من المكتبة الصغيرة... إلى عالم الجامعة جابر عصفور

من المكتبة الصغيرة... إلى عالم الجامعة

مازال كاتب المقال يتحدث عن رحلته خلف الكتب والمكتبات وهو يكشف عن جذوره الثقافية وعن المنابع الأولى التي استقى منها تكوينه الأدبي.

لم تنته الصلة بمكتبة (قصر الثقافة) أو جماعته مع دخول مكتبة الجامعة في دائرة الاهتمام, وسرعان ما أصبح لها الأولوية, وأصبح مكاني المفضل ما بين المحاضرات, وفي أوقات الفراغ هو (القاعة الشرقية). وهي إحدى القاعات الأساسية في مكتبة جامعة القاهرة. وتقع في الجانب الشرقي منها. وتحيط بجدرانها أرفف تمتلئ بالمراجع والمصادر الأساسية في التراث الأدبي بوجه خاص والثقافي بوجه عام, جنبًا إلى جنب الموسوعات ودوائر المعارف, التي كان أبرزها - في هذه القاعة - دائرة المعارف الإسلامية. وكانت القاعة تواجه القاعة الغربية المخصصة للمصادر والمراجع الأساسية في اللغات الأجنبية, بحيث تخيلت أن التسمية مرتبطة بالمحتوى. وكان من الطبيعي أن أجد مراحي وهواي في القاعة الشرقية لا الغربية, خصوصًا بعد أن أصبحت طالبًا في قسم طه حسين, وبدأت أكتب الأبحاث اللازمة للمقررات التي كانت (قاعات البحث) تلازمها, وأصبحت واحدًا من الوجوه المتكررة في القاعة الشرقية التي سرعان ما اقتربت من أمينها, وكان باحثًا متميزًا, هو المرحوم محمد قنديل البقلي الذي كان يتميز بصرامته في الحفاظ على الهدوء والنظام في القاعة, لكن بما لم يخل من استعداد دائم لعون كل من يلجأ إليه, بحثًا عن مراجع, أو رغبة في معرفة مصادر لازمة لموضوع بحثه.

اكتشاف التراث

وأشهد أن معرفتي بتراثنا الأدبي قد اكتملت في هذه القاعة التي قرأت فيها أهم دواوين الشعر العربي عبر عصوره المختلفة, وعرفت منها مجموعاته الأساسية مثل (المفضليات) و(الأصمعيات) وكتب (الحماسة) بأنواعها ومؤلفيها المتعددين. وكانت القاعة - تتميز - في ذلك الوقت - بما تضمه من الكتب المطبوعة في أوربا التي أعدّها المستشرقون الذين أفنوا حياتهم في خدمة التراث العربي الإسلامي, وقدموا له ما لم يستطع أن يقدمه أبناء هذا التراث نفسه, والأمثلة على ذلك عدة, أراها بعيني عندما أتصفّح مكتبتي التراثية, فأجد (معجم ألفاظ الحديث) الذي نهض به المستشرق فنسنك, وذلك إلى جنب كتابات بروكلمان وجولدتسيهر وكرنكو وبلاشير وغيرهم من الذين يدين لهم تراثنا. ومن الحق والأمانة أن ننصف المستشرقين الذين ندين لهم بالدرس العميق والتحقيق الأمين لتراثنا, فلا ينبغي أن نقع في شراك التعميم التي وقع فيها إدوارد سعيد في كتابه الشهير عن (الاستشراق), فلم يكن كل المستشرقين أعوانًا للاستعمار, أو أدوات للهيمنة الثقافية, فكثير منهم أحبوا تراثنا, ووهبوه أغلى سنوات عمرهم, وتركوا لنا من الآثار التي تشهد بفضلهم علينا.

ملتقى الطلاب

الطريف أن نوافذ (القاعة الشرقية) كانت تطل على كافيتريا كلية الآداب, وذلك في سنوات مجدها وازدهارها. وكانت الكافيتريا مقصدًا لطلاب العلم وطلاب السياسة والباحثين عن الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر على السواء. وكان ذلك في سنوات المد القومي, التي جعلت من كافتيريا الآداب ملتقى للطلاب العرب الذين لجأ الكثيرون منهم إلى مصر, فرارًا من الأنظمة المتسلطة في أقطارهم. وكانت أحاديثنا عن السياسة والخلافات حولها الوجه الآخر من الأحاديث الثقافية التي اقترنت بصراع أنصار الشعر الحر والشعر العمودي, أو بين المحافظين والمجددين على السواء. وبين هؤلاء وأولاء, كان ينزوي أبناء الكليات الأخرى الذين كان يجذبهم إلى كافيتريا الآداب جمال فتياتها, وتفتحهن النسبي, ويبدو أن ذلك هو السبب في إطلاق تسمية (كلية فاطمة) على كلية الآداب - جامعة القاهرة - التي أصبحت طالبا فيها ابتداء من سنة 1961. وقد ظللت لسذاجتي متوهمًا أن تسمية الكلية باسم (كلية فاطمة) يرجع إلى جمال بناتها, وأن التسمية أطلقها أبناء الكليات الأخرى الذين كانوا ينجذبون إلى كلية الآداب, خصوصًا كافتيريا الآداب, إعجابًا بفتياتها. وقد ظللت على هذا الوهم وقتًا طويلاً إلى أن عرفت أن التسمية بسبب الأميرة (فاطمة إسماعيل) ابنة الخديو إسماعيل التي تدين لها الجامعة المصرية بالفضل, فهي التي تبرعت بالأموال اللازمة لإنشاء الجامعة, وهي التي أقطعت الجامعة مساحات هائلة من أراضيها, كما أنها هي التي قدمت الأموال اللازمة لإنشاء مبنى كلية الآداب الذي لايزال يحمل, في مدخله, لوحة رخامية مكتوبًا عليها أن المبنى أنشئ بفضل هذه الأميرة المحسنة في مطالع الثلاثينيات. ولذلك لم تكن تسمية كلية فاطمة طرفة يمكن التندر بها, وإنما كانت علامة على تاريخ مجيد, تجسّده كلية عريقة من كليات جامعة القاهرة.

ولا أزال أذكر فرحتي بأنني أصبحت طالبًا في هذه الكلية التي لم يكن يعادلها سوى فخري بتاريخها الذي أنتسب إليه إلى اليوم, والتي تتصدر الحرم الجامعي في مواجهة زميلتها كلية الحقوق, كما لو كانت الكليتان معا أسدي جسر قصر النيل الرابضين على مدخله كأنهما علامة العبور وشارته. ولا غرابة في التشبيه, فتاريخ الجامعة المصرية يبدأ بهاتين الكليتين بأكثر من معنى. ومن يتحدث عن تاريخ كلية الحقوق التي سبقت الآداب, في الوجود والتأثير معًا, يتحدث عن مؤسسي الجامعة والدعاة الأوائل إلى إنشائها, من أمثال مصطفى كامل وقاسم أمين وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد الذين تخرجوا في مدرسة الحقوق العالية, وظلوا يعملون بلا كلل أو ملل, إلى أن حققوا الحلم وتأسست الجامعة التي بدأت عملها في نهاية ديسمبر من سنة 1908 بعد وفاة كل من مصطفى كامل وقاسم أمين بأشهر معدودة. وإذا كانت مدرسة الحقوق العالية التي سبقت الجامعة في الإنشاء قد أخرجت من أبنائها مَن سعوا بحلم الجامعة إلى التحقيق, وكانوا رواد الحلم ورواد التأسيس معًا, فإن كلية الآداب كانت الكلية الأولى الجديدة التي تأسست مع الجامعة, والتي ارتبطت بالجامعة الجديدة, وأصبحت علامة عليها, كما ارتبطت بها الجامعة الجديدة التي جعلت من حضورها الواعد رمزًا, ومن خريجيها طليعة التجديد في الأدب والثقافة بوجه عام. ولذلك لم تنقض أشهر قليلة على عمل كلية الآداب إلا وكانت دروسها موضع اهتمام الرأي العام. ولم تنقض سنوات معدودة إلا وكانت هذه الكلية تمنح درجة الدكتوراه الأولى في الآداب - سنة 1914 - للشيخ الذي سرعان ما أصبح أفنديًا, أعني طه حسين الذي كان طليعة خريجي الآداب في التصدي للتقاليد الجامدة وتأسيس مشروع المستقبل للثقافة في مصر والأمة العربية. ولم يكن زهونا بكلية الآداب يرجع إلى أنها الكلية الجامعية الأولى فحسب, بل كنا نضيف إلى ذلك أنها الكلية التي أسهمت إسهامًا جذريًا في حركة تحرير المرأة, وذلك منذ أن فتحت أبوابها للمرأة كي تتعلم بشكل غير رسمي في البداية, ودعت المحاضرات لإلقاء الدروس العامة, وقاومت العناصر الرجعية في المجتمع إلى أن فتحت أبوابها لتعليم البنات بشكل رسمي, فاتحة الباب لنصف المجتمع كي ينال حقه في التعليم المدني الذي لا يمايز بين أبناء الوطن وبناته. وكما منحت الكلية درجة الدكتوراه الأولى في الآداب لطه حسين الذي تخرج في قسم اللغة العربية, وكان بداية حركة التجديد الأدبي الجذري, منحت الكلية درجة الدكتوراه الأولى في الآداب لسهير القلماوي التي كانت المرأة العربية الأولى التي تحصل على هذه الدرجة من جامعة القاهرة التي سبقت كل الجامعات اللاحقة في هذا الإنجاز.

ولذلك لم نكن نستغرب الدور الذي قامت به كلية الآداب في الحياة الثقافية والاجتماعية سواء من حيث كونها طليعة الحداثة الفكرية أو الحداثة الأدبية. وكنا نفخر أنها الكلية التي ارتبطت بأعنف الأزمات السياسية التي حدثت بسبب حرية الفكر بالجامعة, وذلك منذ أن هبّت العاصفة الأولى على طه حسين بعد نشره أطروحته للدكتوراه عن (تجديد ذكرى أبي العلاء) سنة 1915, بعد عام واحد من إجازة الأطروحة, وهي العاصفة التي تكررت بأشكال متباينة, سواء مع رسالة منصور فهمي, قبل دكتوراه طه حسين بسنوات معدودة, عن (المرأة في الإسلام) التي تقدم بها إلى السوربون, أو مع كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) سنة 1926 الذي كان أكبر اختبار للجامعة في تاريخها الغض, وأنتج الصدام الذي شمل البرلمان والصحافة والرأي العام, وكاد يطيح بالجامعة الفتية لولا صلابة عود القائمين عليها, وإيمان رجال من أمثال أحمد لطفي السيد وعبدالخالق ثروت وعدلي يكن وسعد زغلول وعلي الشمسي بضرورة استقلال الجامعة وحماية مبدأ حرية التفكير والاجتهاد الذي هو عماد الجامعة والمعنى الحقيقي لاستقلالها, ولولا رئيس نيابة مستنير اسمه محمد نور, آمن بحرية الفكر وكرامة العلماء لوقع هذا المبدأ وتهاوى تحت أقدام العقول الغليظة وضيق أفق الأفهام الكليلة.

زهور الكتابة

وبقدر ما كانت كلية الحقوق كلية إعداد كبار المحامين والقضاة والوزراء ورؤساء الوزراء, باختصار كلية الحكام, كانت كلية الآداب كلية الفكروالفنون, التي تقود الحياة الثقافية والإبداعية, بعيدًا عن سطوة الحكم وغواية السلطة, وبواسطة القلم الذي كانت تغوينا تقاليده في الكتابة, وتدفعنا إلى أن نمضي في الطريق نفسه الذي مضى فيه طه حسين وأحمد أمين وعثمان أمين وزكي نجيب محمود وسهير القلماوي وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وأمينة السعيد ومحمود أمين العالم ومصطفى سويف وشوقي ضيف ولويس عوض ومحمد مندور وشكري عياد, ناهيك عن نجيب محفوظ وصلاح عبدالصبور وأمثالهما من المبدعين. ولذلك عرف أمثالي كلية الآداب الرمز والمعنى قبل أن يعرفوا الطريق إليها, فقد كنا نقرأ لأساتذتها في (الشعب) و(الجمهورية), وهما الجريدتان اللتان أنشأتهما الثورة, وسرعان ما توقفت الأولى, وبقيت الثانية تتصدرها مقالات طه حسين ولويس عوض وسهير القلماوي وعبدالحميد يونس وغيرهم, مقابل (الأخبار) التي كان يتصدّرها العقاد بجوار سلامة موسى, في موازاة (الأهرام) التي أخذت تجذبنا بعد أن انتقل إليها لويس عوض, وأخذ ينشر في الملحق الأدبي الذي يشرف عليه روايات نجيب محفوظ, وقصائد صلاح عبدالصبور وغيرهما من الذين كنا نزهو بكتبهم ونتابعها, ونحرص على شرائها, والمباهاة بأن مؤلفيها من أبناء كليتنا, ومنهم أبناء قسمنا.

وكان ذلك كله قبل أن ينحدر الحال بالجامعة المصرية بوجه عام, وكلية الآداب بوجه خاص, وذلك لأسباب سياسية واقتصادية, تحدثت عنها في مقالات سابقة, والنتيجة أن الجامعة الحلم الذي أنتسب إليه قد ضاعت وسط سحابات الفساد والقمع, التي أرجو أن تنقشع يومًا ما. ولذلك أهديت كتابي (المرايا المتجاورة) - وهو عن نقد طه حسين - إلى الجامعة التي أنتسب إليها والجامعة التي لاأزال أحلم بها, وذلك لإبراز المسافة الهائلة بين جامعة الحلم وجامعة الواقع, وبين آداب الستينيات الباكرة وآداب اليوم, وبالتالي بين كافتيريا الآداب, التي كانت أشبه بجامعة الدول العربية, من حيث كونها منتدى ثقافيًا حيويًا, وآداب ما بعد التسعينيات, التي اختفت منها الكافتيريا, وحل محلها مبنى خرساني قبيح, واختفت الأوجه الباسمة للفتيات السافرات اللائي لم يتعارض سفورهن مع حسن أخلاقهن, وحلّت محلها أوجه قلقة, متجهمة, مستريبة لكل مَن حولها, وذلك قبل أن يسيطر المحافظون على الجامعة, ساعين إلى إلغاء الكافتيريا التي ظلت معلمًا تاريخيًا, وعلامة على تاريخ حيوي في مسار الجامعة المصرية.

وأحسبني كنت موزعًا ما بين الكافتيريا والقاعة الشرقية التي تطل عليها, والتي كنت أذهب إليها للراحة, أو احتساء كوب من الشاي, أو التزود ببعض الزاد, فأغرق في النقاش الذي أجده, حول الأدب أو الفلسفة أو الفنون, حتى أشعر بشبع البطن والعقل, فأعود إلى مكاني في القاعة الشرقية أواصل القراءة, والعمل في الأبحاث, التي لم أتوقف عامًا واحدًا من أعوام الدراسة عن إعدادها, وبالطبع, لم أحاول العدل بين الكافتيريا والقاعة الشرقية, فقد كان الانحياز للثانية بكتبها وموسوعاتها التي أسرتني تمامًا, وأعطتني ما جعلني الأول على دفعتي طوال سنوات الدراسة, وأتاحت - بعد ذلك - لي أن أنضم إلى هيئة التدريس في الجامعة, لكن بعد أن أغرتني هذه القاعة بمعرفة بقية القاعات وطول عشرتها في المكتبة التي آثرتها على دار الكتب, والتي مهّدتني لرحلة المكتبات الجامعية التي عرفتها بعد ذلك في الأقطار الأوربية, وفي الولايات المتحدة, حيث تواصلت رحلة موازية مع الكتاب والمكتبات على الضفاف الأخرى من البحر والمحيط.

ما أعجبَ الأيَّامَ توجبُ للفتى مِنَحاً, وتَمْحَنُهُ بِسلبِ عَطاءِ
يا هل لماضي عيشنا منْ عودة يوماً وأسمحُ بعدهُ ببقائي
هيهاتِ, خابَ السّعيُ وانفصَمتْ عُرى حبلِ المنى وانحلَّ عقدُ رجائي
وكفى غراماً أنْ أبيتَ متيَّماً شَوقي أماميَ, والقضاءُ ورائي


(ابن الفارض)

 

جابر عصفور