عوالم متغيرة في حكايا القاهرة

عوالم متغيرة في حكايا القاهرة

تجول بنا المجموعة القصصية حكايا القاهرة Cairo Stories في عوالم متغيرة تشكلت في القاهرة أثناء العهد الملكي وأزمنة ما بعد الاستقلال، عوالم تسودها شخصيات من مختلف الأجيال، والطبقات الاجتماعية، والخلفيات العرقية، عاشت وتفاعلت مع المتغيرات المجتمعية والسياسية التي شاهدتها القاهرة. وقد ولدت المؤلفة آن ماري دروسو Anne-Marie Drosso في القاهرة ثم هاجرت إلى كندا في منتصف السبعينيات، ويبدو أن زياراتها إلى القاهرة لم تنقطع في الواقع وفي محاولاتها للكتابة عنها.

وإن كانت معظم القصص تدور في عالم الجماعات الأوربية والشامية التي نزحت إلى القاهرة واستوطنتها منذ عهد محمد على، فهي لم تفلح فقط في تجسيد هذه العوالم، بل نجحت أيضا في إبراز إشكاليات الاستيطان والنـزوح، المواطنة المحلية والعالمية، إلى جانب المصادمات بين الأجيال على المستوى الأسري، التي يتوازى معها صدام مصالح الجماعات، ما قبل 1952، ثم صدام مراكز القوى ما بعد 1952.

في تلك العوالم المتغايرة لساكني القاهرة الذين تعايشوا مع أنظمتها المتغيرة ندرك وجود خرائط جديدة لهذه المدينة، توغلنا في خصوصياتها التي تضفي جديدا على مفهوم المدينة. ارتبط النـزوح إلى المدينة في البلدان الأوربية بالثورة الصناعية وهجرة العمالة من الريف، والظروف القاسية التي خاضتها الجماعات الخاضعة لتلك المتغيرات الاجتماعية، كما ارتبطت بتزايد الفجوة بين الطبقات الرأسمالية، والعمال، لذا ارتبط مفهوم الحداثة الثقافية بالاحتقان وبالثورة.

أما النـزوح إلى القاهرة فقد كان هربا من حالة لا استقرار في البلد الأصل - أوربيًا كان أم شاميًا - بحثا عن الاستقرار في مرفأ وجدوه في مصر، لذا اقترنت الحداثة فيها بالجماعات المنعمة بفضل اقترانها بمراكز السلطة آنذاك سواء تمثلت في الطبقة الحاكمة - وترجع أصولها إلى الجماعات النازحة من البلقان أو آسيا الصغرى - أو لاقترابها من الجماعات المتصلة بالمستعمر. ترتب على ذلك، إقصاء تلك الجماعات في الخطاب القومي أو الديني المتشدد، ورفض الثقافة التي اقترنت بها، ووصل الأمر إلى تصنيفها بوصفها جماعات أجنبية لا تنتمي إلى الأصول القومية، لاقتران نشاطها بنشاط المستعمر.

وإن كنا نلقي بعض الضوء على الملامح التاريخية لتلك الجماعات المستوطنة بالقاهرة محاولة للاقتراب منها وتفهم أوضاعها، إلا أن اقتراب الكاتبة من شخصيات تلك الجماعة اتخذ منظورا آخر، فظلال الصراعات الثقافية يتلاشى لإبراز المصادمات بين الأجيال ومراكز القوى المختلفة.

ففي قصة «التكفير -Penance نجول في عالم «بسمة» على مدار عشرين عاما، حيث نتعرف أسباب هجر تلك الخادمة لزوجها الأول وأطفالها بعد أن رأت استحالة تحسين سبل عيشهم. تركتهم بسمة الخادمة لتتعلم وتحسن مكانتها الاجتماعية ثم تقترن برجل من الطبقة الوسطى. ولا تنسيها حالتها الاجتماعية المزدهرة وأطفالها الجدد بيتها الأول فتساعد أطفالها في تحسين أوضاعهم الاجتماعية سواء بالتعليم أو في حياتهم الخاصة في ما بعد. وهنا يتساءل القارئ: من يستحق التكفير عن ذنوبه؟ هل هي بسمة الخادمة التي هجرت زوجها الأول لترتقي بطبقتها الاجتماعية دون إهمال أطفالها من هذا الزواج؟ أم المجتمع ذو القيم المتكلسة، الذي يدينها لهجرها أسرتها الأولى، ثم بعد سنوات تمضي يتجاهل هذا المجتمع عينه أطفالها من زواجها الأول، بينما لم تتجاهلهم هي؟! التغير الاجتماعي هنا ليس رهنا للإدانة، فالشخصية هي التي تفرض قيمها على المجتمع وليس العكس، لتغدو الخادمة التي تحررت من وضعها الاجتماعي المدقع قادرة على اجتذاب احترام القارئ مثلما قد تفعل أي داعية لحرية المرأة، أو أي ثوري على الأوضاع المتكلسة للمجتمع. لتلك الخادمة الصامدة القدرة على مواصلة علاقتها مع من كانوا يوما ما أسيادها، ومداومة زيارتهم من حين إلى آخر، دون أن يفجر ذلك في داخلها شعورا بالحرج أو المهانة، فبعد أن غدت سيدة دار وتبدلت أحوالها، فاجأت أربابها السابقين بمشاعر عكسية لما توقعوه. تبرز القصة قدرة البسطاء من القوم على تجاوز المشاعر البرجوازية التي يصعب على الطبقات الميسورة تجاوزها.

وتتكرر مشاهد المرأة الشجاعة التي لا تكبلها الأعراف الاجتماعية لانتمائها إلى البسطاء والمهمشين، في قصة «حرارة -Heat، تروي الراوية واقعة عراك بين زوجين ينتميان إلى الطبقات المأزومة شاهدتها في الطريق العام، حيث تنهر الزوجة زوجها على الملأ أمام المارة لعدم وفائه بالتزاماته المالية لأسرته. وعلى الرغم من أن المشكلة لم تحل من قبل المارة الذين تدخلوا لفض العراك بين الزوجين، فإن الموقف لا يدفع القارئ إلى الانحياز إلى أحد الطرفين. وفي نهاية القصة حينما تنسحب المرأة من ساحة القتال، فذلك لا يعني هزيمتها بل يبرز قدرتها على الإطاحة بأعراف بالية عن صورة الرجل المعيل وإبراز دورها في المحافظة على الأسرة، فكشف المستتر ومواجهته بشجاعة يعد نوعا من المقاومة التي إن لم تحقق هدفا آنيا فلها وقع على المدى البعيد.

وبينما يرى القارئ إلحاح الحاجة المادية في حياة البؤساء ويتعاطف مع إصرارهم على تجاوز ضروراتهم الأساسية، تختلف استجابة القارئ في حالة الطبقات الميسورة التي غدت المادة بالنسبة إليها مصدرا للسلطة. يتجلى لنا ذلك في قصة «حذار يا باشا Pasha be Careful»، ذلك المقاول السوري الأصل الذي نجح في استثمار الأموال التي ورثها عن أجداده. استطاع أجداده أن يحصلوا على امتيازات وأراض بتقربهم من محمد علي والي مصر في القرن التاسع عشر لأدائهم الإداري المتميز. واصل سليم باشا هذا التفوق في مجال عمله في الاستثمار العقاري، وحصد ثروة هائلة وهو مازال في العقد الخامس من العمر، حتى أن المحيطين به يطلقون عليه «سليم باشا» على الرغم من أنه لم يحصل رسميا على لقب الباشاوية. جسدت شخصيته المادية المطلقة، على الرغم من حاجته الدفينة إلى المشاعر الحميمة والعلاقات الأسرية. وقد استطاع أخوه زكي - المعروف بالحكمة والنـزعة الإنسانية - في توجيه سليم نحو الاعتدال في مساره وتعاملاته، تحقيق التوازن الداخلي بين المادية الصرفة والإنسانية. ولكن بموت زكي فقد سليم هذا الاتزان ودفعته معاييره المادية إلى رفض زواج ابنة أخيه الراحل من رجل مثقف محدود الدخل، ربطتهما علاقة حب تمسكت بها الابنة بالرغم من الفارق العمري والطبقي بينهما، مما ترتب عليه قطع أواصر الصلة بين سليم باشا وابنة أخيه. وبتغلب النـزعة المادية على سلوكيات سليم باشا غابت عن حياته لمسة دفء احتاجا إليها ولكنه جهل احتياجه إليها.

يتغير مسار الحدث عند نهاية القصة، وبظهور ابنة زكي في إحدى الحفلات، لا يتعرف عليها سليم في أول الأمر ويفتن بجمالها وبساطتها قبل التحقق من هويتها، ويعجب بتجردها من الحلي الذهبية والجواهر الثمينة - رموز عالمه المادي. وعند تعرف سليم باشا على ابنة أخيه في ما بعد، يشهد القارئ تحول مشاعر الرغبة لديه إلى الأبوة الودود، ليشعر سليم ببهجة لم يعتدها من قبل. وإن كانت هذه لحظة نادرة في حياة سليم باشا، تتيح له تعرف الاختلاف والقدرة على مصالحته، إلا أنها تعيد إلى ذهن القارئ مواقف سابقة في القصة تشي بتجاهله للآخر المتمثل في الحركة القومية الصاعدة التي تدين أمثاله من النازحين والمستوطنين في مصر وتسمهم بالمنتفعين، وترفضهم بوصفهم أغيارا.

يتجسد لنا عالم سليم باشا وأمثاله في دائرة منغلقة أدى نجاحها المادي إلى انفصالها عن المجتمع، وأصبح أداؤها المجتمعي مقصورا على الفائدة التي تتحقق من علاقتها، وهي دائرة لم تفلح في حماية نفسها لأن علاقاتها في ما بينها اتسمت بتبادل المصلحة المشتركة، فحتى التعاملات بين الطوائف المختلفة لم تنجم عن رغبة في التضامن، بل كان الهدف منها هو الحفاظ على مظاهر التسامح، مثلما يتجسد لنا ذلك في معاملة سليم باشا مع أقرانه من الطوائف المختلفة لمجرد إنجاح صفقاته. يتبدى لنا عند إتمام مسار القص، أن النـزوح الثاني لتلك الجماعات المستوطنة خارج مصر، لم يكن بفعل حكومة عسكرية بنت سياستها على رفض الآخر فقط، بل لإخفاق تلك الجماعات في تحقيق التضامن المجتمعي الذي يتجاوز المصالح الشخصية لتحقيق مجتمع المدينة المبني على المشترك الجماعي لا الفردي.

الهروب عبر المجتمع

وعت تلك الجماعات المستوطنة في مصر على اغترابها في وقت متأخر، بعد قيام ثورة 1952، وهو ما يدور في قصة «مصريون غير قادرين على استكمال استمارة بالعربية Egyptians who cannot fill in a form in Arabic». بعد أن أصدرت حكومة الثورة أوامرها بمنع السفر وتحويل الأموال إلى الخارج، هرع معظم المستوطنين في مصر إلى «المجمع» - وهو مبنى إداري ضخم بميدان التحرير - لاستخراج تأشيرات السفر، وهي إحدى الضرورات للهجرة إلى الخارج، كما لو كان حظر السفر دافعا له. كان ذلك هو الحافز الرئيسي الذي دفع بالسيدة «تاء» للتوجه إلى مبنى «المجمع» على الرغم من اعتراض زوجها المسن لاستخراج التأشيرة. فقد استطاعت هي بفضل المعارف أن تجد عملا في جنيف، أما زوجها فلم يرغب في السفر لرفضه أن يكون رهنا لإعالة زوجته في الخارج. وبينما تصر السيدة على السفر يصر زوجها على البقاء، حتى أن مبادرة زوجته للرحيل تمرضه، وتشكل لها عائقا عائليا يضاف إلى العقبات الإدارية التي تفرضها الحكومة.

بعد معاناة شديدة تتمكن السيدة «تاء» من دخول «المجمع»، والصعود إلى المكتب المقصود لتقديم استمارة طلب السفر التي كان أحد معارفها كتبها لها لجهلها بالعربية كتابة وقراءة. ولكن الموظف المختص يرى خطأ في البيانات ويطالبها بملء استمارة جديدة، وهو ما تعجز عنه، فتترك «المجمع» وتترك شمسيتها هناك - الواقي الذي يحميها من شمس مصر- ويتساءل الموظفون بعد ذهابها، إن كانت تلك السيدة لا تجيد العربية ولا تتحمل شمس مصر، فلماذا عاشت فيها؟

وهو سؤال لم يراود السيدة «تاء» حتى تلك اللحظة عندما أدركت أنها - على الرغم من أصولها السورية - قصرت تعلمها على الفرنسية بينما كان والدها الصحفي الشهير متمكنا من العربية، وله أسلوبه المتميز. غدت اللغة الأجنبية آنذاك، لغة الغرب، رمزا للتميز الطبقي والتميز العلمي، فمن لم يحز سلطة المال تشبث بأهداب اللغة الأجنبية، الذي منحها الخطاب العام مكانة التميز، ولكنه تميز نجم عنه إقصاء برزت سلبياته مع تغير الأوضاع السياسية.

ينبهنا ذلك إلى أن فشل خلق مجتمع المواطنة لم ينجم عن تعدد الجماعات المستوطنة في مصر، وما حازته من امتيازات بوصفها جماعات أجنبية، بل يرجع هذا الفشل إلى سيادة خطاب التمييز والتمايز حتى داخل هذه الجماعات عينها. ويتجسد ذلك في قصة «من عليه الدور في القائمة؟ Next «on the List فلم تخل تلك الجماعات من تفاوت بين دخول أفرادها وتغاير اتجاهاتهم، فهي بحق عوالم صغيرة تتعدد بها التوجهات والانتماءات. في هذه القصة نحن بصدد جماعة متآلفة بالمعنى التقليدي، فهي تجتمع للغداء معا كل أسبوع بعد صلاة الأحد، ولكن يبدد هذا التآلف طفل، ينتمي إليهم، عبر الأم، ويخرج عنهم لاختلاف الأب الديني الذي تسبب في نزوحه عنهم، مما يصيب الطفل عاطفيا ويضعه في مرتبة طبقية أدنى من باقي أفراد الجماعة.

النهايات المفتوحة

يراقب الطفل اللامنتمي مشهد الأحد ووحده يلمس تناقضاته، ويلمح الأبوية المفرطة لرب العائلة - العم الثري - الذي يمتلك الأفراد بعطاياه ويبطش ويقصي من لا يتفق معه. وعند صعود طبقة حاكمة جديدة عام 1952، يراقب الطفل هذا العم الثري وهو يحاول التمسك بأهداب سلطته متسلحا بمعارفه وقدرتهم على الوساطة لمصلحته. يتعاطف الطفل مع السلطة الحاكمة الجديدة الكفيلة بالانتقام له وإنزال هذا المتغطرس من عليائه. يمنحه هذا التعاطف القوة لمواجهة العم في أثناء حديث الغداء بينما كان منهمكا مع أصدقائه في إلقاء الاتهامات على السلطة العسكرية الجديدة. يقطع الطفل سيل الاتهامات الذي يمنح العم وأصدقاءه إحساسا بالتفوق على الحكام الجدد، ليواجههم بخبر ينقله عن رفاقه في المدرسة المنتمين لتلك النخبة الجديدة، خبرا يؤكد وجود اسم العم على قائمة التأميم لنـزع ممتلكاته.

أصابت الكلمة الهدف، فوقعت كاللكمة على العم لتنـزله من عليائه وليصبح خاضعا للطفل، لكونه الأداة التي بها سيتأكد من صحة هذه المزاعم. ولا يختتم هذا الحدث القصة لتغدو نهايتها مغلقة بتحقق الطفل الذي كان قد تم إقصائه من العائلة. تتأتي النهاية بتساؤل، فالطفل يود الانتماء إلى رفاقه الذين يشكلون مجتمع المدرسة، يود الانتماء إلى تيار التضامن الجديد بالمشاركة في شعائره، والمشاركة في تحية علم مصر، ولكن هل سوف يتم إقصاءه مرة أخرى لهيئته التي تشي باغترابه عن الأغلبية ذات اللون الأسمر؟

تظل النهايات مفتوحة وبلا حسم، فهي تنبئ عن الحركة الدائمة والتغير المستمر. فالقصص تصور مجتمعا متغيرا في لحظات التحول ونستطلع تلك التغيرات عبر الشخصيات في لحظات عارضة من حياتها، وفي مواقف محددة ناجمة عن بيئة محلية تشكل تلك المواقف وتتشكل بها. لذا تغدو كل شخصية فريدة في تعاملها مع الأحداث ولكن تتسق خياراتها مع الظرف الآني. تلك التقنية في الكتابة تساعد القارئ على تجاوز الفصل بين الجماعات القاهرية، مما يعيدها إلى نسيج المدينة بعد أن تعرضت للإقصاء طويلا، فالقصص تمثل لنا المكان بوصفه جسدا تتفاعل فيه جماعات وليست أعراقًا أو أجناسًا، وتكمن فيه ثورات خامدة أو مشتعلة يختلف وميضها باختلاف الأوضاع المحيطة.

ولارتباط الشخصيات بواقع تاريخي فهي لا تمثل رموزا، أو تخضع لمفاهيم مطلقة، بل تتجسد لنا الشخصية عبر الحوار أو الأداء، فهي ليست رهنا لحبكة أو إطارا يحدد الحدث. ومن ثم، فلا تبدو المواقف استعارية، فالمواقف تكشف عن واع متغير وتحيل إلى الحاضر الراهن. وفي عدم استقرار الواقع التاريخي ما يضفي سمة الاعتباطية على هذا الواقع، وحضور الشخصيات تسيره الظروف ليغدو التفاعل المشترك مفتقدا، والتواصل قاصرا في معظم الأحيان، والتكتل الجماعي يشتت الجماعة فهو يوهم أفرادها بالاتصال بينما هم في حقيقة الأمر يفتقدون التواصل.

باتت القاهرة تموج بالقصص التي تسرد للقارئ عوالم متغايرة، إن اجتمعت على شيء فهو اللاتماثل. ويتميز إيقاع الحياة في تلك العوالم بالتحول المستمر، فالإجلاء عن الموطن الأصل في ما قبل 1952، والاستيطان بالقاهرة، ثم الإجلاء عنها في ما بعد 1952، ما جعل التقاء تلك الجماعات متعثرا، فلا تستقر الذات دون استئناسها بمستقر في مكان. وبينما صارت الأمكنة رهنا للتاريخ، لم تعد بمستقر لوقوعها تحت طائل اعتباطية التغيرات السياسية التي تفتقد مشاركة المجتمع وتتجاهل أو تجهل مكوناته الثقافية.

 

تأليف: آن ماري دروسو