ولادة لوحة

ولادة لوحة

إن أصعب وقت لتلوين اللوحة ورسمها هو البدء بتلوينها.
مساحة اللوحة البيضاء تضعني في حيرة وتردّد، تدوم أيامًا.

البساطة في اللوحة البيضاء التي لم تُمسّ بعد، تجعلني أتساءل: هل من الأفضل أن أتركها كما هي عذراء وأعلّقها على الحائط وأنظر وأتمتّع ببساطتها ووضوحها، أو آخذ فرشاة ملوّثة بالأحمر مثلاً وألمسها وألطّخها بعد أن كانت لم تمسسها يد إنسان. قلت إن هذه الحالة تدوم أيامًا. كلما أدخل إلى مرسمي ألتفت إليها وأراها كما كانت البارحة وقبل البارحة، تنير المرسم ببياضها ونقائها. تمرّ عدة أيام قبل أن أتقدم نحوها لأبدأ بالتلوين.أضع لطخة ملوّنة وأجلس أنظر إليها طويلاً وقد تغيّرت فور أن دخل عليها شكل، هو شكل اللون.

يطول جلوسي في وجه اللوحة التي أصبح لها شكل مختلف ومعنى، إذ إن البساطة وطهارة البياض قد تغيّرا. في مساحة الأبيض الآن شكل ولون، واللون هذا راح ينادي لونًا وشكلاً آخرين. أضعهما بعد اختيارهما ثم آخذ لونًا آخر وبعده أتبعه بلون جديد، ثم أبحث عن الأبيض ولا أجده إذ طغت عليه الألوان وغطّته كليًا. هنا تأتي مرحلة جديدة، هي مرحلة النظر لوقت طويل إلى اللوحة، فالبياض، أعني أصل اللوحة البيضاء، لم يخلق لي وساوس ولا حيرة ولا ندمًا، إذ كنت أعتبر اللوحة مكتملة ببياضها الذي يجعلني أتخيّل فيه الصحراء والبحار والسماء. أمّا المرحلة الجديدة فهي النقد الذاتي واكتشاف ما وضعته من ألوان وأشكال، والتساؤل إلى أين سأصل بها وإن كنت قد انتهيت من رسمها أو ابتدأت به وبتلوينها.

اللوحة تتنفس

أعود إلى ألواني وأبدأ بإلغاء لون ووضع لون آخر، وتغيير شكل بشكل آخر، ثم أبعد عن اللوحة، ثم أتقدّم منها وأضعها على الأرض ثم أعيدها إلى مكانها، وأعود إلى الألوان وأمزج لونًا بلون وتبدأ اللوحة بالتنفّس قليلاً وأعود إلى إلغاء لون آخر، وكأني أبحث عن بساطة كنت رأيتها في اللوحة البيضاء، لكني أشعر الآن أني أعمل جاهدًا وأن في رأسي وإحساسي حوارات وأسئلة، وتأخذ الألوان دورها ويقترب بعضها من بعض باحثة عن انسجام بينها.

المسألة بسيطة أن تكتب أسطرًا تمثل أشهرًا في رسم وتلوين لوحة، عندما تتعب مني اللوحة اتركها أيامًا أو أسابيع أو شهورًا، ومرارًا أعود إليها بعد سنوات. قلت إن الألوان يقترب بعضها من بعض وتنسجم، سهل عليّ القول إنها تنسجم. لكني بعد النظر مطولاً، تتغيّر نظرتي إليها. وأرى في الألوان عكس الانسجام، أهيئ ألواني. آخذ فرشاتي، بلا رغبة، وبلا جرأة للمس اللوحة مجدّدًا.

أبتعد عنها، أترك مكاني وأخرج من المرسم.. إلى أين؟

إلى حيث لا أدري، ومرارًا أروح لملاقاة أشخاص لا صلة لهم بالفن، وبعيدون عن فهم الفن، هذا ما يزعجني ومرّات يريحني. اعتدت أن أجلس مع أناس لا يهمهم من الفن سوى كلمة الفن، وأكثرهم يعتبرون كل لوحة أو رسم له إطار هو عمل فنّي له قيمة (هذا ليس من عندي، هذه حقيقة).

بعد وقت - أيام وأسابيع وشهور - أكون قد رسمت لوحة أو أكثر، أعود إلى اللوحة الأولى التي أبعدتها عن نظري.

أنظر إليها مجدّدًا بعد وقت طويل، وكأني أراها للمرّة الأولى، وقد تحرّرت منّي وأصبح لها حياتها.. تحكي لمن يحاورها، وترفض من يرفضها، وتتجمّل في عينيّ من يراها جميلة، ولا تكترث لمن لا يكترث لها. وهكذا، فالعمل الفني له مولده وحياته المديدة أو القصيرة. هناك أعمال فنية كبرى تولد وتبقى، تولد يومًا بعد يوم وتتجدّد، وهناك أعمال فنية تولد ميتة، هنا لا أقول قولاً جديدًا «إن وراء العمل الفني فنانًا»، الأصل هو، هو الذي اختير أن يكون صانعًا للعمل الفني. الفنان لا يختار أن يكون فنانًا، الإنسان يولد فنانًا أو تاجرًا، أو بائع فاكهة أو لصًا. هذا مكتوب.

لكل إنسان موهبته. اختير لها وهو بريء من ذلك، أكتب هذا لكني لست متأكدًا وواثقًا ممّا أقوله، لكن ماذا أفعل؟ أكتب وكأن الكلمات هي التي تأتي بالأفكار، وأنا لا أفعل سوى خطّها على هذه الصفحات،ليس مهمًا هذا،هكذا تولد الأفكار والكلمات ولا انفصال بينهما، الأولى تكمّل الثانية وتسوّدان الأوراق وتخلقان الآلاف من الأحرف المتشابكة الملتصق بعضها بعضا، حتّى أن القلم يشتد حفيفه على الورق، يكاد أن ينفجر، وكيف العودة إلى التكلم عن اللوحة؟ وهل الكلمات تصنع عملاً فنيًا؟ أعتقد.. لا.. الكلمة تقول كلمة والفن يصنع فنًا، لهذا سأقف الآن عن الكتابة، بل سأكمّل وهل هي إرادتي التي توقفني عن لصق الحرف بالحرف ليصيرا كلمة يصير لها معنى لا يقدّم ولا يؤخّر، بل يقدّم، أمّا إلى أين؟ فلست أدري.. ويؤخّر.. هذا ممكن أن تؤخّر الكلمة عندما تعني معنى لا معنى له، ومتى كانت الكلمات تحمل معنى؟ أعتقد أن البارحة قد مضى مع الليل ثم انتصف الليل مع النهار والشمس والقمر والخريف الربيعي، كل هذه الحالات الطبيعية تناديني لأخرج من مرسمي وأوراقي وأتسلّل من بين الأسطر والأحرف وأنطلق لملاقاة الهدوء والسّكون.

 

أمين الباشا