السينما العربية... والبحث عن الهوية

السينما العربية... والبحث عن الهوية

عرضت أخيرًا أغلب وأهم أفلام السينما العربية في المهرجانات المتتالية التي أقيمت في دمشق والقاهرة، ومن ثم مراكش، وصولا إلى مهرجان دبي السينمائي والذي يهتم في مسابقته الرسمية بالأفلام العربية تحديدا، بالتالي أمكن الالتفات إلى التيمات المشتركة والتوجهات التي تغلب على الأفلام، باعتبار الواقع العربي متشابها إلى حد كبير في القهر الذي يمارسه على الأفراد، سواء على الصعيد السياسي، أو الاجتماعي أو الاقتصادي.

وبما أن السينما انعكاس لهذا الواقع المكبوت والمشوه بعلاقاته كان لا بد من التعبير عن الرغبة في الانعتاق عن طريق الحلم باعتباره المتاح الوحيد، أو انكسار الحلم عند اصطدامه بالواقع.

وبين الماضي والحاضر، الحلم والحقيقة، الروح والجسد، الحب وتلاشيه... تناقضات وأسئلة طرحت في سينمانا العربية بشكل مباشر أو ملتف، فهل استطاعت تجسيدها؟ وهل نجحت في نقل تفاصيل الواقع والبيئة المحيطة بصدق دون تكلّف أو تعقيد أم بقيت على السطح؟

واقع سياسي

وباعتبار القهر السياسي هو المحرك والمولد لأغلب إشكاليات المجتمع والأفراد نجده مجسدا في السينما السورية التي شاركت هذا العام بفيلمين «الهوية» للمخرج غسان شميط، و«خارج التغطية» من إخراج عبد اللطيف عبد الحميد.

يعود فيلم «الهوية» ليطرح قضية الجولان، بالعودة إلى الماضي، محاولا الربط بينها وبين القضية الفلسطينية، ونقل واقع الاحتلال وممارساته من خلال قصة حب انتهت بانتحار الشاب فداء للحبيبة، وبعد عشرين عاما عاد ليموت فداء للوطن.

قضايا كبيرة تغري المخرجين السوريين حتى الآن ومانشيتات عريضة لم يفلح أغلبهم في نقلها ببساطة بعيدا عن الشعارات، وإن أرادوا التبسيط كما في فيلم «الهوية» وقعوا في فخ البقاء على السطح!! ومن القهر الذي يمارسه العدو الخارجي، إلى قهر السلطة وممارساتها وانعكاسها على تفاصيل الحياة اليومية وما تولده من قهر إنساني وكبت وعلاقات مشوهة في مدينة دمشق بطلة فيلم «خارج التغطية» الذي يحكي قصة صديقين (عامر وزهير)، يغيب زهير قسرا لمدة عشر سنوات في السجن السياسي، يهب خلالها عامر نفسه، وحياته لزوجة صديقه الغائب وابنته، ثم يقع في هواها في الوقت الذي تبدو حياته مع زوجته فاترة المشاعر ومتوترة بسبب عزوفه عنها ووجود زوجة صديقه كمنافسة لها. وعند وصول خبر الإفراج عن زهير يقرر عامر الوشاية به مجددا كي لايخسر حياته التي اعتادها وحبه، وهذا يتناقض مع الشهامة التي دفعته في البداية للاعتناء بعائلة صديقه... وإن لم يستطع القيام بالفعل، لنراه وحيدا خاسرا في نهاية الفيلم.

يبدو أن عبد اللطيف بالرغم من محاولته تصوير دمشق المدينة وتفاصيلها وطبيعة الحياة فيها وعلاقاتها، فإنه لم يدخل نسيجها ولم تدخل نسيجه حتى في أفلامه المدينية السابقة (صعود المطر، نسيم الروح).

الجميع في هذه المدينة الجميلة مأزومون، غير قادرين على الحب أو التواصل مع الآخر.

حالة حب

هذا التشوه في علاقات الحب المحكومة بالبيئة والظرف والمجتمع الاستهلاكي، ولّد رغبة في العودة إلى الزمن الجميل والحب الطوباوي الذي نشاهده ربما في السينما فقط وأخيرا في الفيلم المصري «شقة مصر الجديدة» للمخرج محمد خان الذي نال جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دمشق السينمائي كما عرض في مهرجان دبي.

بنى المخرج فيلمه على أغنية «أنا قلبي دليلي...» وأستاذة الموسيقا المختفية رمز الزمن الجميل، إلا أنها حاضرة بما كرسته في أذهان طالباتها حول الشريك والحب. وتبقى إحدى طالباتها التي أصبحت بدورها مدرّسة موسيقا في المدرسة ذاتها تبحث عنها إلى أن وجدتها كما وجدت حبّها رغم اختلاف بيئتهما وعالميهما.

يسعى الفيلم إلى خلق «حالة» وصورة مثالية مرتبطة بالماضي وكأن الحاضر لا يحمل في طياته أشكالا وطرق تعبير مختلفة عما مضى.

ولا بد للحلم أن يرتبط بالموسيقى، لذا نجدها واحدة من أبطال الأفلام العربية أخيرا، ومفتاحا للحب كما في الفيلم المغربي «عود الورد» للمخرج لاحسن زينون. الذي ربط فكرة قهر المرأة بقهر الموسيقى، ورغم أن أحداث الفيلم تدور عام 1915 حيث كانت المرأة تعامل بشكل مهين وكأنها ملكية خاصة للرجال، يجد المخرج تشابها كبيرا بين الظروف في تلك الفترة ويومنا هذا. (عود الورد) بطلة فيلمه فتاة بارعة في العزف وسيدها الثري معلّمها أيضا يحبها ويغتصبها، تنقله بعزفها إلى عالم آخر وفي الوقت ذاته يغار من تميّزها كما تغار نساؤه اللواتي ينتقمن منها بقتل الجنين الذي حملت به من السيد، ورغم ذهابها إلى مصح للمجانين فإنها تتحرر في النهاية مع عجز السيد. لم يستطع الفيلم التأثير في المتلقي وبالرغم من استخدامه كل العناصر المؤثرة كالموسيقا والحب وأجواء المغرب السحرية فإنها حكاية مكررة، إضافة إلى أن أسلوب معالجتها لم يأت بأي جديد. وربما كان سبب خيار المخرج للموسيقا هو إعجابه الذي عبّر عنه في إحدى حواراته بمقولة المتصوف جلال الدين الرومي: «من بين الطرق التي تؤدي إلى الله اخترت الموسيقى والرقص».

ذلك أيضا حال مخرج الفيلم المصري: «ألوان السما السبعة» سعد هنداوي الذي بدأ فيلمه بأبيات شعر للمتصوف ذاته:

لقد سما الجسد الترابي
من العشق حتى الأفلاك
وحتى الجبل بدأ بالرقص وخفّ».

فالموسيقا والرقص وسيلتان لسمو الروح والتحليق بعيدا عن الأرض والواقع ومشكلاته يستخدمها أبطال الفيلم للتحرر من أجساد تلوثت نتيجة ظروف حياتية صعبة، فالفتاة حنان (ليلى علوي) كانت تبيع المتعة للراغبين، أما بكر (فاروق الفيشاوي) راقص الميلوية فلم يكن أفضل فقد شبه نفسه بالراقصة التي تبيع جسدها أيضا، وهنا نسف المخرج الانتشاء الذي يولده هذا النوع من الرقص والحالة الروحية والارتفاع عن الأرض. وبالرغم من حصول حنان على الهجرة التي سعت لها طويلا هربا من مجتمع بات يعرفها ويدينها فإنها تتراجع لتتزوج بكر.

لم يستطيع الفيلم الولوج إلى فلسفة التصوف والرقص الصوفي وهذا واضح من علاقة الشخصيات بأجسادها، برغم أن جلال الدين الرومي مثلا كان يعطي الجواري لتلاميذه للتخلص من توتر وضغط الجسد والتركيز على الصفاء الروحي، لذا بدا وكأن المخرج استخدم «الميلوية» كفلكلور فقط ووسيلة لطرح فكرته. ويبدو أن توظيف الفلكلور والبيئة في الفيلمين السابقين كان موجها لعين المتلقي الغربي. لذا غالبا ما تبقى هذه الأفلام على السطح غير قادرة على تصوير المجتمع بواقعية، بل أقرب إلى الحلم حتى في حلولها.

سينما متأرجحة

تلك القراءة السريعة لمجموعة الأفلام السابقة تظهر اشتراكها في العديد من المعطيات والشخصيات والتيمات.

فجميع العلاقات مشوهة ومأزومة، لا وجود لعلاقة طبيعية أو مكتملة، جميع الشخصيات تريد الهرب من واقعها سواء بالسفر أو الحلم أو الرقص والموسيقى... مهما كان الثمن. ويبقى السؤال: إلى أي حد نجحت هذه الأفلام في رصد حقيقة الواقع وتجسيد أثرها في الشخصيات؟

أضف إلى ذلك المباشرة في الطرح ومحاولة تحميل علاقات إنسانية كالحب أكثر مما تحتمل، والتركيز على فكرة واحدة فقيرة بتفاصيلها وتكريس فيلم طويل لها.

كل ذلك جعل السينما العربية بشكل عام هزيلة تبحث حتى الآن عن هوية لها، تتأرجح بين خصوصية البيئة وعمومية الحالة الإنسانية، تتوجه حينا إلى الجمهور العربي وحينا آخر تطمح إلى المتلقي الغربي فتقدم له صورة لافتة تساهم في حصد الجوائز والحصول على التمويل من الخارج. لكن غاب عن مخرجينا أن الفيلم مهما كان غارقا في الخصوصية، إن حمل الصدق في علاقاته والبساطة في عرض قضاياه فإن ذلك كفيل أن يصل به إلى العالمية كما في الفيلم اللبناني «سكر بنات» لمخرجته نادين لبكي الذي لامس القلوب على اختلاف الجمهور وبنسب مختلفة لقدرته على نقل الواقع اللبناني وتفاصيله واشكالياته (علاقات الحب/الدين/الشذوذ الجنسي/المجتمع الذكوري...) بشكل بسيط وعميق.

نساء يعملن أو يزرن صالون التجميل فلا يحول الدين أو الاختلاف بين صداقتهن بل يجمعهن الحب والوقوف إلى جانب بعضهن كلما اشتدت الأزمات. شفافية الفيلم تنتقل إلى المتلقي وتهزه من الداخل بسبب كم الحب والجمال، برغم كل الإشكاليات المحيطة. فالمخرجة لا تدين شخصياتها أو تحكم عليهم بل تعشقهم بكاميرتها وتظهر تناقضاتهم التي هي تناقضاتنا.

أفلام حرب

في حين تناول فيلم "تحت القصف" الذي نال جائزة أفضل فيلم في مهرجان دبي السينمائي قضية الحرب الأخيرة على لبنان وتأثيرها بشكل مباشر. فهو يحكي قصة فتاة شيعية (زينة) عادت إلى لبنان بعد حرب يوليو / تموز، تبحث عن ابنها الضائع الذي أودعته عند أختها في منطقة خربة سلم، ريثما تحل خلافاتها مع زوجها المشغول عنهما دوما، تلتقي بسائق التاكسي (طوني) الذي ينتهز الفرصة للحصول على أكبر قدر ممكن من المال ثمنا للمخاطرة، لنكتشف فيما بعد جانبا إنسانيا لديه.

يحاول الفيلم رصد الحالة الاجتماعية، وتأثير الحرب في اللبنانيين وعلاقاتهم ونظرتهم للآخر واختلاف توجهاتهم، موضحا ما آلت إليه الأمور، دون الخوض في المواقف السياسية والمانشيتات العريضة، بالرغم من إظهاره المواقف المتباينة من خلال نماذج متنوعة، زينة مثلا لاتعتبر هذه الحرب حربها، وأن أختها ذهبت ضحية ماجرى.

ويمثل طوني مسيحيي الجنوب، وشعورهم بعدم الانتماء، فهو يعاني الاضطهاد بسبب التحاق شقيقه بجيش لحد في السبعينيات وذهابه إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعدم قدرته على العودة. لذا يعمل طوني جاهدا للهجرة إلى ألمانيا على أمل أن يلحق به شقيقه.

وبالرغم من الاختلاف بين زينة وطوني فإن حزنهما كان كفيلا لخلق تواصل وحب بينهما، فهما يعيشان القهر ذاته تحت وطأة الحرب.

وفي نهاية البحث تكتشف الأم أن ابنها مات في الحرب، فأي ثمن دفعت زينة في حرب ليست جزءا منها ولم تقرر المشاركة فيها؟

بين الروائي والوثائقي

بالرغم من قصة الفيلم الإنسانية، فإنه لم يستطع الدخول إلى عمق هذه الإشكاليات والتناقضات الموجودة في المجتمع اللبناني وأسبابها وتداعياتها. لم يكن "تحت القصف" الوحيد الذي طرح الحرب على لبنان، كذلك الفيلم الوثائقي" 33 يوم" للمخرجة مي المصري، والروائي "وعلى الأرض السماء" للمخرج شادي زين الدين.

إشكاليات وقضايا مجتمعاتنا العربية سواء في لبنان، فلسطين، سورية، الأردن... نجدها في معالجات و رؤى مختلفة ضمن أفلام عربية تحاول قدر الإمكان نقل الواقع العربي وإشكالياته من الحروب إلى التطرف الديني، تأثير أحداث 11 سبتمبر في العرب.. وهو توجه لايستهان به في سينمانا العربية، إلى علاقات حب غير مكتملة وحلم يصطدم بالواقع ورغبة بالتحرر والسفر..

أفلام مهرجانات

لم تزل الأفلام العربية حتى الآن أفلام مهرجانات، بعضها يحقق معادلة الفيلم الجيد والجماهيري وأغلبها لم يصل إلى ذلك بعد، إلا أنها إلى حد ما بدأت تثير جدلا سيؤدي بالضرورة إلى تطور السينما العربية على صعيد الشكل والمضمون والأدوات.

 

ليلاس حتاحت