جزيرة الحوريات والينابيع خليل أقطيني
رأس العين السوريّة
رأس العين هي بالفعل جنة من جنان الأرض في الجزيرة السورية فهي تجمع بين التاريخ الذي يمتد ستة آلاف عام في غور الزمن.. والطبيعة الخلابة التي تمتلئ بالعيون الصافية كالزجاج، ومياه العيون الكبريتية التي تستخدم كعلاج طبيعي للعديد من الأمراض الجلدية.. وقيل هذا وذاك فهي المدينة التي استطاعت أن تأسر خالد بن الوليد عندما قام بفتحها، ولنبدأ معاً الرحلة إلى رأس العين..
عندما انطلقت بنا السيارة ملتهمة الطريق الأسفلتي الأسود بشهية واضحة، صوب مدينة رأس العين، في الجزيرة السورية التي تسمى اليوم محافظة الحسكة، من أجل إعداد هذا الاستطلاع، أطلت برأسها مشكلة مهنية ستواجهني في أثناء تنفيذ هذه المهمة الإعلامية، وهذه المشكلة ناجمة عن الحيرة التى خلقها البحث عن إجابة لسؤال: " من أين أبدأ؟ ". أتراني أبدأ بالحديث عن تاريخ هذه المدينة العريق والحضارات التي نشأت فيها منذ أقدم العصور، أم تراني أبدأ بالحديث عن طبيعتها الخلابة وبيئتها الأخاذة التي حباها الله بها؟ أم تراني أتجاوز هذا وذاك وأبدأ بالحديث عن عيونها الجميلة وينابيعها الرائعة التي كانت مصدر وحي وإلهام لكثير من الشعراء والمبدعين؟
وقد ظلت هذه الهواجس تعتريني إلى أن وصلنا قرية تل حلف، وقد حالفنا التوفيق أننا سلكنا الطريق الجنوبي، حيث يتحتم الدخول إلى مدينة رأس العين عبر قرية تل حلف التاريخية، التي وضعت حدا لقلقي، وحلت مشكلتي من خلال العثور على الإجابة التي بقيت أبحث عنها طول الطريق. والطريف أن الإجابة عن هذا السؤال جاءت على شكل سؤال أيضاً. إذ مادام اليوم هو ابن الأمس واستمرارا له، فلماذا لاتكون البداية من الماضي وصولا إلى الحاضر؟
تل حلف، وأسماء أخرى
هذا ما أوحت إلي به قرية تل حلف، التي يمكن اعتبارها بوابة رأس العين من جهة الغرب، بل وبوابتها عبر التاريخ، فقد أثبتت المكتشفات الأثرية التي تمت في قرية تل حلف منذ عام 1899 على يد عالم الآثار الألماني ماكس فون أوبنهايم، تل حلف ما هي إلا مدينة رأس العين التاريخية القديمة ذاتها. وهناك أسماء أخرى لها غير اسم تل حلف، إذ كان يطلق على رأس العين اسم تل الفخيرية وواشوكاني وفاشوكاني وغوزانا ورش عينا وعين الوردة. وقد كانت هذه المنطقة تمثل مستوى اجتماعيا راقيا في الجزء الشمالي من بلاد الشرق الأدنى خلال الألف الرابع ق. م. وتأكيداً لتفوق حضارة تل حلف يقول عالم الآثار الألماني د. مورتكارت: " لقد اتخذت ثلاث مناطق حضارية في بلاد الشرق الأدنى أسماء ثلاثة مواقع أثرية هي: تل حلف في الجزيرة السورية وسامراء في العراق وشبه سيالك في إيران.. ".
ويؤكد علماء الآثار والمؤرخون أن منطقة ينابيع الخابور كانت قاعدة لحضارة الشعب السوباري من بلاد سوبارتو في الجزيرة السورية. وقد كان هؤلاء يستغلون وسائل النقل المائية في تجارتهم، فكانت الأموال المرسلة من الشمال تحمل على مراكب تمخر مياه الخابور وصولا إلى دجلة والفرات، ومنها ما كان يشحن من تل حلف بالذات، التي اكتشف فيها أوبنهايم مرفأ شهريا كانت المراكب تنحدر منه في نهر الخابور ثم في الفرات لتبلغ بلاد بابل. وقد ظل السوبارتيون قروناً طويلة يعملون ويبنون في هذه المنطقة، فنمت زراعتهم وازدهرت تجارتهم إلى أن آل الأمر إلى قبائل انحدرت من الشمال الغربي واستولت على بلاد سوبارتو، لكن الأمر لم يدم طويلاً لهذه القبائل، إذ هبط عنصر آري آخر من الشمال الشرقي من منطقة بحيرة " واك " في تركيا بعد منتصف الألف الثالث ق. م، والأرجح أنهم استقروا في منطقة ينابيع الخابور في تل حلف، وأسسوا الدولة الميتانية التي يعود أقدم أثر خطي ذكرت فيه إلى منتصف القرن الخامس عشر ق. م، وهو رقم صادر من أمير ميتاني يدعى شاوشتار إلى أمير نوزي قرب كركوك، وتدل لهجة الخطاب على أن المخاطب كان تابعا، وكانت الدولة الميتانية إحدى أعظم ثلاث دول في الشرق الأدنى مع الدولتين المصرية والحيثية في ذلك الوقت.
وقد زحف الآشوريون على الدولة الميتانية واستولوا عليها ودمروا عاصمتها فاشوكاني أو رأس العين، إلا أنهم لم يستقروا بسبب الحروب بينهم وبين الحيثيين، الأمر الذي مهد لظهور الدولة الآرامية التي أسسها الملك كابارا بن قاديانو، وجعل قاعدتها عند ينابيع الخابور مختاراً تل حلف مقرا لها. ودلت المكتشفات على أن الآراميين اقتبسوا الفن السوبارتي، وظهرت لهم نشاطات في مجال البناء والإعمار، وأعطوا البلاد لسانهم الآرامي.. هذه الدولة لم تعمر طويلاً، في وقت بلغت فيه الدولة الآشورية أوج عظمتها وغلبت عليها روح السيطرة والفتح، إذ قام تيفلات تلاصر الأول ملك آشور بغزو الدولة الآرامية في القرن العاشر ق. م، ودمر مدينة تل حلف وما ضمته من قصور باذخة وأسوار رائعة. وتذكر مذكرات هذا الملك أن حروبا طويلة وطاحنة دارت بينه وبين الآراميين انتهت بطردهم في يوم واحد حتى قرقميش " حرابلس ". ومنذ ذلك الحين أصبحت الجزيرة السورية مقاطعة آشورية حتى انهيار هذه الدولة على يد الفرس الذين لم يعثر لهم على أي أثر في تل حلف في ذلك الوقت. غير أن الطبقة التي تعود للعصر اليوناني في التل تظهر مساكن أنيقة، والكثير من وسائل الترف والراحة، ثم حل الرومان محل اليونايين، واعتبارا من هذا العهد يبرز اسم رأس العين تحت أسماء سريانية ورومانية وعربية " رش عينا، آرسين تيوديوسيوليوليس، عين الوردة.. "، وأصبحت هذه المدينة تحتل مكانا مرموقا وجعلها الإمبراطور تيودوز في مصاف المدن الكبرى وحصنها تحصينا منيعاً، ووضع فيها حامية قوية حملة تيودوز بوليس نسبة له، وعلا شأنها، وكانت صراع بين الفرس والروم. ويذكر المؤرخون السريان أن كسرى الثاني تنازل عنها للرومان، ولكن القائد الفارسي أقراماهان غزاها بعد ذلك ودمرها على دفعتين سنتي 578 و 580 ميلادية واستولى عليها الفرس مرة أخرى عام 602 م، في عهد الإمبراطور فوكاس.
الفتح العربي لرأس العين
وقد بلغت رأس العين من القوة والعظمة ما جعلها تصمد طويلاً أمام الفتح العربي، في الوقت الذي فتحت فيه سائر مدن الجزيرة صلحا " حران، الرها، مروج، أكساس، العمق، ماردين، الرقة، ديار بكر.. " وذلك سنة 17 للهجرة.. واستعصى على جيش المسلمين بقيادة عياض بن غنم، فتح رأس العين بالحرب المواجهة، لولا استخدام الكثير من الحيل، وتحول قسم من جيش حاكم المدينة إلى صفوف المسلمين وقيامهم بفتح أبوابها أمام الجيش الإسلامي. وربما كانت مفاجأة لنا أن نعرف أن القائد العربي الكبير " خالد بن الوليد " قد وقع في الأسر في أثناء هذه المعركة، واقتيد هو وصحبه إلى برج القلعة بانتظار ساعة الحسم في المعركة التي شارك فيها عدد من خيرة أبطال العرب المسلمين أمثال " عامر بن سراقة، وضرار ابن الأزور، وعبد الرحمن بن الأشتر، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عياض بن وائل، وعبدالله بن قرط، والمقداد بن الأسود، وسعد بن غنيم الأسدي.. ".
معركة رأس العين هذه لم تكن سهلة، ولم تحسم إلا على مراحل، كانت كل مرحلة منها تمهيدا أساسيا وفعالا لفتح الطريق أمام المسلمين الذين حولوا رأس العين فيما بعد إلى مركز تجاري كبير ومحطة مهمة للقوافل بين أرجاء الإمبراطورية العربية. وذكرت بعض المصادر أن المتوكل وغيره من الخلفاء العباسيين قد نزلوا الجزيرة واصطافوا في رأس العين، وأن عملة عباسية ضربت يوما في هذه المدينة التي ارتفع شأنها حتى أصبحت محطة مهمة للقوافل التي كانت تذرع الطريق بين بغداد والرقة جيئة وذهابا، وساد رأس العين رخاء واضح زاد من ازدهاره زراعة القطن الذي كانت تمد به كلا من الموصل وأرمينيا بكميات كبيرة، وشهدت معارك شهيرة في التاريخ أشار إلى أهمها ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) حين قال: " عين الوردة " هي رأس العين المدينة المشهورة بالجزيرة، كانت فيها وقعة للعرب ويوم من أيامهم، وكان أحد رؤسائهم يومئذ "رفاعة بن شداد ". ولعل هذه الواقعة التي أشار إليها ياقوت الحموي هي التي جرت بين الكوفيين من أتباع علي بن أبي طالب، وبين جيش الأمويين القادم من الشام، بعد أن شعر الكوفيون بمرارة الندم على خذلانهم للحسين بن علي، وكان على رأس هذه الحركة رفاعة بن شداد الذي راح يدعو للثأر للحسين، وإلى جانب رفاعة كان عبدالله بن سعد الأزدي وعبد الله بن والي التميمي، وقال أحدهم داعيا إلى الثأر للحسين: صحوت وودعت الهوى والغوانيا وقلت لأصحابي أجيبوا المناديا وقولوا له إذا قام يدعو إلى الهدى وقيل الدعا لبيك لبيك داعيا ألا فانع خير الناس جدا ووالدا حسينا لأهل الدين إن كنت ناعيا فياليتني إذ ذاك كنت شهدته فضاربت عنه الشامتين الأعاديا سقى الله قبرا ضمن المجد والتقى بغربيه الطف الغمام الغواديا فيا أمة تاهت وضلت سفاهة أنيبوا فأرضوا الواحد المتعاليا وقد أعلن هؤلاء الثائرون خلع سلطان الأمويين فخرج لحربهم عبيد الله بن زياد من الشام في ثلاثين ألف مقاتل، والتقى الفريقان في رأس العين، ودارت بينهما حرب ضروس انتهت بتراجع الشاميين إلى بلادهم، لما رأوا صبر الثائرين وبأسهم رغم قلتهم. وفي عام 1129 م غزاها الصليبيون بقيادة جوسلان. وكغيرها من مدن الجزيرة تعرضت للغزو المغولي إبان حكم تيمورلنك الذي دمرها تدميراً شديداً. مكانة علمية وفكرية مرموقة ويقال إن رأس العين حازت على مكانة كبيرة في الحياة الفكرية والعلمية طيلة القرون الوسطى، وأنجبت عدداً كبير من العلماء والباحثين، منهم القسيس سرجيوس الذي لقب بشيخ أطباء المدينة وخيرة المترجمين عند اليعاقبة، والذي ضرب شوطاً بعيداً في ميدان الترجمة، ويقال إنه أول من عرّف السريان على مؤلفات أرسطو بواسطة ترجماته وشروحه، ومن كتاباته (مقال في العقيدة)، وله كتاب عن منطق أرسطو، وكتابات فلسفية عرف منها ترجمته لكتاب أرسطو إلى الإسكندر عن الكون، وكتاب عن الجنس والقرد، وتعزى له عدة ترجمات منها رسالة عن الإثبات والنفي وأخرى عن معنى الجوهر. وأكمل سرجيوس الراسعيني عمل أسلافه في المنطق، فنقل إلى السريانية كتاب الإيساغوجي ومقولات أرسطو، وله مؤلفات أخري منها " أسباب العالم حسب مبادئ أرسطو " وتميزت ترجماته بالأمانة والوضوح، وكان سرجيوس الراسعيني رئيساً لأطباء رأس العين، وترجم بعض مؤلفات جالينوس الطبية، ومنها صناعة الطب وخواص الأدوية والأدوية البسيطة، وألحق كلا منهما بقائمة تتضمن أسماء النباتات الواردة فيها ومقابلها بالسريانية، وكان سرجيوس من المهتمين والمشتغلين بعلم الفلك والتنجيم وترك رسالة في تأثير القمر وأخرى في حركة الشمس. وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، نجد أن المكتشفات الأثرية التي ظهرت في تل حلف، تخبرنا بالكثير عن المكانة العلمية والفكرية والثقافية المرموقة التي وصلت إليها رأس العين منذ أقدم العصور، فقد عثر في تل حلف على بعض المنتجات اليدوية من الفخار الملون، مما يدل على وجود مرحلة متقدمة من الحضارة، وربما استخدم هذا الفخار كبديل عن الأحجار الكريمة كاللازورد، حيث استعملت تلك المنتجات الفخارية في صناعة الجواهر والحلي والأختام الأسطوانية، وكان أهل رأس العين ذوي خبرة في تربية الخيل وصنع وسائل النقل، إذ صنعوا نموذجا جديدا من المركبات الخفيفة يجرها جوادان، ومنذ ذلك العهد صار للمركبة شأن كبير في ميادين الحروب. وقد كان تيشوب وزوجه شيبات، والربة الحورية شاوشكا بمنزلة عشتار عند المصريين، وكان أبو الآلهة الحورية كوماربي، أشد تأثيرا على أهالي رأس العين بأساطيره، وقد شكلت الآلهة ركائز الطقوس الدينية للدولة، ومن المكتشفات التي تنير بعض المفاهيم، الأختام العائدة لعصر المملكة الميتانية الكبري، فالأعداد الضخمة من الأختام الأسطوانية المعروفة والمصنوعة من الخزف وطبعاتها على الرقم الطينية، تقدم رصيداً كبيراً يصور آلهة الدولة في وضع الصلاة أو في رتل قيادي. ويشكل المشهد القديم للاعتقاد ببعث الحياة بعد الموت محور الموضوعات التي طرقتها الأختام، وبالإضافة لذلك تم اكتشاف قطع من البرونز كالعقود والأساور والخواتم في الطبقة الآرامية، كما وجدت مقبرة ترجع لعهد كابارا، عثر فيها على قطعة تمثل صحيفة رقيقة من الذهب كانت توضع على فم الميت لمنع الأرواح الشريرة من الولوج إلى جسده. ووجدت أيضا علبة من العاج محلاة بخيوط ذهبية، وفي داخلها خمسة أقسام، وجد في أحدها بقية من طلاء أحمر، وإلى جانب العلبة أداة فضية صغيرة لمد الطلاء، وربما دل هذا على أن الملك كان يطلي وجهه بالحمرة، ولاسيما إذا كان ذا مكانة مرموقة، واكتشفت بعثة ألمانية في عام 1955، بقايا معبدصغير يرجع إلى العهد الآشوري الأول، كما عثرت على مصنوعات عظمية وعاجية، وعلى كئوس لها قواعد متقنة الصنع من العهد الآشوري الأوسط، وعلى أدوات خزفية من العصر الآشوري الجديد، وتدل ضخامة المكتشفات على أن الحكم الآشوري كان أطول العهود، ومنذ عدة سنوات وخلال عمليات حفر كانت تقوم بها بلدية رأس العين، عثر على تمثال من الحجر البازلتي الأسود طوله متران له لحية طويلة، ويعود إلى العهود الآشورية.
ومن المكتشفات الأثرية المهمة التي عثرت عليها البعثات الأثرية، الهيكل الملكي الذي بناه الملك الآرامي كابارا بن قاديانو، إذ عثر على اسم هذا الملك على أحد الجدران المكتشفة، وعثر أيضاً على جدار له خمس دعائم مربعة الشكل، وأكثر من مائة لوحة صخرية تعود إلى العهد السوباري، وتدل على أن إنسان رأس العين كان قد تقدم في أساليب حياته التي تقوم على الزراعة، كما استطاع صنع أوان فخارية متقنة ذات ألوان متعددة لامعة. وأكثر من هذا عرف إنسان رأس العين كيف يصهر النحاس ويصنع منه أدوات مختلفة، ورسم على الأدوات الفخارية الثور المقدس، وصنع تماثيل صغيرة من الطمي المحروق تمثل سيدات أعضاؤهن ممتلئة، ولونت هذه التماثيل بالألوان والأسلوب نفسه الذي لون به الفخار.
وأجمل ما أظهرته المكتشفات، أدوات صيد الوحش وصور العربات التي يجرها حصانان ويركبها محاربان، وصور المعارك التي تدور بين إنسان رأس العين والأسود والحيوانات المفترسة، وكذلك صور الطيور، وأبرز فنانو رأس العين قدرتهم على تزيين إطار الصور بصور النخيل ورسم الحيوانات بمختلف أنواعها بصور ناطقة توحي لمشاهدها بقصص شبيهة بقصص كليلة ودمنة. واشتهر سكان رأس العين بصناعة السكاكين والفئوس والصحون والأقداح والقناديل الخزفية، كما اشتهرت نساء رأس العين بتزيين أنفسهن بالجواهر والحلي واللؤلؤ، فقد عثر على خواتم مرصعة بالأحجار الثمينة وأساور ذهبية.
موقع رأس العين وعيونها
تقع مدينة رأس العين في الشمال الغربي من الجزيرة السورية، التي تسمى اليوم ضمن التقسيمات الإدارية في الجمهورية العربية السورية، محافظة الحسكة التي تحتل الجزء الشمالي الشرقي من سورية، ويحدها من الشمال تركيا ومن الشرق العراق ومن الغرب محافظة الرقة ومن الجنوب دير الزور، وتبلغ مساحتها 23 ألف كم مربع، وتبعد مدينة رأس العين مسافة 90 كم تقريبا عن مركز المحافظة مدينة الحسكة. أما سبب تسميتها برأس العين فيعود لوقوعها على أكبر عيون منابع نهر الخابور، الذي كان ينقل تجارتها إلى بغداد وبقية مدن ما بين النهرين. وقد وضعها ابن حوقل في مقدمة المدن التي حددها على خريطة نهر الخابور التي رسمها. وقد وضع ترتيب المدن كالتالي من الشمال إلى الجنوب: رأس العين، عرابان، سكير العباسي، طابان، الجحشية، تنينير، العبيدية ووصفها الإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق) بقوله: " رأس العين مدينة كبيرة وفيها مياه نحو من ثلاثمائة عين عليها شباك حديد تحفظ ما يسقط فيها، ومن هذه المياه ينشأ معظم نهر الخابور الذي يصب في قرية البصيرة، وعليه لأهل رأس العين مدن كثيرة منها عرابان وهي مدينة حسنة، وبين عرابان والخابور مدن حسنة تقرب من ضفة الخابور، فمنها ما يلي: عرابان وطابان والحسينية والعبيدية.. ".. ووصفها ابن حوقل في كتابه صورة الأرض: " وكانت رأس العين مدينة ذات سور، وكان داخل السور لهم من المزارع والطواحين والبساتين ما كان يقوتهم لولا ما منوا به من الجور الغالب، والبلاء الفادح، وفيها من العيون ما ليس ببلد من بلدان الإسلام، وهي أكثر من ثلاثمائة عين جارية كلها صافية يبين ما تحت مياهها في مرورها على أراضيها، وفيها غير عين لا يعرف لها قرار" .
وقال عنها ياقوت الحموي: " هي مدينة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر، وفي رأس عين عيون كثيرة عجيبة صافية، تجتمع كلها في موضع فتصير نهر الخابور، وأشهر هذه العيون أربع: عين الآس وعين الصرار وعين الرياحية وعين الهاشمية.. "، وقال الحموي أيضاً: " الخابور هو اسم لنهر كبير بين رأس عين والفرات من أرض الجزيرة ، ولاية واسعة وبلدان جمة غلب عليها اسمه. فنسبت إليه من البلاد قرقيسياء وماكسين والمجدل وعرابان، وأصل هذا النهر من العيون التي برأس عين، ثم ينتهي إلى قرقيسياء فيصب عندها في الفرات.. ".
عين الكبريت
في عام 1962 انتبه الناس لظهور فوهة صغيرة يتدفق منها ماء أخضر، على بعد ستة كم من رأس العين، ومنذ ذلك الوقت ظلت تلك الفوهة تتسع وظل تدفق المياه الكبريتية في ازدياد، حتى صارت الفوهة بحيرة صغيرة، وصار النبع نهراً يعطي 43200 متر مكعب/ ساعة. تبلغ درجة حرارة هذا النبع المسمى حاليا بعين الكبريت 27 درجة مئوية، وهو يحدث شلالات أخاذة عند مصبه، الوقوف تحتها يغني عن المساج ويجعل كل خلية من خلايا الجسد تعلن عن سرورها بطريقتها الخاصة. وعين الكبريت ما هي إلا حفرة دائرية كبيرة، يتفجر منها ماء أخضر زاه، ويدور حول نفسه بقوة عظيمة، حتى ليبدو وكأنه يغلي قبل أن يفور ويندفع خارج إنائه الترابي الأحمر، منطلقاً في مجرى متعرج شديد الانحدار، تتصدره صخور بيضاء، ثم ينتهي في بحيرة صغيرة يتشكل عندها شلال جميل ومتسع، وسرعان ما تمتزج مياه النبع الكبريتية بالمجرى العام لنهر الخابور. ويقدر بعضهم عمق هذا النبع بمائتي متر وأكثر، وبعضهم يدعي أنه ليس له قرار. أما غزارته التي قيست بشكل دقيق، فقد بلغت 458 م مكعب/ ثا. ولهذا فعين الكبريت بالمقارنة مع الينابيع الموجودة في سورية، تعتبر مصدرا عملاقا لمياه معدنية نادرة الوجود في المنطقة، وهي أيضا من الينابيع المعدنية الضخمة في العالم، مياهها دافئة قدرت حرارتها في شهر شباط ب 27 درجة مئوية وهي نافعة صحيا، ومن المعتاد أن يستحم الناس بها عند نهاية المجرى المنحدر من العين، حيث تتشكل بحيرة صغيرة قليلة العمق، هادئة المجرى نسبيا، تزدحم بالراغبين في العلاج الطبي، بواسطة المياه المعدنية، حيث أثبتت التحاليل التي أجرتها وزارة الصحة في سوريا، أن المياه الكبريتية الموجودة في رأس العين تصلح لمعالجة الكثير من الأمراض الجلدية والرئوية. ويؤكد أحد أطباء الجلدية في محافظة الحسكة (د. جورج حداد) أن المياه الكبريتية تقوم بالمساعدة على شفاء وعلاج نسبة كبيرة من الأمراض الجلدية، لاسيما الشائع منها مثل الأكزمة الدهنية والسيلان الدهني والجرب، وهذه تشكل نسبة عالية من أمراض الجلد تصل إلى 16 %، ومن خلال التحاليل الكيمائية التي أجريت في مختبرات المديرية العامة لحوض دجلة والخابور، تبين أن تركيز الكبريت يبلغ في مياه هذا النبع بين 1/ 10 إلى 2/1 في اللتر الواحد. وهذا التركيز مقبول علاجيا فيما إذا استمرت مدة العلاج إلى ثلاثة أسابيع تقريبا. ذلك أن مادة الكبريت تطهر الجلد من خلال قيامها بفعل مضاد للجراثيم، كما تذيب الشحوم عن سطح الجلد، وتسهل إزالتها ميكانيكيا، ولها فعل قاتل لما يسمى بقارمة الجرب، إذ من المعروف أن الكبريت كان العلاج القديم الأفضل لمعالجة الجرب قبل اكتشاف بنزوات البزيل.
إن عين الكبريت تستطيع أن تهب المياه لسلسلة ضخمة جدا من المصحات التي تعتمد أساليب العلاج الطبيعي بعيدا عن الأدوية والعقاقير الطبية، إلى جانب المنتجعات السياحية الهادئة التي يمكن أن تزود بمسابح وملاعب ووسائل الراحة والترويح عن النفس.
رأس العين الآن
يقدر عدد سكان منطقة رأس العين حاليا بزهاء مائة ألف نسمة، بمن في ذلك سكان ناحية الدرباسية التابعة لمنطقة رأس العين. أما عدد سكان مدينة رأس العين ذاتها فيقدر بعشرين ألف نسمة، يعمل معظمهم بشكل أساسي بالزراعة، وذلك بسبب كون رأس العين منطقة زراعية بالدرجة الأولى، فهي تضم أراضي خصبة ذات مساحات كبيرة، إذ تبلغ مساحة منطقة رأس العين 367340 هكتاراً، منها 338474 هكتارا أراضي زراعية، تخضع لخطة التكثيف الزراعي، وتزرع بالحبوب " قمح، شعير، حمص، عدس، ذرة صفراء، سمسم، فول صويا " وبالقطن، ويوجد في المنطقة 6 مطارات من أجل هبوط وإقلاع الطائرات الزراعية العاملة في مجال مكافحة الأعشاب الضارة والآفات التي تصيب المحاصيل. كما توجد 16 وحدة إرشادية زراعية، ودائرتان للرعاية البيطرية لتقديم الخدمات الصحية للثروة الحيوانية، و 103 جمعيات تعاونية فلاحية، ومنشأتان لمزارع الدولة، ومصرفان زراعيان لتمويل المزارعين والجمعيات بالقروض النقدية والعينية، بالإضافة إلى عدة مراكز لشراء وتسويق المحاصيل الزراعية، وصوامع للحبوب وثلاثة مراكز للأعلاف، ومجفف ذرة صفراء.
ويوجد في منطقة رأس العين 13 مخبزا خاصاً، ومخبز واحد آلي تابع للدولة لإنتاج الخبز العربي المرقد، كما توجد ثلاثة مخابز للقطاع الخاص لإنتاج الكعك وبعض المعجنات، وجمعية تعاونية استهلاكية ومركز لتجارة التجزئة ومركز للمؤسسة الاستهلاكية وثلاثة مخازن استهلاكية للعاملين في الدولة، وخمسة مراكز صحية، ومشفى طبي قيد الإنجاز سعة 150 سريراً.
ويحتضن المركز الثقافي الموجود في المنطقة كل الفعاليات الثقافية والأدبية والفكرية والفنية، وفق برامج وخطط معينة لهذه الغاية. كما يقوم المركز بمحو أمية عدد كبير من المواطنين الأميين في كل عام، وتضم المنطقة ناديين رياضيين، يضمان فرقا في الألعاب الجماعية والفردية، ولا سيما كرة القدم والسلة والطاولة والشطرنج والدراجات وكمال الأجسام والكاراتيه ورفع الأثقال. وتضم أيضا ستة موجهين تربويين يشرفون على 238 مدرسة ابتدائية تضم 19739 تلميذاً وتلميذة، يقوم بتعليمهم 488 معلما أصيلاً ً و 288 مدرسا مساعداً و 121 معلما وكيلا. ويوجد في المنطقة أمينا سر للتعليم الإلزامي، وخمس مدارس إعدادية تضم 3198 طالبا وطالبة، وأربع مدارس ثانوية تضم 500 طالب وطالبة، وثانوية صناعية واحدة تضم 115 طالبا وطالبة يتعلمون كهرباء السيارات والحدادة واللحام، إضافة إلى التعليم المهني " ميكانيك بنزين " والفنون النسوية اختصاص فن التفصيل للسيدات.
بقي أن نذكر أن منطقة رأس العين تضم بلدتين واحدة في مدينة رأس العين، والثانية في ناحية الدرباسية، وهما تقومان بتنفيذ مشاريع خدمية متعددة في المدينتين، كمشاريع الطرق والمياه والكهرباء والصرف الصحي والحدائق من خلال موازنات مالية مخصصة من الدولة من أجل تنفيذ تلك المشاريع التي تهدف إلى تحسين واقع المدينتين من ناحية الخدمات والمرافق، ورفع المستوى المعيشي والحياتي للسكان.
رأس العين اجتماعيا
تشكل القبائل والعشائر العربية الغالبية العظمى من سكان منطقة رأس العين، هؤلاء السكان الذين ما زالوا يحافظون على العادات والتقاليد العربية الأصلية في كل مجالات حياتهم وتعاملهم، فهم كرماء، مضيافون ويعتزون بعروبتهم ويفاخرون بها، ومخلصون في تعاملهم مع الآخرين، ويعملون بكل جد ونشاط في الأرض والزراعة، ولهم بعض النشاطات التجارية والاقتصادية الأخرى. وبالمقابل نجد أن هناك. بعض العادات والتقاليد بدأت تضمحل شيئاً فشيئاً، ولا سيما تلك العادات التي لها تأثير سلبي على العلاقات الاجتماعية بين العوائل والأسر، وتبرز هذه الظاهرة بشكل واضح في أمور الزواج، إذ لم يعد لعادة " الحيار" مثلا ذلك الوجود الذي كان لها في السابق، والحيار معناه أنه يحق لابن العم أن يتزوج ابنة عمه رغم أنفها سواء قبلت بهذا الزواج أم لم تقبل. وإذا ما أصرت الفتاة على رفض الزواج من ابن عمها لسبب أو لآخر، يصبح من حقه في هذه الحالة " تحييرها " عندها لا يجرؤ أحد على خطبتها، أو مناقشة ذويها بأمر زواجها إلا بعد رفع " الحيار" من قبل ابن عمها، وموافقته على هذا الزواج.
وفي الأغلب يتم الزواج في منطقة رأس العين، وخاصة في الريف، في سن مبكرة بعض الشيء بالنسبة للشباب والبنات على حد سواء، ولا يتم هذا الزواج دون المهر، الذي يختلف تبعا لمنزلة الفتاة الاجتماعية، وقد يلجأ البعض تخلصا من المهر- الذي قد يكون مرتفعا- إلى الزواج عن طريق التبادل، أي فتاة مقابل فتاة، وهذه العادة تسمى البديلة وقد خفت وطأتها كثير في هذه الأيام بسبب نتائجها السيئة على الأسرة. وللزواج مراسم وعادات معينة، فبعد الخطبة وعقد الزواج، تقام الدبكات قبل عدة أيام من الزفاف، الذي يتضمن انتقال العروس إلى دارها الجديدة، وتقديم الولائم العامرة للزوار والمهنئين والمشاركين بحفل الزفاف.
أما اللباس والزي في منطقة رأس العين فله نموذجان، الأول هو النموذج العصري المكون من السترة والبنطال، ويكثر انتشاره في المدينة، كما بدأ الجيل الشاب في الريف بارتدائه لكونه يسهل لهم الحركة وحرية العمل. والنموذج الثاني هو النموذج العربي المكون من الثوب الطويل الفضفاض ذي الكمين الطويلين يمكن للرجل أن يرتدي فوقها الزبون أو السترة أو الجاكيت، وفي فصل الصيف يرتدي بعض الرجال فوق الثوب العباءة الرقيقة الشفافة التي تسمى " الشالة "، وينتعلون حذاء على شكل نعل مصنوع من الجلد يسمى " الكلاشي "، وفي فصل الشتاء تستبدل بالشالة عباءة مصنوعة من القماش الثخين الأسود المبطن بجلود الغنم والخراف ذات الصوف الوفير من أجل حماية الجسم من البرد القارس، ويغطى الرأس بالكوفية أو الحطة المصنوعة من الحرير أو القطن الأبيض أو الملون، وتثبت هذه الحطة بالعقال الأسود المصنوع من الصوف أو شعر الماعز.
وترتدي المرأة ثوبا فضفاضا طويلا جدا يغطى بثوب آخر طويل لكنه مفتوح من الأمام يسمى الزبون، له كمان طويلان ترتد فوق الكتفين وتعقد من الخلف على الظهر، وفوق الزبون يمكنها أن ترتدي سترة تسمى " الكطش " وخاصة في فصل الشتاء، وتغطي رأسها بالملفح المثبت بالعصابة المصنوعة في الغالب من الحرير الرقيق، وتسمى " الهباري "، في حين ترتدي الفتيات والنساء في المدن الزي العصري، لاسيما المتعلمات والموظفات والعاملات.
وفي السنوات الأخيرة أخذت البيوت الأسمنتية تنتشر بكثرة في منطقة رأس العين، مدنا وريفا، لتحل محل البيوت الطينية المبنية من اللبن الترابي.
دعوة من القلب
شعب رأس العين، شعب طيب وكريم ومضياف، وهذه دعوة مفتوحة من القلب من أجل زيارة هذه المنطقة العريقة ذات التاريخ الحافل بالحضارات، والتي تتميز بينابيعها الصافية وعيونها الرقراقة، وبيئتها الخلابة. ويفضل أن تكون الزيارة في فصل الصيف، حيث تفتح مقاصف المدينة أبوابها للزوار بصدر رحب لمدة ثلاثة أشهر، ثم تغلق أبوابها عند حلول البرد وموسم الأمطار، ونحن على ثقة من أن الزائر سيتمنى أن تطول مدة زيارته ومكوثه في أحد مقاصف رأس العين لأنها ليست مقاصف عادية أو تقليدية. فالزبائن هنا لا يجلسون في الظل وهم يتأففون من حرارة الصيف الملتهبة وعيونهم على الماء الذي يجري من حولهم في الجداول والسواقي، بل يجلس الزبائن في الماء. فالطاولات والكراسي مزروعة وسط الجداول والسواقي الآتية من الينابيع والعيون، وإذا ما أردت أن تتمتع بوجبة فريدة من نوعها يبقى طعمها تحت لسانك طيلة عمرك، فيجب عليك أن تخلع حذاءك وتشمر بنطالك أو ثوبك إلى ما فوق الركبة، وتخوض في الماء إلى أن تصل الطاولة المخصصة لك فتجلس وسط المياه الصافية، وإذا ما شعرت في أثناء جلوسك بأن ثمة أجساما حية تنقر قدميك تحت الماء فلا تخف، فهذه أسماك صغيرة تأكل الخلايا الميتة من جلدة قدميك، كما لو أنها تريد الانتقام منك سلفا، نيابة عن الأسماك الخابورية اللذيذة جدا ذات الحسك القليل، والتي ستأكلها بعد قليل، فهل تريد تلك الأسماك الصغيرة أن تذكرك من خلال هذا العمل بدورة الحياة، وأن كل ما يأكل سيؤكل.. ولو بعد حين؟!.