخص له أطماع وطموحات وهو الوتر الذي يلعب عليه مندوبو هذه الجماعات. لتجنيد الأتباع .

حتى هواة السحر الأسود وجدوا لهم أيضا جماعات تؤمن بهم وتتبع خطاهم، ويبدو أن سيكولوجية الإنسان في نهاية القرن العشرين لم تتغير كثيراً عن الإنسان البدائي، فهو مازال يخشى من المجهول ويحاول أن يتقيه وتكون النتيجة أن يلقى بنفسه في أتونه . وحتى الآن مازالت الصحف تكشف لنا كل يوم عن جماعات تمارس السحر الأسود، وتعبد الشيطان بوصفه النموذج الاصفى للشر المطلق. ومن الغريب أن الجميع يعرفون أنهم يمارسون نوعا من الشر أقل ما فيه أنه يحتوي على نوع من الممارسات الجنسية الفاضحة. ولكنهم ما زالوا يكررون أسطورة فاوست الذي باع روحه للشيطان من أجل مجد الدنيا.

لقد دلت التحقيقات على أن الذين يؤمنون بالسحر الأسود يعرفون جيداً أنه بذر لقوى الشر التي يوجهونها على الضحية لقتلة أو إصابته بالأذى. وهم يعتقدون أيضا أن استخدام قوى الشر أسهل بكثير من استخدام قوى الخير لأن مشاعر الكراهية تثار بسهولة أكثر من مشاعر المحبة. إن مشاهد الكتب المتناثرة على أرصفة الشوارع العربية الآن والتي تتحدث ، في معظمها ، عن الجن والشياطين والاتصال معهم، والصفحات المخجلة التي تنشرها بعض الصحف عن الذين يزعمون اتصالهم بالعالم السفلي تدفع إلى الذهن كل هذه الخرافات التي صاحبت العصور الوسطى التي تعتبر عصوراً مظلمة في التاريخ البشري، وهي تعني أن عصر إظلام جديدا عاد ليفرض نفسه مرة أخرى على البشر. وقد انتشر في الغرب نوع من الكتب يشبه ما نراه الآن يباع على أرصفة المدن العربية يوضح طريقة الاتصال بالجن والشياطين تسمى "غريموار" ويعتقد أنها ذات أصول بابلية ويهودية تم تنصيرها.

ولا أحد يعمل مقدار الوهم والحقيقة في الطقوس التي كانت تقيمها جماعات السحر الأسود. وقد حفلت سجلات محاكم التفتيش التي قامت في إسبانيا للتخلص من أعداء المسيحية بالعديد من الاعترافات المرعبة أدلى بها ( السحرة ) قبل إحراقهم. ويعتقد أن العديد من هذه الاعترافات جاءت تحت وطأة التعذيب وبرغم ذلك فهي تعطينا فكرة عن الجو السائد في ذلك الوقت. فقد قيل إنهم لم يكونوا يتورعون عن قتل الأطفال دون الثالثة من أعمارهم لاستخدام أجسادهم في طقوس محفل السحرة والقسم أن يخصصوا جزءا من جسده للشيطان بعد موته وخرق دمى من الشمع تمثل أناسا بواسطة الدبابيس بغية إيذاء هؤلاء الناس. ثم ممارسة الجنس الجماعي والرقص والغناء وشرب الخمر.

لقد كان الهدف الرئيسي لكل هذه الطقوس السرية والمنحلة أيضا هو تحرير الإنسان من القيم والأخلاق والقيود التي يمكن أن تربط بينه وبين أفراد المجتمع. كما زرع الإيمان في داخلهم فكرة أن اتحادهم معاً هو الذي يمكنهم من القضاء على الأعداء الذين يواجهونهم . ويحتل الشيطان جزءاً أساسياً في هذه الطقوس. وربما كان استخدامهم المخدرات والنشوة التي تتبع الطقوس هما السبب في تخيلهم أنهم يقابلون الشيطان وجهاً لوجه وأنه يدلي لهم بتعاليمه مباشرة.

حتى قطاع الطرق

ربما يكون اتباع هذه الجماعات السرية بعض الحالمين والمخدوعين والباحثين عن العدل والتغيير من وجهة نظرهم . ولكن من المؤكد أن تلك الجماعات في غالبها الأعم تضم الجمع الأكبر من الناقمين على المجتمع والخارجين على قوانينه. وبرغم أنها تصوغ لنفسها العديد من الشعارات الجذابة لإغراء السذج إلا أن العضو في مثل هذه الجماعة بعد أن ينضم إليها تتكشف له حقيقتها المرعبة بعد أن يكون قد تورط داخل تعقيداتها المتشابكة، دون قدرة على الخلاص.

ولعل جماعة جوبتر المرعب كانت هي الوحيدة التي بنت نفسها على أساس أنها تضم الخارجين على القانون أولاً وأخيراً. كون زعيم هذه الجماعة واحدا من أشهر زعماء عصابات قطاع الطرق في إيطاليا اسمه " سيرو أنا نجياركو " وكان راهبا سابقاً قبل أن يتمرد ويحترف الإجرام.

لقد أحس سيرو في لحظة ما بعد أن قتل العشرات من الأبرياء أنه لن يستطيع مقاومة جنود الحكومة الذين ضاقوا ذرعاً بجماعته وعزموا على القضاء عليهم وكان الحل الذي توصل إليه أن يكون اتحاداً يضم كل الخارجين على القانون في إيطاليا، ثم في أوربا كلها فيما بعد، وكان هدفه من وراء ذلك في أول الأمر بسيطاً وعمليا وهو أن يتوصل إلى اتفاق أفضل مع رجال الحكومة.

ولأنه كان راهباً سابقاً كما ذكرناه فقد عقد في عام 1817 م أول قداس لتحالف هذه العصابات في كنيسة مهجورة وأعلن مولد جمعية قطاع الطرق التي كانت نواة لأضخم جماعة خارجة على القانون عرفتها القارة الأوربية في القرن التاسع عشر بعد أن انضمت إليها بقية العصابات وأطلقوا على أنفسهم " مواطن أوربا " ولم يكتفوا بضم قطاع الطرق فقط ولكن ضموا عدداً كبيراً من الرهبان الذين هربوا من أديرتهم واحتلوا مكانا مهما في الجماعة.

لقد خضعت أجزاء كثيرة من أوربا لسيطرتهم . وكان منهم القتلة المحترقون الذين يهبطون ليلا على المناطق المأهولة بالسكان ويمارسون القتل العشوائي بهدف إثارة الرعب وإرهاب السلطات، وهو الأمر الذي يذكرنا بما يدور في بعض قرى الجزائر الآن، ويقال إن عددهم بلغ وقتها حوالي 20 ألف شخص مقسمين إلى معسكرات وخلايا بحيث تضمن سيطرتها على كل المدن الكبرى. ولا يفل الحديد إلا الحديد كما يقولون. فقد كون الجنرال تشربش وهو الرجل الذي كان مكلفا مطاردتهم هو الآخر جيشا من المرتزقة من بقية أصقاع أوربا وبدأ في مطاردتهم عبر القرى الجبلية التي كانوا يختبئون فيها بعد توجيه كل ضربة من ضرباتهم . وعندما ألقى القبض على " سيرو " أخيراً وجدوا معه قنينة سم وقال إنه كان من المقرر أن يشربها في حال إلقاء القبض عليه ولكن رفاقه منعوه من ذلك . وقد تم إعدامه بعد ذلك رميا بالرصاص.

تاريخ من التوجس

إنه تاريخ حافل بالخوف والتوجس عاشه الإنسان منذ أن غادر كهفه وأطفأ ناره التي كانت تهبه الأمان. منذ ذلك التاريخ وهو يبحث عن الأمان ويحاول أن يقيم كهفا وهميا يحميه. وسواء كانت جدار هذا الكهف بعيدة مثل الحكومة والنظام الاجتماعي، أو شديدة القرب مثل العصبة أو الجماعة التي ينتمي إليها والتي تكون شديدة القرب منه . ولكن المشكلة هي أن السرية والشعور بالتفوق على الآخرين يغريان بمارسة التسلط الذي يقود إلى الإرهاب.

إن إيقاظ نوازع الشر في الإنسان أسهل كثيراً من إثارة نوازع الخير. وكان الكاتب الروسي مكسيم جوركي يرى أن محاولة الإنسان أن يكون خيراً هي المعاناة الحقيقية في وسط عالم يدفعك إلى مواجهة الشر بالشر. ويعلمنا تاريخ هذه الجماعات التي بقيت سرية وانتهت وهي مطاردة ومقضي عليها أنها لم تكن تسعى لغاية الخير أبداً. فالأديان على سبيل المثال بدأت كجماعات سرية ( لكن دعوتها دائماً اعتمدت أسلوب الإقناع والتبصير ) . فقد كان الرومان يطاردون المسيحيين في كل مكان ولم يكن المؤمنون بهذه الديانة إلا نوعا من الجماعات السرية في هذا الوقت تواجه الإمبراطورية الرومانية بكل عنفوانها، ولكن دعوتها سرعان ما انتشرت وتحولت بذلك إلى نظام عام يقبله الجميع.

وكذلك بدأ الإسلام في شعاب مكة غريباً . وكان المسلمون يتسللون تحت جنح الظلام إلى دار الارقم بن أبي الأرقم حتى يتلقوا تعاليم دينهم في سرية ولم يأت الأمر بالجهر بالدعوة إلا مع الهجرة إلى المدينة المنورة . وتحول المسلمون من جماعة سرية إلى دين شامل وعام.

لقد انتشرت الأديان وخرجت من السرية إلى العلنية لأنها لم تكن تحرص على المنفعة الخاصة بقدر ما تحرص على الهداية العامة. لذلك فهي لم تتحول إلى إرهاب بل تحولت إلى نظام. وهي لم تتوجه إلى الجانب المظلم في نفس الإنسان بقدر ما توجهت إلى الجانب المضيئ منها. كما أنها لم تلجأ في أي مرحلة من مراحل دعوتها إلى العنف أو القسر، ولكن الدين الحق طريقة الهداية والموعظة الحسنة ولعل هذا ما يفسر دخول الجماعات الكثيرة وتمسكها بهذه العقيدة برغم كل ما تلاقيه من مشقة.

لقد عرفت الحضارات كلها- وأقدمها حضارات الأنهار- كل أنواع الجماعات الإرهابية، وهي تنتمي في جذورها إلى العالم الأسطوري الذي توقظه الرغبات البدائية في قلب الإنسان وما لم نتغلب على هذا الجانب البدائي في نفوسنا فسوف يظل الإرهاب متواصلاً . دع عنك العالم العربي واتهامه وما فيه من صراعات سياسية وتناقضات اجتماعية، فالإرهاب ظاهرة إنسانية أشد بعداً من ذلك، وعلينا إن كنا قد سقطنا فريسة له هذه الايام أن ندرك أننا قد وقعنا فريسة لأشد المناطق إظلاماً في النفس البشرية.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات