اليابان وأمتنا العجيبة

اليابان وأمتنا العجيبة

قرأت في مجلة العربي في عددها الصادر شهر فبراير 2008م مقالاً للدكتور سليمان العسكري وهو يتحدث عن أمة اليابان، هذه الأمة العجيبة وشعبها المدهش وشبابها الطموح، وكهولها العاملين، ولعل الإنسان العربي البسيط تظهر على محياه علامات الدهشة والاستغراب عندما ينظر إلى حال اليابان التي نهضت عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، بينما تحبطه أمته، وهي عبارة عن سلسلة هزائم متكررة طوال قرون، ولم يستثاروا لمكانتهم المتأخرة عالميًا، ولم يتحركوا لوضعيتهم النائية، ولم يحاولوا حتى مجرد التغيير أو البحث عن الأفضلية، وليس من السهل بمكان الإجابة عن هذه الأسئلة، ولكنها أسئلة تتكرر مع كل نكسة، ولعل معضلتنا نحن العرب معقدة التركيب وشائكة لتراكمها التاريخي الطويل، وهي تحتاج بالفعل لتضافر علماء الدين ورجال الثقافة والفكر والسياسة والحكم لحل هذه الإشكالية وتجاوزها التراكم الهائل من ثقافات الخمول والتراخي والاستبداد الاجتماعي والفكري والضعف المهني في العمل، واحتقار الغير في العادات ولغة القتل عند الاختلاف، وسواها من الأمور المتأصلة في بنية العقل العربي، ومحاولة الاستفادة بثقافات العالم الجديد للانعتاق من أسر التعسف، واحترام الاختلاف، وتقدير الوقت، والانضباط في العمل، والجودة في الأداء، وقبول التنوع وتأصيل الحرية والعقلانية في التفكير وتحمل المسئولية، وتفهم الآخر، وغرس شغف المعرفة وحب الاستطلاع، ولغة الإقناع وكلها من السمات الغائبة عن الشخصية العربية، بينما هي محل تنافس وتباهٍ عند الآخر. والغريب الذي يندى له الجبين، ليس ذلك فحسب، بل إن غياب قيم بديهية كالنظافة والنظام مصيبة فادحة وكارثة عظمى في زمن العولمة، خصوصًا أن تلك القيم الإنسانية الغائبة عن الشخصية العربية يدعو إليها الدين الإسلامي، ولا يوجد أي تناقض بينهما، لكن التناقض في المناهج وغياب التطبيق سواء عن طريق القدوة أو التأثر والتفاعل.

والالتفات إلى التجربة اليابانية أمر مهم بالنسبة للعرب نظرًا لتشابه الظروف التاريخية بينهما في البداية، ولكن معجزة اليابان ومفاجأتها العالم بقلب ظهر المجن لمصلحتها وتصدّرها العالم اقتصاديًا، جعل بون الاختلاف بيننا وبينها شاسعًا، لذا كانت بمنزلة الإلهام لتجارب ناجحة أخرى في ماليزيا وسنغافورة، بينما نحن العرب آثرنا الانغلاق على الذات والغوص في التاريخ، وعندما انكشف العالم على بعضه، قدمنا نماذج سيئة له من خلال القتل والتهديد والتعصب، وهانحن الآن ندفع الثمن بانشغالنا في إظهار صورة الإسلام الحقيقية لهم.

اليابان استخدمت لغة العقل والمنطق في تخاطبها مع العالم ولم تستخدم العضلات ولا طرق الخيال في حواراتها معهم، لذا اكتسبت ودّ واحترام العالم، ومن هنا كان التفاهم والتفهم لأمورها وشئونها الداخلية.

وتجربة اليابان الاقتصادية بدأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، والغريب أن هذه السياسة لم تضع التصدير في حسبانها بقدر ما وضعت سياسة الاكتفاء الذاتي لشعبها، ولكن الحرية الاقتصادية التي منحتها الدولة لشعبها أوصلت المنافسة بين الشركات المحلية إلى ذروتها، وبالتالي اتجهت للتصدير الخارجي، والمدهش أنها لا تمتلك الحديد لصناعاتها الضخمة وتصنيعها الهائل وتستورده من الخارج وتقيم عليه صناعاتها!!

وعندما تتحدث عن اليابان، فإنك تتحدث عن العمل، وبالمقارنة نجد أن مفهوم العمل لدينا يختلف عما لديهم، فالضعف متأصل بيننا بينما العمل يعطي اليابانيين معنى وهدفًا للحياة وثقافتهم هذه سحرت دول شرق آسيا لاحقًا، وتأثرت بها بعدما جعلت اليابان مثلها الأعلى، فاليابانيون يقولون دائمًا: (إذا كان العالم يلهو فاليابان تعمل).

والفرد الياباني أيضًا بقدر احترامه للعمل وتفانيه في إنجازه وحرصه الشديد على إتقانه، إلا أنه يتصف أيضًا باحترامه لإجازته السنوية، والتي يخطط لها، لأنه يعرف أيضًا أهمية ومعنى الراحة، فيمنح جسده حقه من الاستجمام والسياحة، ويمتع عقله بالتنقل الحر والتغيير الإيجابي، ويعطي أسرته حقها من التفرغ، ويمنحها الوقت لمعالجة أوضاعها وتحسين ظروفها، ولذا فهو عاشق للحياة في العمل والإجازات.

المجتمع الياباني مجتمع معلومات، لا يستقبلها فقط، بل يتفاعل معها أيضًا، وتكمن وراء هذه الخصائص البشرية العالية رغبة شديدة وإرادة ملحة تجاه المعرفة وشغف متوقد واهتمام غير طبيعي بالعلوم الإنسانية المتنوعة. وينمو الأطفال والأبناء على هذا، ولا يترددون في طلب العلم حتى من ألد أعدائهم وأشد خصومهم ضراوة لهم، ولذا فلا تتعجب من أمر هذا الشعب وتعجب من أمرنا نحن العرب.

عبدالله بن أحمد الباكري
السعودية - خميس مشيط