تواصلاً مع ندوة «العربي» الأخيرة اللغة العربية والأمن القومي

تواصلاً مع ندوة «العربي» الأخيرة اللغة العربية والأمن القومي

اسمحوا لي أن أهنئ مجلتنا المحترمة «العربي» في عيدها الذهبي بمناسبة مرور 50 عامًا على صدورها، وهي بهذا تكون قد أمضت نصف قرن بالتمام في حماية اللغة العربية، ضد الركاكة، والضعف، ودعوات التغريب، وحافظت على هويتنا الثقافية العربية، ولغتنا الفصحى ضد النزعات العامية المغرقة في المحلية.

وهناك فارق كبير بين دعوات تطالب بتطوير اللغة العربية وتنقيتها من شوائب كثيرة علقت بها، ودعوات أخرى تسعى إلى تدميرها، وهناك مَن يرى أنها بحاجة إلى زلزال كبير يحرّك مياهها الراكدة، وينطلق بها نحو آفاق من التطور والمعاصرة، وهذه الدعوات كلها مطلوبة مادامت تسعى لتأكيد أهمية اللغة العربية، ليس على المستوى الثقافي أو التعليمي، ولكن على المستوى السياسي والقومي لهذه الأمة، فلا شيء يفوق أهمية اللغة العربية ودورها في جمع شملنا.

ولاشك في أن محنة اللغة العربية وصلت إلى أسوأ حالاتها في تعليمها بمدارسنا، ووصل الأمر إلى أنها أصبحت غريبة في بيتها، فكثيرًا ما يخطئ المدرسون في  تعليم اللغة العربية، وكثيرًا ما يخطئ العاملون في أجهزة الإعلام والثقافة في أبسط قواعدها، وكثيرًا ما يخطئ الدعاة والأئمة على المنابر، وهم يتحدثون لغة القرآن.

والساحة مليئة بنماذج فجّة في الكتابة التي تحمل اسم الإبداع، حيث نرى بعض الروايات والقصص معيبة بالتفكك وركاكة الأسلوب وعدم الالتزام بأصول اللغة وجمالياتها.

ولكل لغة جذورها ونسبها وأصولها وقواعدها وأشكالها الفنية المتعددة الصور والألوان، ومن الخطأ أن ننظر للغة من زاوية القواعد الشكلية الجامدة، فإذا كانت هناك قواعد في النطق أو الحركة أو السكون، وضوابط في النحو والصرف، فهناك قيم أهم وأخطر تتجسد في الجوانب الجمالية للغة من الأسلوب والإيقاع والصورة والقدرة على التعبير.

ومع الأسف أن كل من يهاجم اللغة العربية يتوقف عند قواعد النحو الفاعل والمفعول، وهذه ثوابت في كل لغات العالم، وينبغي أن يكون الهدف هو تطوير اللغة في  أساليبها وجمالياتها وقدرتها على مواجهة متغيرات الحياة، ولن يكون ذلك بالهدم، بل بالبناء، ولو تتبعنا جذور الأزمة لاكتشفنا أن لها أكثر من جانب، فيجب أن نبحث عن وسائل حديثة لجذب الطلاب إلى لغتهم، ونستبعد المناهج المختلفة التي تفرض عليهم نماذج لغوية لا تتناسب مع روح العصر، فمازال الأسلوب التقليدي في تعليم اللغة العربية هو السائد، من نماذج الشعر القديم بكلماته المعقدة وصوره البعيدة عن إفهام أبنائنا، مع أن في الشعر القديم نماذج سهلة يمكننا اختيارها حتى لايهربوا من لغتهم، ولا مانع من استخدام الكمبيوتر والإنترنت لتشجيع الأجيال الجديدة على التعامل مع اللغة العربية.

نقطة البداية هي المصالحة بين النص اللغوي، والعقول الشابة، ولا يعقل أن نطبق طرق تعليم اللغة العربية نفسها كما كانت قبل خمسين عامًا مضت، وهناك وسائل حديثة في تعليم اللغات يجب أن نطبقها في مدارسنا.

ويأتي بعد ذلك دور الإعلام، ولا يكفي أن يجيد المتحدث اللغة العربية، بل يجب أن يكون بسيطًا في اختيار الألفاظ، ولغة سهلة تحافظ على الثوابت، وتحمل روح  العصر الذي نعيشه، وهذا ينطبق على أحاديث العلماء ورجال الدين والمفكرين وكبار المثقفين، الذين يجب أن يقدموا القدوة في البساطة والقدرة على الإقناع بعيدًا عن التقعر واستخدام الكلمات الغريبة. ويجب أن نحرص على استخدام الفصحى في البرامج الثقافية والحوارات ونشرات الأخبار والموضوعات التسجيلية لأنها تعد دروسًا في اللغة قبل أن تكون عملاً إعلاميًا، ولا أدري ما السبيل لتقديم مدرس عصري للغة العربية، بخاصة أن الثانوية العامة هي التي تدفع بالآلاف من الطلاب إلى كليات اللغة العربية والتربية ودار العلوم، ومع الأسف يدخلون هذه الكليات، ليس حبّا في لغتهم، ولكن بضرورات المجموع، وهذه الكليات بحاجة إلى أجيال جديدة تدرس لغتها من منطلق الحب والإحساس بقيمتها. ولاشك أن إهمال اللغة العربية انعكس بصورة واضحة على مستوى الإبداع في الشعر والقصة والرواية والأغنية، فقد صارت الفصحى غريبة في كل هذه المجالات. ومنذ سنوات مضت كان استخدام بعض الكلمات العامية في قصة أو رواية مثار قلق بين المبدعين الكبار، ولكننا الآن نقرأ روايات كاملة أغلبيتها بالعامية، وهذا يحتاج إلى مراجعة من كبار مبدعينا ونقّادنا حتى لا يأتي يوم لا نرى فيه عملاً إبداعيًا بالفصحى.

والغريب أن البعض يشن هجومًا ضاريًا على الفصحى مطالبًا باستخدام العامية، وتخليص اللغة من قواعدها، وهذه دعوات تحتاج إلى مراجعة حكيمة، فإلغاء النحو يعني أنه لا فاعل في اللغة ولامفعول، ويعني إلغاء حروف التذكير والتأنيث، فنجد أنفسنا أمام هيكل عظمي متآكل للغة عريقة، يتحدث بها أكثر من 300 مليون إنسان، وهذا ليس من الحكمة في شيء. ويصعب فصل ذلك كله عن البعد السياسي الذي يسعى البعض من خلاله لتهميش الفصحى. وكما كانت العلاقات الثقافية والسياسية بين العرب غير متناغمة، فإن كل بلد يسعى إلى تعميق لهجته المحلية، ولهذا انتشر الشعر النبطي في دول الخليج، وانتشرت اللهجات العامية في دول أخرى، وهذا كله يؤدي لتقطيع جسور التواصل بين الشعوب العربية، وهو هدف تسعى إليه أطراف كثيرة لتهميش دور الفصحى في حياة الشعوب العربية، وخاصة أجيالها الجديدة ليصل الأمر بنا يومًا إلى درجة القطيعة الثقافية، والتاريخ الذي ربط بيننا، والجذور التي امتدت قرونًا طويلة في تشكيل الثقافة العربية، لهذا فإن الدعوة لتطوير اللغة العربية، يجب أن تكون لتأكيدها وليس التشكيك في قدرتها على الاستمرار.

العربية هي لغة القرآن الكريم، وهذا يعني أن تراجعها سيكون على حساب عقيدتنا الدينية، وهناك أطراف دولية كثيرة يهمها النيل من ثقافتنا وديننا ولغتنا تحت دعاوى كاذبة، أن هذه الثقافة تصنع الإرهاب.

إن اللغة العربية واحدة من أعرق وأجمل وأثرى اللغات في العالم، وبقدر حرصنا على تطويرها ومواجهة الظروف الصعبة، التي تعانيها سيكون مستقبلها، وتوجيه السهام إليها يخدم أطرافًا كلنا نعرفها، تسعى الآن إلى ضرب جذور الأمة العربية.

لقد شهدت السنوات الأخيرة عشرات المؤتمرات التي تطالب بحماية اللغة العربية، ونحن نطالب بالحماية، ليس على المستوى الثقافي فقط، ولكن على المستوى السياسي، لأنها في حقيقة الأمر تدخل في إطار قضايا الأمن القومي العربي.

وفي ظل دعوات مشبوهة لشرذمة العالم العربي وتشويه تاريخه، وضرب ثقافته، تقف اللغة العربية في مقدمة هذه الأهداف، فلا أحد يريد للعرب أن يجمعهم تاريخ واحد، ولغة واحدة لتصبح الأجيال الجديدة بلا جذور أو هوية أو انتماء، وهذه الدعوات يجب أن نتصدى لها حتى لا يصبح العرب يومًا أمة بلا لغة، ولا تاريخ.

عادل حسن بسيوني
الإسكندرية - مصر