أية حياة هي؟

أية حياة هي؟

في سيرته الذاتية «أية حياة هي؟» يستعيد الروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي البدايات الأولى لحياته في العراق الملكي خلال خمسينيات القرن العشرين، ويحاول بأسلوب أدبي جذاب ورشيق استعادة وقائع مضى عليها أكثر من نصف قرن.

أورد المؤلف على الغلاف أنها «سيرة البدايات». ويبدو، لأول وهلة، أن الكتاب يفتفر إلى الحبكة الفنية الناظمة له وذلك يتوهمه القارئ خلال الفصول الأولى، ولكن سرعان ما ينتظم أمر السرد الذاتي حول رؤية صبي، فشاب وهو يعيد تركيب تجارب حياته البسيطة بأسلوب فيه شغف متعاظم تجاه الماضي، والطفولة، والوطن الذي أصبح ذكرى.

وكتب السيّر الذاتية الحميمية هي التي يكتبها أصحابها بعد أن غابوا زمانا طويلا عن أوطانهم، وصاروا بحاجة ماسة إلى تشييد أوطان من الذكريات، فيها من التخيل درجة عالية. والربيعي وهو يكتب سيرة بداياته، يفصله عن زمان أحداثها ومكانها نحو نصف قرن، وآلاف الأميال، فكتابته تعبير عن حنين عابر للأزمنة والأمكنة إلى مرحلة الطفولة، والصبا، وأول الشباب، في مدينة الناصرية التي تقع في جنوب العراق، على ضفاف الفرات، وجوار الصحراء.

تأتي كتابة السيرة الذاتية في إطار تعبير شخصي يفرضه الوعي الذاتي وهو يبحث عن معنى لتطوره عبر الزمن. فمن أقوى البواعث الباطنية على كتابة السيرة الذاتية، حاجة المرء إلى العثور على معنى لحياته المنقضية أو إعطائها شكلاً مخصوصاً، كما يقول جورج ماي. وهذه السيرة الاستعادية الشائقة فيها من التفاصيل والجرأة مايندر مثيله في الكتابة العربية، وتتخللها الفكاهة والسخرية، والرصد الدقيق لكل شيء بعين فاحصة. وتحاول، بطريقة غير مباشرة، أن تقهر العنف الذي شهده العراق خلال العقود اللاحقة، فالكتاب مملوء بالإشارات الكثيرة إلى المصالحة المترسخة في المجتمع العراقي بين الأعراق والطوائف والأديان.

وصار موضوع الحنين إلى الماضي جزءا من الأدب العراقي المعاصر الذي يرفع إشارة رفض ضد الفوضى المفتعلة التي تمر بها بلاد عرفت بانسجام جماعاتها الأساسية منذ فجر التاريخ. والتأجيج الطائفي والعرقي فيها مختلق يرّوج له منتفعون لا يأخذون في الحسبان الروابط المتينة بين مكونات المجتمع العراقي، وكثير منهم وقعوا أسرى الوصفة الأمريكية الجاهزة، ومؤداها هشاشة التكوين الاجتماعي العراقي، والعداء المستفحل بين مكوناته الاجتماعية الكبرى. وكتاب الربيعي، شأن كتب أخرى تنتمي إلى الذاكرة العراقية الحية، ينقض هذه الاختزالات المخلّة، والمعيبة، والمنافية للتاريخ والواقع. لقد افتعلت فوضى في العراق، وتبناها عراقيون من شذّاذ الآفاق لا ذاكرة لهم، ولا هوية وطنية، وبرهنت العقود الأخيرة، ومنها سنوات الاحتلال، أنهم تربوا وتعلموا في زوايا مظلمة، وأقبية معتمة، وبواد قاحلة، لم تتح لهم أبدا معرفة الحقائق الكبرى في تاريخ هذه البلاد. وسيرة الربيعي التي كتبت بمنأى عن كل هذا، تضع بصمة شاهد عيان على مدى التنوع في فسيفساء بلاد الرافدين.

العراق الملكي

يكتب عبد الرحمن الربيعي، وهو في تونس منذ نحو عقدين من الزمان، عن عراق ما قبل نصف قرن، العراق الملكي، وعلى وجه التحديد يكتب عن مدينة الناصرية مسقط رأسه، وهذا يذكّر بالمؤرخ والجغرافي العراقي المسعودي الذي كتب عن العراق في «مروج الذهب» وهو في مصر، فغالبه حنين جارف إليه، ولا محالة فسوف يتسرب شوق عارم إلى وطن صار يتباعد عبر الزمان، ورسخ بوصفه ذكرى، ومصدر شغف. لقد ارتبطت كل الأحداث بالصبي الصغير «عبد الرحمن» ومن خلال رؤيته الذاتية تم التعرف إلى العالم المحيط به، ومن خلالها جرى أيضا التعرّف إلى التجارب الشخصية الأولى، ومنها التجارب التعليمية، والأسرية، والعاطفية. يقول الربيعي: «تأكدت لي أهمية مرحلة الطفولة بكل تفاصيلها، فهي التي يوظفها الكتّاب لاحقاً في أعمالهم، لاسيما الروائية والقصصية منها، وتعتاش نصوصهم عليها. ولكن كتابة الطفولة بكل دقائقها لم أجد كاتباً عربياً قد منحها هذا الاهتمام وكرس لها كتاباً خاصاً بل إنها تأتي في سياق حديث شامل عن حياته، وهذا مافعله جل كتّاب السيرة».

تعد الكتب الخاصة بالتكوين الذاتي، ووصف التجارب الأولى، على غاية من الأهمية، وهي قليلة بصورة عامة، فندر أن خصص مؤلفون كتبا خاصة لفترة الطفولة وحدها، إنما تأتي هذه المرحلة بوصفها تدشينا للمراحل اللاحقة، ويحضرني كتاب «الأيام» لطه حسين في جزئه الأول، وكتاب «كلمات» لسارتر، وكتاب «البئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا، وكتاب «الخبز الحافي» لمحمد شكري، وجميعها مخصصة لفترة الطفولة والشباب. وقد حرص الربيعي على أن يشير في مقدمته للكتاب إلى أنه أراد أن يكون «صادقا وصريحا قدر الإمكان ليشكل كتابي احتفاء بالحياة التي نعيشها مرة واحدة». فالطفولة بوصفها مرحلة تكوين أساسية أمر كان «جورج ماي» قد شدّد عليه في كتابه العمدة عن «السيرة الذاتية» إذ ذهب إلى أن «المواضيع السير ذاتية الكثيرة التي تؤكد لنا هذه الظاهرة، ذكرى الطفولة أو المراهقة، هي من دون شك تجسد هذه الظاهرة خير تجسيد. فالشخص، قبل أن تكونه بيئته وثقافته تكويناً كاملاً، هو الأقدر على التأثير في الناس تأثيراً شاملاً. ولذلك، فإن كان الحديث عن «الطفولة» الشخصية يستغرق من السير الذاتية حيزاً كبيراً، وإن كانت طائفة كبيرة من السير الذاتية تقف عند بلوغ صاحبها سن الرشد، فإن الميل الفطري لكاتب السيرة الذاتية يلائم ذوق القارئ كل الملاءمة: فالأول بحاجة إلى إحياء ماض عزيز عفا، والثاني يجد لذة في أن يرى نفسه في غيره، وأن يطمئن إلى أنه إنسان سوي».

ولعل أبرز ما تميز به كتاب الربيعي أنه أزاح التكلف والتردد والخجل بإزاء تجارب طبيعية، نشأت في سياق خاص، فلم يسقط المؤلف عليها وعيا لاحقا يحول دون ظهورها كما هي، إذ سعى إلى تقديم تلك التجارب في السياق التاريخي لظهورها، فبدت صافية، ونقية، ومباشرة، إلى درجة قد لا يقبلها فكر معاصر أصيب بداء العمى، والعجز عن الفهم، وحجب الحقائق الإنسانية الأولى، وبخاصة الجنسية. وارتسم دفء في هذه التجارب التي كانت اكتشافات أولى لفتى في مقتبل العمر.

لحظة الانتقال

وتشكل حالة البلوغ لحظة فارقة ينتقل بها الإنسان من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، وأول ما تلاحظ ذلك، وتحتفي به، جدته التي ربته بعد وفاة أمه. يقول الربيعي «وأذكر أنه في اليوم الذي عرفتْ فيه ببلوغي نزلتْ إلى السوق واشترتْ كيساً من الحلوى المشكّلة، التي تُرمى على رأس المحتفى به عند الختان أو الزواج أو أي مناسبة سعيدة، ويسمى «الواهلية». وطلبتْ مني أن أقف، ونادتْ على أصحابي، وصارت تزغرد، وهي تنثر حلوى «الواهلية» على رأسي...وقد جاءت بعض النساء ممن سمعنها، وكن يتساءلن عن سرّ هذه الزغاريد، وكانت لا تعلن السبب بل تكتفي بالهمس بآذان بعضهن، وخاصة من المسنّات، فكنّ يضحكن، لكن وسط حشد النسوة المجتمعات رأيت وجه صفية. كانت تنظر إلي وكأنها تبحث عن جواب لسؤال في داخلها. وللمرة الأولى رأيت في عينيها بريقاً لم أعرفه فيهما، كأنها تناديني، أو كأنها تقول لي: انتظرني يا من بلغت سن الرشد». وستكون له معها مغامرات خاصة.

لم يغلق الكتاب على أحداث الصبا والشباب وحدها، إذ كان يرصد، أحيانا، مصائر الشخصيات الأخرى، فيتعقب نهاياتها، وأحيانا يكشف وجه الطرافة في حياة بعض الشخصيات، كما أنه يكشف بجرأة واضحة الوسط الأسري، ثم الاجتماعي الذي ظهر فيه، فالكتاب مزيج من سيرة، ومذكرات، واعترافات، لكنه منظوم بخيط سردي يتقوّى شيئا فشيئا، ثم يتحول إلى رحلة استكشافية إلى بغداد حيث التعرف الأول إلى عالم مختلف عن الناصرية، ولا غرابة أن يستأثر ذلك باهتمام المؤلف، ويشغل حيزا كبيرا في متنه. وفيه تزداد نبرة السرد الذاتي قوة، وتصبح الرؤية أكثر حدة، فالمكان اختلف، والتجربة اتسعت، وينتهي الكتاب عند اللحظة التي ترتسم فيها ملامح شخصية أدبية، ومرحلة جديدة أكثر غنى.

تضم السيرة الذاتية للربيعي نبذًا من وقائع وتجارب وأفكار، ولكنه يحرص على وصف مساره التعليمي منذ دخل المدرسة في العام 1948 ثم يقف بالتفصيل على التجربة الأهم، وهي السفر إلى بغداد، والالتحاق بمعهد الفنون الجميلة في قسم الفنون التشكيلية في عام 1957، وذلك في نهاية الحقبة الملكية. وقد صوّر هذا السفر كأنه ارتحال إلى عالم جديد، وخوض تجربة مغايرة، ولهذا يتوقف طويلا على هذه المرحلة التمهيدية التي تضع العتبة الأولى لظهور الربيعي أديبا في مطلع الستينيات. فقد ارتسمت بغداد المتنوعة بأفكارها ومشاربها وفنونها وآدابها. على أن صاحب السيرة ركز الاهتمام على شيء مهم جدا، وهو مركز كل كتابة سيرية، وتمثل في علاقته بالأشخاص المجايلين له، وعلاقاتهم به، ثم تأثير الأحداث فيه، ويلاحظ في كل ذلك نزوع نحو التفاصيل الحميمية ممزوج بحس الفكاهة. ومنذ تلك الفترة المبكرة يظهر الربيعي مشاءً محترفا، فباستثناء إشارته مرة أو مرتين إلى الحافلة في بغداد، فقد اكتشف المدينة سيرا على الأقدام. ولا يرد ذكر لغير السير على الأقدام في الناصرية، فلكي تكتشف أرضا جديدة ينبغي أن تطأها بقدميك، وبهذه الرحلة التي تنقله بالقطار من الناصرية إلى بغداد للقبول في معهد الفنون الجميلة يقطع الربيعي الصلة مع الطفولة ليعيش فترة الشباب، والارتحال المكاني هو في معناه العميق ارتحال من مرحلة عمرية إلى أخرى. وقد انتهى «رووكي» في سياق دراسته لموضوع الطفولة في السيرة الذاتية العربية إلى أن «أشهر النهايات المميزة في السيرة الذاتية العربية هي مشهد الرحيل أو الفراق، نهاية تصور وداع الطفل لبيئته المعهودة التي نشأ فيها. في نهاية القصة يرى القارئ بطلها عادة وهو يصعد قطاراً أو سفينة أو طائرة مغادراً بلده، هذا المشهد يمثل انقطاع الصلة بالواقع المعروف والمألوف، والتوجه نحو مستقبل غامض، أو نحو «المصير المجهول».

الماضي وطنا

في مقال له بعنوان «أوطان متخيلة» قدم سلمان رشدي «وصفاً لروايته «أطفال منتصف الليل» وكشف علاقة النص بذكريات طفولته في «مومباي» فربما كان صحيحاً اعتبار الماضي وطناً هاجرنا كلنا منه، وأن يكون فقدانه أو ضياعه جزءاً من إنسانيتنا المشتركة، بيد أن الكتاب الذين يعيشون في المنفى قد يمرون بتجربة الفقد هذه أكثر من سواهم، لكن حتى أولئك الكتاب الذين يؤرقهم الشعور بالفقد والدافع إلى استعادة الشيء الذي فقدوه بالتحديد، سوف يصنعون خيالاً بديلاً، ليس مدناً وقرى حقيقية، وإنما مدن وقرى غير مرئية وأوطان متخيلة كما صنع رشدي «هنداً» متخيلة «في روايته». ويردف الربيعي قائلا في المعنى ذاته: «تكتسب الكتابة عن الماضي الذي انفرز وأخذ شكله النهائي نكهة تفوق الكتابة عن حاضر محتدم، متسارع الإيقاع، والناس فيه لا يعرفون بعضهم جيداً، كأن المدينة الحديثة جعلتنا نعيش في معازل، لا أحد منا يعرف حتى جاره إلا في حالات قليلة.. وهذه الحالة نجدها في كل العواصم العربية، عشتها في بغداد، وأعيشها في تونس، كل امرئ لاهٍ بنفسه ومشاغله، وقليلون منهم من يكلف نفسه عناء إلقاء تحية صباح أو مساء على وجه جاره، وكأن هذه التحية مفتاح لعلاقة هو في غنى عنها».

ويلوح في ثنايا الكتاب فقدان عالم لا سبيل إلى استعادته أبدا. ومن المعلوم أن فكرة الغياب تشكل ركنا أساسيا من أركان أدب السيرة الذاتية، وهو أدب في غالبه ينطلق من عتبة الطفولة نحو الآفاق الأخرى، ويحظى أمر النمو العاطفي بمكانة مهمة، فالسرد يركز الاهتمام على الاكتشافات الأولى للجسد، ثم الرغبة في جسد المرأة، والأحاسيس المرافقة لذلك، وترسم علاقة خاصة بين الابن والأب، ومع أن الراوي لا يظهر عدوانية تجاه الأب، لكن غياب الحميمية يكشف تباينا بين الاثنين، فالأب مشغول بالنساء، فيما الابن ينمو ببطء بعيدا عن التأثير الأبوي المباشر، ويتوّج ذلك بالدنس حيث يتشارك الابن والأب في أجساد النساء. وفكرة الدنس في الأدب العربي الحديث نادرة، لكنها ظهرت بوضوح في ثلاثية نجيب محفوظ، حيث تشارك الأب «أحمد عبد الجواد» والابن «ياسين» في جسد «زنوبة» عشيقة الأب وزوجة الابن، فيما بعد، ثم يتشاركان في جسد «أم مريم» التي كانت عشيقة الأب، ثم أصبحت أم زوجة الابن. كما يتشارك الأخوان «ياسين» و«كمال» في جسد إحدى الغواني وهي «وردة».

لكن عبد الرحمن الربيعي يطرح الأمر بوصفه جزءا من تجربة ذاتية وليس خيالية كما هو الأمر في ثلاثية محفوظ، على أنه لا يريد من ذلك بناء أية فرضية حول موضوع الدنس بمفهومه الثقافي، إنما يمر على التجربة كأمر واقع جرى اكتشافه من طرف الابن الذي تكتم عليه، دون أن يعرف الأب ذلك. وإذا كان الدنس أحدث صدعا في ثلاثية محفوظ، فالتنافس على جسد الأنثى، خرب، في نهاية المطاف، مفهوم الأبوية، فإن سيرة عبد الرحمن الربيعي مرت على هذه القضية بوصفها تجربة جرت وقائعها في منأى عن التخيل السردي الذي يتطلع إلى وضع الأبوة والبنوة في تعارض ثقافي. يقول «أما والدي فحُب النساء لايغادره. وقد اكتشفت أن له صديقة كان يأخذني معه لنزورها، ويتركني ألعب مع ابنتها ذات الشعر الأجعد، واسمها «حسنية» كانت تكبرني بحوالي عامين، تقول لها أمها: أخرجي العبي أنت ورحمن، فتسحبني من يدي وتدخلني إلى عالمها، وقد عرفت منها أشياء كثيرة رغم أن فكري كله عند والدي وهو يجالس تلك المرأة في غرفتها. وعندما كبرت وبدأت أعي أخذت الأشياء تتضح لي، وبدأت تجد أجوبتها تلقائياً. ولم يكف والدي عن هذا النوع من المغامرات إلا بعد أن حج إلى بيت الله».

-----------------------------

أبالبرد تشعرُ من داعبتْ شُهُباً بالبَنان؟
أيغمرها الخوفُ من جاء يسعى إليها الزمان؟
هَبينا غريبين.. باعدَ ما بيننا كلُّ شيْ
أليس - فديتكِ - أزهارُ فنّكِ ملءَ يَدَيْ
خُـذي مـن صـلاتـي
فــإن حـيـاتـي
ربـيـعٌ يــجـدّده طائرانْ
ستحيين للدفء ما أنا حَيْ

إبراهيم العريض

 

عبدالله إبراهيم 





عبد الرحمن الربيعي