الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو والواقعية السحرية

الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو والواقعية السحرية

تحمل تجربة الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو خصوصية واضحة بين أبرز التجارب الرائدة في الفن الحديث، حيث تتنوع مصادر هذه التجربة، في الرسم والنحت، وتمتد إلى جذور بعيدة في فنون الحضارات القديمة والمأثورات الشعبية، وصولاً إلى المنعطفات الحادة في مسارات الفنون الحديثة، ولكنه يظل، كما قال عن نفسه: «أكثر الفنانين الكولومبيين انتماءً إلى كولومبيا»، وهو الذي اعتاد أن يحشر صورته مع صور شخصياته المختلفة التي تلتقي عيونها بعيون مشاهديها، في أغلب الأحيان.

أنجز بوتيرو على مدى ستين عامًا، أعمالاً متنوعة من الرسوم والمنحوتات، تتميز بحرفية عالية، في ضربات الريشة الرشيقة، غير المرئية، على المسطحات اللونية في اللوحات، والحركات الانسيابية المرنة في أشكال التماثيل الملساء، وهي في موضوعاتها المختلفة تعتمد على التضخم والاستدارة في الأشكال، وينسحب هذا على الأجساد البشرية والحيوانية والأشكال التي تمثل الطبيعة الصامتة من الفواكه والخضار والأدوات ذات الاستخدام اليومي، بما تحمله في حركاتها الرشيقة من رموز ودلالات، في ألوانها الصافية الزاهية.

كتب الروائي البيروفي ماريو بارجاس يوسا عن الشخصيات التي تحملها أعمال بوتيرو يقول: إن إفراطها في البدانة ليس إهانة لها، بل هو تجميل لواقعها بمزيد من اللحم والدم، إنها مخلوقات لدنة تتغذى في عالم مستقل من الأشكال والألوان.

البدايات

ولد بوتيرو في مدينة «مديين» عام 1932، في عائلة فقيرة، وكان والده بائعًا متجولاً، يطوف بين القرى والبلدات الجبلية على ظهر حمار، لكنه توفي بسكتة قلبية حينما كان بوتيرو طفلاً في الثانية من عمره.

تأثر بوتيرو في طفولته بالرسوم والنقوش والتماثيل التي تحفل بها المدينة في مبانيها وكنائسها القديمة، وكان مولعًا بمشاهدة مصارعة الثيران، وانتسب إلى مدرسة خاصة بتعليم هذه الرياضة الشعبية التي كان يرسم لقطات مؤثرة منها، ويبيع رسومه للجمهور.

برز بوتيرو كرسام عام 1948، وبعد عامين سافر في منحة دراسية إلى مدريد، حيث درس الفن في أكاديمية سان فرناندو، ومارس تدريبات خاصة على نسخ أعمال الفنانين فلاثكويز وغويا في متحف البرادو، وزار باريس وتجول بين متاحفها بعين الفنان الباحث عن التفاصيل، ثم انتقل إلى فلورنسا للدراسة والتدريب على صناعة السيراميك لمدة عامين، وقام بزيارة طويلة إلى المكسيك في عامي 1956 و1957، تركت تأثيرًا واضحًا في أعماله اللاحقة، حيث درس فن الجداريات التي أبدعها كل من دييجو ريفيرا واروزكو وسكويرس، وهي الجداريات العملاقة الأكثر شهرة في العالم.

في عام 1969 أقام أول معرض له في متحف الفن الحديث في نيويورك، ومن هناك بدأ سلسلة متوالية من المعارض في أهم مراكز الفنون في أنحاء العالم، تجاوزت سبعين معرضًا.

جماليات خاصة في تضخيم الأشكال

إن الخبرة التي اكتسبها بوتيرو في قراءة الفنون الإنسانية القديمة منحته القدرة على اكتشاف خصائص النحت القديم في ذروة نضجه، في المراحل المتقدمة من النحت الفرعوني والنحت الإغريقي، ومنها المبالغة في تكبير الحجوم، هذه المبالغة انعكست في رسوم كبار الفنانين الكلاسيكيين في أوربا، مثل جيوتو، أوتشيلو، دورر، انجر، وتبدو هذه المبالغة واضحة في لوحة بييرو ديلا فرانشيسكا، التي تحمل عنوان «لقاء سليمان وملكة سبأ»، كما هي واضحة في اللوحة التي رسمها بوتيرو عن «الموناليزا» عام 1979، وعن الفنان روبنز وزوجته عام 1965، فهو يلتقي مع روبنز في ذائقة تفضيل رسم الأجساد الممتلئة، وهي الذائقة الدارجة في القرن التاسع عشر وما قبله، لكن بوتيرو يضع نفسه في موقف تحدٍ للذائقة التي درجت في القرن العشرين، وهي التي تميل إلى رسم الأجساد النحيفة التي تصل في مبالغاتها إلى مجرد إكساء العظم جلداً، ومن هنا فإن بوتيرو يبني جسوراً للتواصل بين الحداثة والجذور البعيدة للفن.

يتذكر بوتيرو مصادفة طريفة، تركت أثرًا متواصلاً في أعماله الفنية، فحينما رسم لوحة عن الآلة الموسيقية «الماندولين» اكتشف أن نقطة سوداء تسربت إلى وسط الشكل، في حوض الصوت، دون أن يدري كيف جاءت، لكنها أعطت للآلة شكلاً مضخمًا، أثار اهتمامه وإعجابه، وتركها في مكانها، وهو يحاول أن يفسر عنصر الجاذبية فيها:

«ينجذب الفنان إلى أشكال محددة، دون أن يعرف لماذا، إنك تتبنى بالحدس موقفًا ما، وبعد ذلك تحاول أن تبرره وتقنع نفسك به..».

بحثًا عن الجمال

يلاحظ بوتيرو أن علاقة الأوربيين بعنصر الجمال في الفن ليست متينة، بسبب وفرة الأعمال الفنية المتنوعة، القديمة والجديدة، في حياتهم اليومية، ولهذا فهم مشبعون برؤية هذه الفنون وجمالياتها، وهو مختلف عنهم: «كانت مقولة إن الفن هو الجمال تنمو معي، وأنا أحاول دائماً تقديم الفن مع الجمال الذي يمكن اكتشاف كل عناصره التي تعطيك رؤية متكاملة.. فأنا لا أتعب من الجمال لأنني كنت متعطشاً إليه دائمًا..».

مزاوجة الماضي والحاضر

يستوحي بوتيرو صور الحياة في أمريكا اللاتينية، وفي كولومبيا خاصة، بتركيز واضح، وهذا ما يظهر في أعماله التي أدخل فيها عناصر من الفن الشعبي الموروث، لكن هذه العناصر تحولت إلى أشكال جديدة في أعماله، ومن تلك العناصر العلم الكولومبي بألوانه الثلاثة والألبسة التقليدية والأشجار والثمار الكولومبية: «أرسم كولومبيا أحيانًا بالشكل الذي أتمنى لها أن تكون، مع أنها ليست كذلك، إنها كولومبيا المتخيَّلة، التي تشبه، أو لا تشبه، كولومبيا الحقيقية»، ولكن كولومبيا - بوتيرو ليست معزولة عن العالم، فهو يرى العالم من خلالها، أو يراها في صورة العالم.

ومع أن بوتيرو تعايش مع مراحل متجددة من أساليب الفن الحديث، بما فيها التجريدية والسريالية، فإنه ظل محافظًا على رسم الشخصيات، في تشكيل يوحي بالواقعية السحرية التي تحمل لمسات تجريدية وسريالية طفيفة، إلى جانب ما تحمله بعض أهم أعماله من نكهة ساخرة لاذعة، ونقد سياسي مبطن، ونقد ذاتي يظهر في صورته الشخصية التي تتكرر في حالات مختلفة، مثل غيرها، غنية باللحم والدم، ويستهدف بوتيرو في نقده اللاذع رموز السلطات السياسية والعسكرية والدينية في أمريكا اللاتينية، حينما يحشر نماذج من تلك الرموز في لوحات شبه كاريكاتيرية، وهي في حالة استعداد، وكأنها في انتظار التقاط صورة ضوئية تذكارية، كما في لوحة «الطغمة الانقلابية».

ويظل بوتيرو مشغولاً بما يجري حوله، ويهجو الانقلابات العسكرية التي تخنق الحركات الديمقراطية الوليدة في أمريكا اللاتينية، وتقود الجنرالات المغامرين إلى كراسي الرئاسة، مع ما يرافق ذلك من عسف وقمع وفساد وتفقير.

في أول عام 2004 عرض بوتيرو خمسين لوحة في المتحف الوطني الكولومبي، تتناول كل أشكال العنف في بلاده، وهو من الموضوعات الأثيرة الدائمة لدى بوتيرو.

وفي عام 2005 فوجئت الأوساط الفنية بالمعرض المثير الذي نظمه بوتيرو من خمسين لوحة أخرى، بعنوان «أبو غريب»، ويصور فيها بوتيرو أساليب التعذيب والاستغلال التي حدثت في هذا السجن العراقي الرهيب، الذي تأسس عام 1944 قرب بغداد، واكتسب سمعة سيئة على مدى ستة عقود، حيث قيل إن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. وكانت عمليات التعذيب والإعدام تتم فيه، بأساليب وحشية مبتكرة، دون محاكمات تذكر.

تجول معرض لوحات «أبو غريب» بين إيطاليا واليونان وألمانيا، ونيويورك وكاليفورنيا، وصرح بوتيرو بأنه لن يبيع هذه اللوحات، بل سيقدمها هدية إلى متاحف متعددة، لتكون ذاكرة حية للأجيال القادمة، إلى جانب أعماله النحتية الكبيرة، التي تنتصب في ساحات عامة في مدن وعواصم مختلفة، ومن أشهرها تمثالا «الرأس» و«المحارب الروماني».

 

بندر عبد الحميد 





الطغمة الانقلابية





ماري انطوانيت





روبنز وزوجته