حكاية عربية في الأدب الإسباني

حكاية عربية في الأدب الإسباني

حين سقطت غرناطة في يد فرناندو الكاثوليكي وإيزابيلا في الثاني من يناير سنة 1492، سقطت حكما وسلطانا، ولم تسقط ثقافة وحضارة، ومثلها - أو قريب منها - بقية الأقاليم الإسبانية، أو الأندلسية إن شئت، وتمثل ذلك في سحنات الوجوه، وطرق المعيشة، وألوان الثقافة العربية والإسلامية، وأبرز الأمثلة على ذلك الثقافة الشعبية، أو المرددات الشعبية التي يتناقلها جيل عن جيل، ولم تعرف تخوما لغوية ولا عرفية، فيما يطلق عليه «النوادر» أو Anecdota. وكثرت هذه النوادر في الأدب الفصيح، كما في الأدب العامي، مثل (عيون الأخبار - والمواعظ والاعتبار - والعقد الفريد)، وغير ذلك مما يدخل في هذا القبيل. ولكيلا يضيع الخيط الرابط، نقف عند نادرة واحدة تقول إن في العصر العباسي بترفه المصقول صنع أحد الخلفاء لزوجه أو محظيته بحيرة من المسك أو الكافور، تدوس فيها هي وصاحباتها، وقد قرأنا هذه النادرة منذ أكثر من ربع قرن، وعبثا حاولت الذاكرة أن تستعيدها بنصها ومصدرها، فلم ترجع بشيء. لكننا عثرنا على رواية لها في مصر في عهد خمارويه أيام الدولة الطولونية، وتقول الحكاية - بعد اختصار - في رواية المقريزي، يتحدث عن بيت الوالي: «وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدرة وملأها زئبقا، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر، فأشار إليه بالتغميز - التدليك - فأنف من ذلك، فقال له: تأمر بعمل بركة من زئبق فعمل بركة من خمسين ذراعا طولا، ومثلها عرضا، وملأها بالزئبق، فأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وجعل لها سككا من الفضة الخالصة، وجعل على البحيرة فرشا من أدم ينفخ وينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتج، ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه».

بطل هذه الرواية الوالي (الرجل)، وتنفرد بتلك الخاصية وبقية الروايات البطلة امرأة.

طين من مسك وعنبر

حظي المعتمد بن عباد الإشبيلي بسهم الأسد في تلك النادرة، حيث لعب الخيال الشعبي دورا عظيما، حتى وهي تنتقل إلى إسبانيا، وحيث خلدها الملك الشاعر في قصيدة تروى، وتملأ الوجدان أسى وحسرة.

تقول الحكاية في المصادر العربية إن الرميكية زوجه - وهي اعتماد التي كانت من أصل شعبي متواضع وكانت أديبة شاعرة حاذقة-: «حين رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي فيه، فأمر المعتمد - وقد اشتق من اسمها اسمه - بأشياء من الطيب فسحقت وذرت في ساحة القصر، ثم صب ماء الورد على الطيب، وعجنت بالأيدي حتى صارت كالطين، وخاضتها مع جواريها».

ودارت الأيام بالمعتمد ودولته، فدخلت عليه بناته السجن في يوم عيد، وهن كما وصفهن في هذه الأبيات التي دارت على ألسنة الدهر:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا


ولكي تتضح المفارقة أكثر، يقال إن اعتماد غاضبت زوجها أيام الجاه والسلطان، قائلة له: إنها لم تر معه يوما واحدا حسنا، فقال لها: ولا يوم الطين؟، فخجلت، وهذا الملك الشاعر حين مات نودي على جنازته بصلاة الغريب! كأنه لم يك ملء سمع الدنيا والناس!!.

وللمعتمد صفحة باقية في التاريخ العام والتاريخ الأدبي، بين رجال الاستشراق والمترجمين له ولشعره، وربما كان من أهم الكتب التي تناولته: «كتب دوزي، وغرثيه غومث، وليفي بروفنسال، وهنري بيرس، وميجيل خوسيه هاجيرتي وغيرهم» والأخير أصدر كتابا عن المعتمد وترجم له قصائد ذائعة.

هواء عربي

كتاب «الكونت لوكانور» لكاتبه Don Juan Manuel وهو كتاب لكاتب مشهور، ممثل لثقافة عصره، توفي في 13 من يونيو 1348م، ونشأ المؤلف في بلاط عمه ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم، وكان بلاطه يتنفس هواء عربيا، أشبه بدار الحكمة في بغداد، ويحتذي في بناء كتابه كليلة ودمنة وكان قد تُرجم إلى الإسبانية بأمر من عمه، وله أكثر من ترجمة إلى اللاتينية والإسبانية ولغات أخرى متعددة، بفضل ابن المقفع الذي حفظت ترجمته إلى العربية ذلك الكتاب من الضياع.

وحكايات «الكونت لوكانور» مثل كليلة ودمنة، يوجه السائل إلى الحكيم المؤدب سؤالا يقول: وكيف كان ذلك؟؛ فيجيب الأستاذ بحكاية تحوي مثلا أو نظيرا عمليا للسؤال أو الإجابة المطلوبة، وكان المؤلف - فيما استظهرناه - يعرف طرفا من العربية كعادة المثقفين آنذاك، كما يعرف الناس الآن طرفا من الإنجليزية أو الفرنسية، تمثلت هذه المعرفة في رسم الجمل العربية بحروف لاتينية، وإن لم يكن يعرف العربية؛ فإن العارفين بها في بلاط عمه يمدونه بتلك المعرفة، أو أن الموريسكيين - الذين ظلوا بعد سقوط الحكم العربي الإسلامي هناك - يقومون بدور في المرددات الشعبية، أو إضفاء الخيال على ما هو تاريخي إضافة وتوشية يشبع رغبات الناس ويثير شهيتهم لسماعها.

تقول رواية الكونت لوكانور، وتحمل رقم ثلاثين، بعنوان: «ما حدث للمعتمد ملك إشبيلية مع زوجته الرميكية»: بينما كان يتحدث الكونت لوكانور مع باترونيو مستشاره في أحد الأيام: باترونيو: ثمة رجل يرجوني باستمرار أن أساعده وأن أمنحه عطية، وبالرغم من أنني كل مرة أصنع معه هذا الصنيع يشكره لي عندما يعود إلى الطلب مرة أخرى، فإن لم أعطه، فإن عندي انطباعا أنه سينسى كل ما قدمته آنفا، ولفهمك الحصيف أرجو أن تنصحني كيف أتصرف معه. فأجاب باترونيو: سيدي الكونت لوكانور يبدو لي أن ما يحدث لك مع هذا الرجل هو ما حدث للمعتمد ملك إشبيلية مع زوجه الرميكية، سأله الكونت: ماذا حدث؟ قال باترونيو:سيدي الكونت لوكانور، كان المعتمد متزوجا بالرميكية، وكان يحبها أكثر من أي أحد في الدنيا، وكانت هي من الطيبة إلى حد أن أقوالها وأفعالها لاتزال حديث المسلمين حتى الآن، بيد أنه كان بها عيب هو أنها كانت أسيرة رغباتها وإرادتها، حدث ذات مرة - حذفنا رغبة أخرى لها وهي في قرطبة وقد اشتهت الثلج وقرطبة لا تثلج، فزرع لها أشجار اللوز (1) - أنها كانت في مقصورتها التي تطل على النهر، فرأت امرأة من عامة الناس، حافية تدوس في الطين،لتصنع الطوب Adobes، حينما رأتها الرميكية شرعت في البكاء، سألها الملك: لم تبكين؟ فأجابته إنها لا يمكن أن تصنع ما تشاء وإن كان بسيطا جدا مثل هذا الذي تصنعه تلك المرأة، فأمر الملك لإدخال السرور على نفسها أن تملأ البئر الكبرى بماء الزهور بدلا من الطين، وأن يلقى السكر والقرفة والخزامى والقرنفل والأعشاب المعطرة والعنبر والغالية Ambar,Algalia، وكل أنواع العطارة والروائح التي يمكن العثور عليها وأن يطرح فيها قشر قصب السكر، حين امتلأت البئر بتلك الأشياء التي شابهت الطين الذي يمكن أن تتخيله نادى الملك على الرميكية، وقال لها: اخلعي نعلك، ودوسي على هذا الطين واصنعي منه الطوب الذي تشائين.

وفي يوم آخر، ولشيء آخر اشتهته بدأت في البكاء، سألها الملك لم تبكين؟، فقالت: كيف لا أبكي وأنت لم تصنع شيئا من أجل جلب السرور إلى نفسي.

الملك - ناظرا إلى أنه صنع من أجلها كل ما تشتهي، وحقق كل رغباتها، وليس في وسعه صنيع شيء أكثر- قال لها بالعربية: ولا نهار الطين Wala Nahar Altin-، كي يفهمها أنها إذا نسيت أشياء أخرى فلا ينبغي لها نسيان الطين الذي صنعه لإسعادها.

هذه رواية دون خوان مانويل، وهي مأخوذة - تقريبا بالنص - من الرواية العربية وتؤكد أن الثقافة العربية لا تزال سارية في أيامه وبعد أيامه، لأن الثقافة العربية لا تعرف التخوم والفواصل، وتؤكد من جديد فضل الثقافة العربية التي غزت غازيها حتى وصلت إلى قصر الإمارة، ومثل هذا - وهو كثير - يفتح مجالا خصبا، وحقلا واسعا في درس الأدب المقارن بمساربه المتعددة على المستوى الرسمي والشعبي.
-----------------------------------
1- تنسب هذه الرواية إلى عبد الرحمن الناصر مع حظيته الزهراء

----------------------------------

وما خَطبُنا اليومَ؟
ماذا يُقالُ؟
ونحنُ الذين سدَدْنا المَسالِكْ
طريقَ الهُدى لم يَعُدْ مُستقيماً
ولا هو سالِكْ
لكَثرةِ ما طُلَّ فيهِ
دمُ الأبرياءِ
اغتيالاً .. وصَبر

إبراهيم العريض

 

عبد اللطيف عبد الحليم