حلول مدهشة لمعادلات صعبة محمد المخزنجي
مركز الكلي بالمنصورة
الجراحة والجمل الكم
والكيف . المكية الامة والإبداع . زرع الأعضاء بلا سوق لتجارة الأعضاء. التفرغ
للبحث ضد تيار الازدواجية العالب. جنوب وشمال بلا احتكار طبي. فقراء وأغنياء والطب
نفسه للجميع.
كل هذه الثنائيات التي تشكل معادلات صعبة، وجدت حلولاً تدعو إلى
الدهشة في صرح طبي كبير وجميل، ومتقدم، في مدينة عربية صغيرة من مدن الدلتا
المصرية، بإرادة ومحبة الكثيرين، وبقيادة روح جسور العالم إنسان وفنان، هو :
الدكتور محمد أحمد غنيم، الذي يبدو كأنه لن يشيخ ابداً لأنه بسيط ومخلص للفكرة
ولشرف الحياة. تجربة جديرة بالانتباه والحب.
لنقرأ معا هذه الأرقام، في آخر تقريرعن عمل مركز الكلى بجامعة المنصورة خلال عام واحد: 45000 مريض استقبلتهم العيادة الخارجية،. 2000 أجريت لهم جراحات بالمناظير، 2000 أجريت لهم جراحات لإزالة الحصوات، 400 أجريت لهم عمليات إزالة أورام، 500 أزيلت لهم أسباب حصر البول، 118 أجريت لهم تحويلات بعد استئصال المثانة، 56 أجريت لهم عمليات لزرع الكلى.
أرقام ضخمة من المرضى يتعامل معها مركز واحد، وليس هذا أكثر شقي المعادلة إدهاشا، فهؤلاء المرضى تقدم لهم خدمة طبية راقية لا تقل عن الخدمات الطبية في العالم الأول، ودون مقابل تقريبا، إذ أن العلاج المجاني لبسطاء المرضى في هذا المركز بلغ 83% بينما 17% فقط، من الميسورين، دفعوا تبرعات للمركز حددوا قيمتها بأنفسهم وقدموها عن طيب خاطر.
لنقرأ معا هذه الأرقام، في آخر تقريرعن عمل مركز الكلى بجامعة المنصورة خلال عام واحد: 45000 مريض استقبلتهم العيادة الخارجية،. 2000 أجريت لهم جراحات بالمناظير، 2000 أجريت لهم جراحات لإزالة الحصوات، 400 أجريت لهم عمليات إزالة أورام، 500 أزيلت لهم أسباب حصر البول، 118 أجريت لهم تحويلات بعد استئصال المثانة، 56 أجريت لهم عمليات لزرع الكلى.
هل يمكن عمل شيء طيب في واقع صعب؟
لم تكن مفاجأة لأبناء مدينة المنصورة (ذات التاريخ الشهير في كسر أنف آخر الحملات الصليبية)، أن تخرج الجرائد وأجهزة الإعلام عام 1976 بنبأ نجاح أول عملية لزرع الكلى على أرضها، فقد كانوا يعرفون أسطورة الرجل الذي يقف ورأء ذلك، والقسم الاستثنائى الذي أنشأه بإصرار عجيب وتفان ليكون الأرفع شأنا في المستشفى الجامعي، وبين كل أقسام جراحة الكلى والمسالك في الدولة. وعلى غير المألوف في مثل هذه المناسبات، توارى الدكتور غنيم عن الأنظار وقدم من ينوب عنه- للتعريف بهذا الإنجاز. وفي تقليد غير معتاد أشير إلى أن التجربة نتاج جهد جماعي لقسم الكلى والمسالك (الشهير بقسم 4 آنذاك)، وأن النجاح راجع إلى تعاون فريق طبي متكامل الخبرات بقيادة رجل كان هو الوحيد الذي لم يتحدث إلى الصحافة ولم تنشر صورته. لأنه كان أغنى روحيا من الفرح بالدعاية، فقد كان فرحه الحقيقي هناك في الأفق الذي تفرغ له، في الإنجاز الذي سعى إليه بعيدا عن غواية الاضواء- الكاذبة في معظمها- والذي سمق أخيرا، في النور الحقيقي، نور الفعل، وكان: " مركز الكلى وجراحة المسالك" لما بجامعة المنصورة الذي يعد أحد أشهر المراكز العربية الطبية المتخصصة، ويشار إليه بالتوقير ضمن المراكز المتقدمة في هذا التخصص- في العالم كله.
الكلى وعملها
وحتى نوغل مستطلعين إنجاز "مركز الكلى"، لابد لنا من الرجوع إلى الكلى ذاتها، ولو في عجالة.
للإنسان الصحيح العادي، كليتان، كل منهما عبارة عن مجمع هائل من وحدات وظيفية دقيقة عددها مليون وحدة تسمى النفرونات Nephrones، تعمل معا، ومستقلة في الوقت نفسه حتى إذا تلفت واحدة لا تبطل عمل غيرها. ويذكر أن أقل من ربع كلية قادر على إنجاز مهمة الكليتين إذا تلفت السبعة أثمان.
يأتي الدم عبر الشرايين الكلوية القوية التي تنبع من شريان الجسم الرئيسي "الأبهر" فتغمر نسيج الكلى بأكثر من عشرين ضعف مايغمر أيا من أعضاء الجسم الأخرى بما فيها القلب: والسر يكمن في أنه يتوارد ليس فقط لتغذية الكلى وإنما أساسا لتعمل فيه الكلى تنقية، وتنظيما، وإفرازا هورمونيا.
فعبر النفرونات يرشح الدم لإخراج كل ما هو ضار وزائد من بقايا عمليات التمثيل الغذائي والتنفس كالمواد النيتروجينية والكبريتية والسموم التي تأتي إلى الجسم من خارجه في صورة أدوية أو ملوثات، تفرز في شكل يوريا وحمض يوريك وكرياتيتين. في الوقت نفسه تحافظ النفرونات على سوائل الجسم في حدود تركيب فسيولوجي معين بعملية مستمرة من إخراج الزائد أو امتصاص المطلوب تبعا للتغيرات التي تحدث في الدم. ومن هذا الترشيح يتكون البول الذي يسيل في حوض الكلية وينزلق عبر الحالبين إلى المثانة التي تعمل ككيس وصمام معا، فهي تخزن البول إلى حد معين ثم تطلقه تحت سيطرة الجهاز العصبي وبآليات معقدة. إضافة إلى عمليتي تنقية الدم وتنظيمه فإن الكليتين تقومان أيضا بعملية إفراز هورمونات هي: "الرينين" الذي يرفع ضغط الدم عند تعرض الإنسان إلى خطر يهبط بضغطه إلى حد الصدمة، وهرمون "الارثروبيوتين" المحفز لحياة الكرات الدموية الحمراء الجديدة. كما تقدم الكليتان الشكل النشط من فيتامن "د" ومواد أخرى.
عندما تفشل الكلى
والفشل الكلوي، أي عجز الكلى عن أداء وظائفها، ينقسم إلى فشل كلوي حاد وآخر مزمن. فإذا عبرنا الفشل الكلوي الحاد، والناتج عادة عن أسباب جراحية (حتى أنه يتسمى أحيانا بالفشل الكلوي الجراحي) كالنزف والحروق أو التسمم الدموي، على اعتبار أنه قابل للشفاء reversible، يتبقى أمامنا ما يخيف حقا، أي: الفشل الكلوي المزمن، وهو العدو الأول الذي يكافحه مركز الكلى. وأسبابه يمكن إيجازها في: (1) حصوات الكلى والجهاز البولي (2) الالتهابات الكلوية المزمنة (3) العيوب الخلقية كالتكيس الكلوي أو ضيق الحالب أو الإحليل أو عنق المثانة (4) ضغط الدم المرتفع المهمل (5) السكر ومضاعفاته على الكلى (6) تضخم البروستاتا (7) سوء استخدام الأدوية خاصة المسكنات (8) نواتج تلوث البيئة.
وأعراض الفشل الكلوي المزمن يمكن تلخيصها في التالي:
المرحلة الأولى: تبدأ بكثرة التبول خصوصا في الليل والوهن مع ارتفاع ضغط الدم وتظهر في البول كرات الدم الحمراء وبعض الترسيبات مع قلة البروتين.
ويمكن أن ترتفع قليلا اليوريا في الدم. وهذه المرحلة يمكن أن تستمر سنوات مع الانضباط الغذائي.
المرحلة الأخيرة: وتظهر أعراضها على أجهزة الجسم كالتالي: (1) الجهاز العصبي: وهن وتوتر وصداع ودوار ثم غيبوبة مع اختلاجات عضلية وأحيانا تشنجات تشبه الصرع (2) الجهاز الهضمي: جفاف اللسان ورائحة بولية من الفم وفواق وغثيان وقيء وإسهال مدمم (نتيجة إفراز اليوريا في الأمعاء) (3) الجهاز التنفسي: تلاحق الأنفاس وصعوبتها (نتيجة اختلال كيميائية الدم) مما قد يؤدي !لى وزمة رئوية (4) الجهاز القلبي والدوري: نتيجة ارتفاع ضغط الدم وتتأثر به الأوعية الدموية أكثر فتظهر على شبكية العين أنزفة ووزمات (5) الجلد: الحكة وتوتر الجلد (لأن الغدد العرقية تفرز مزيذا من اليوريا) وجفاف الجلد مع اصفراره صفرة داكنة (لترسب مادة اليوروكروم فيه) (6) الدم: الأنيميا نتيجة موت الكرات الحمراء وقلة تجددها (بسبب غياب مادة الأرثروبيوتين من الكلية) (7) العظام: هشاشة وأعراض تشبه مرض النقرس (8) الغدد الصماء: انقطاع الطمث والعقم وفقدان الرغبة الجنسية.
ومن البديهي أننا في مواجهة هذا الرعب نجد أمامنا سبيلين: أولهما: "قطع الطريق على هذا المرض بعلاج مسبباته، وثانيهما: التعامل مع الفشل الكلوي المستتب بتنقية الدم عن طريق الكلى الصناعية أو إجراء عملية زرع كلى.
تفتيت الحصوات بلا جراحة
"وحدة الأمير طلال بن عبد العزيز" هي قسم تفتيت الحصوات بدون جراحة، وبدون مناظير، وبدون إعلانات تملأ الجرائد لاستدراج المكلومين الباحثين عن علاج لآلامهم بغير مزيد من الألم، وبأي ثمن. الأمر هنا مختلف، وبلا ثمن.
أدخل عبر الباب الأنيق فأجد نفسي في قاعة استقبال أشد أناقة ونظافة. لقد جهز المركز المكان، وتبرع الأمير طلال بالجهاز وهنا تكمن قدرة المركز على فتح كل نوافذه لنسائم الخير. ملمح آخر لحلول المعادلات الصعبة، يشير إلى ديناميكية العقل المدبر لهذا الصرح الطبي، والذي يقول أهلا وشكرا لكل الخيرين رغم أنف بيروقراطية اللوائح العتيدة، ما دام الهدف تقليل معاناة مخلوقات الله التي تكابد آلاما لا تطاق في أبدانها ودنياها.
الفوتيهات ونباتات الظل والجدران المعمولة بديكورأت الحجر الجيري المشرق. وأعبر بابا آخر فأجد نفسى في قاعة يربض وسطها الجهاز الحديث الذي يرقد على طاولته مريض ريفى شاب. ويرتبط بالجهاز هنا وهناك شاشات متابعة تليفزيونية. بينما الطبيب المختص يدير عملية التفتيت من وراء حاجز زجاجي يسمح له بمتابعة الشاشات ووضع المريض. وهو يصوب على الحصاة التي تظهر على شاشات جهاز التحكم أمامه بأداة إلكترونية ثم يطلق بالضغط على زر إلكتروني فيفرقع صوت يشبه مدافع الماء تسبقه ومضة ضوئية تظهر تحت الطاولة التي يرقد عليها المريض. ولا يبدو على المريض أي ألم رغم أنه في كامل يقظته.
ما الحكاية؟ أسأل، فيقودني الدكتور إبراهيم العراقي مدرس جراحة المسالك البولية إلى الإجابة...
من اختراق حاجز الصوت إلى تفتيت الحصوات
الجهاز يستخدم الموجات التصادمية التي نتجت عن دراسة الموجات المصاحبة لاختراق الطائرات لحاجز الصوت فوق المدن. فقد لوحظ صدور فرقعة مع تهشم زجاج نوافذ الأدوار العالية. وتبين أن هناك موجات لها صفات الصوت من حيث إنها تسري في المادة، وعندما تسري في مادة لها كثافة الماء لا ينتج عنها أثر. أما إذا اصطدمت بعائق ممانع لمرور الصوت فإن أثرها الصادم يظهر ولهذا يتجلى تأثيرها عند سطح الحصوة فيفتتها. وأول جهاز أنتجته شركة طيران، وهو عبارة عن مولد للموجات التصادمية (في جهاز المركز عن طريق تفريغ شحنة كهربية بين أقطاب معينة، طلقات ينتج عن كل منها حوالي 3000 موجة)، ووحدة أشعة سينية مرتبطة بالجهاز لتحديد مكان الحصوة ووضعها في البؤرة لإجادة التصويب عليها. ويحتاج المريض أحيانا إلى أكثر من طلقة. والجهاز يمكنه تفتيت حصوات لا يتجاوز حجمها 2 سم سواء في الكلى أو الحالب. لكن هناك حصوات ذات صلابة شديدة مثل حصوات "السيستين" تقاوم التفتت بهذه الطريقة. كما أن هذه الطريقة لا يمكن أن تحل تماما محل الجراحاتا العادية لاستخراج الحصوات إذا كان حجم الحصوة كبير، لأنه ينتج عن تفتيتها كمية كبيرة من الجزيئات يمكن أن تتراكم وتسد الحالب أو لا تمر بسلام. وموانع استخدام هذه الطريقة هي: ارتفاع ضغط الدم وأمراض النزف وتناول أدوية مانعة للتجلط. كما أنه لا ينبغي أن يكون هناك انسداد في الجهاز البولي من حوض الكلى حتى مدخل الحالب في المثانة. وبعد التفتيت ينصح المريض بشرب كمية كبيرة من السوائل ويعطى بعض مدرات البول الخفيفة وبعض المسكنات إذا كان هناك ألم وأيضا بعض المضادات الحيوية إذا كانت هناك التهابات.
لقد أجرى قسم التفتيت بالموجات التصادمية منذ إنشائه بالمركز في إبريل 1989 أكثر من ثلاثة آلاف عملية تفتيت. والمعدل الحالي عشر حالات يوميا. والجديد هنا- كما يخبرنا الدكتور إبراهيم العراقي- وقوله صدق- أن خبرة المركز المتقدمة في الجراحات التقليدية وجراحة المناظير للتعامل مع الحصوات الكبيرة جعلت استخدام الجهاز في المركز عاقلا ومرشدا وخاضعا للمقاييس العلمية. فلا اضطرار تجاريا للاقتصار على هذه الطريقة، ولا احتكار للخبرة حيث إن جميع الأطباء المقيمين قد تم تدريبهم على استخدام الجهاز، واختيار المرضى لهذا الإجراء العلاجي أو ذاك يتم بناء على أسس علمية.
الكلى الصناعية
ارتديت ملابس كاملة التعقيبم وعبرت الخط الأحمر إلى قسم الكلى الصناعية. لفت نظري وجود الأطفال الذين تجرى لهم عملية الغسيل، وقد امتدت من أذرعهم إلى الأجهزة أنابيب دقيقة تروح وتجيء بدمائهم القانية. وعصفت بالقلب رؤية هذه الطيور الخضراء الواقفة على حافة الموت وحافة الحياة. طوفت بين الأسرة النظيفة رغم أن المكان يموج بحركة الدم. وفي نهاية التطواف ذهبت مع الدكتور سمير صلي أخصائي أمراض الكلى بالمركز إلى جولة في الموضوع...
لقد بدأت فكرة الكلى الصناعية في أوائل الخمسينيات. وتتلخص في جعل الدم يتلامس مع محلول صحي عبرغشاء يسمح بخروج المواد الضارة من الدم إلى المحلول. وتطورت أجهزة الكلى الصناعية من أجهزة ضخمة تدار باليد إلى أجهزة دقيقة كاملة الأوتوماتية هي التي تستخدم في المركز الآن، حيث توصل أنابيب الجهاز بوصلة وريدية شريانية يؤخذ منها الدم إلى الجهاز ويعود نقيا (مغسولا) من المواد الضارة التي كانت متراكمة به. وهذا النوع يسمى الغسيل الدموي. ويوجد نوع آخر من الكلى الصناعية يسمى الغسيل البريتوني، ويعني إدخال محلول إلى تجويف الغشاء البريتوني في البطن فيعمل- الغشاء- كجهاز ترشيح بين الدم الموجود في الأوعية الدموية التي تغذيه وبن المحلول الذي تخرج إليه المواد الضارة ويعاد إخراجه من التجويف البريتوني، وتوجد ماكينة كاملة الأوتوماتية أيضا تسخن وتدخل ونحرج المحلول دون تدخل اليد البشرية. كما يوجد في هذا النوع غسيل بقسطرة اسمها "نينكوف" تسمح للمريض بأن يقوم بعمل الغسيل البريتوني لنفسه بالمنزل بعد تدريب بسيط على ذلك.
ورغم أن زرع الكلى هو الحل الأمثل للفشل الكلوي النهائي إلا أن الغسيل لا استغناء عنه، لأن هناك مرضى لا يصلحون للزرع فلابد من استمرارهم في الغسيل. كما أن المرضى الموضوعين على قوأئم انتظار زرع الكلى لابد لهم من الكلى الصناعية إلى أن تتم عملية الزرع.
زرع الكلى
الدكتور محمد صبح رئيس قسم الكلى بالمركز (Nephrology) . وهو احد المخلصين لفكرة الدكتور غنيم عن التفرغ ويراه السر الأساسي وراء الإنجاز العلمي في المعهد. وفي أثناء وجودي مع الدكتور محمد صبح حدثت لمحتان تشيران إلى طرفي معادلة صعبة من المعادلات التي أنجز المركز حلولها. ألا وهي العلاقة بين الشمال والجنوب في مجال البحث العلمي هل يمكن أن تكون سوية؟ ممكن. فقد جاءت طبيبة إنجليزية شابة تستشير الدكتور محمد في إجابة عن سؤال اعترضها، وعرفت أنها جاءت تتدرب في المركز. وعندما فض الدكتور محمد صبح مغلفا بريديا وجد أن محتواه دعوة من مجلة أوربية متخصصة تدعوه للتحكيم بشأن مقال علمي لباحث أوربي.
شيء مشرف ومفرح، وباعث على الأمل بأن شكل أي علاقة سواء في العلم أو في أي من مناحي الحياة، يتوقف على إرادة الفعل والإخلاص للاختيار، وهذه هي مأثرة الفعل الذي بدأه الدكتور غنيم ونقله لأبنائه وزملائه خاصة المخلصين منهم في مركز الكلى.
وعن زراعة الكلى تحدث الدكتور محمد صبح حديثا واضحا ودقيقا ليت فرصة النشر تفسح له ما يكفي من مكان.
... واللجوء إلى زراعة الكلى يأتي كحل أخير لعلاج الفشل الكلوي المزمن في مرحلته النهائية حيث تفقد الكليتان جدواهما ومن ثم لا يستطيع المريض أن يحيا بدون الكلى الصناعية. والزرع هو الأفضل لأنه يعطي نوعية فاعلة من الحياة حيث يصبح الزارع قادرا على النشاط والتكيف مع المجتمع دون الارتباط بأجهزة الكلى الصناعية. ونسب نجاح الزرع تصل إلى 90% في السنة الأولى. ودرجة النشاط تتوقف على كفاءة الكلى المزروعة ولدينا في المنصورة زارعون يمارسون أعمالا عنيفة مثل الحدادة.
وثبات الكلية بعد الزرع- يتحدث الدكتور محمد صبح فيشير إبلى معادلة صعبة جديدة- يعتمد على تثبيط جهاز المناعة دون إصابته بالشلل، أي منعه من إدارة صراع ضد الكلية المزروعة (على اعتبار أنها جسم غريب). وفي الوقت نفسه عدم منع جهاز المناعة هذا من مقاومة الجراثيم والميكروبات التي تهاجم الجسم. وفي هذا الاتجاه تاتي الأدوية المثبطة للمناعة وأشهرها "السيكلوسيورين"، وحتى لا يكون ضارا سواء للكلية أو للمريض ينبغي ضبط جرعته. والمشكلة أن استخدام دواء واحد يحتم أخذ جرعة كبيرة منه، لهذا نلجأ إلى المزج بين أكثرمن دواء فتقل جرعة كل منهم، وتقل آثاره الجانبية. والشائع في مركز الكلى هو استخدام خليط من ثلاثة أدوية هي البريدنيزون (كورتيزون) و "ا لسيكلوسبورين" والإميوران. وهذا الخليط تأثيره أقوى، وأثاره الجانبية أقل، وتكاليفه أيضا أقل.
المتبرعون.. هل من خوف عليهم؟
تبدأ عملية الزرع بتحديد الكلية المطلوبة بعمل اختبارات توافق للدم ومطابقة الأنسجة، وعند التطابق التام تعيش الكلية المزروعة أطول ويوجد زارعون في المنصورة يعيشون منذ 17 عاما. وأنسب المتبرعين يتحدد على أساس فصيلة الدم وتوافق الأنسجة وألا يكون لديه مرض بالكلى. وإذا تساوت مجموعة من المتبرعين في الشروط نختار الأكبر سنا والأكثر عطاء. فإذا كانا أما وأخا نختار الأم. وبعد المطابقة تدرس وظائف الكلى باستخدام النظائر وغيرها وتؤخذ من المتبرع الكلية الأقل كفاءة وتترك له الأكثر كفاءة. ورغم المطابقة تحدث أحيانا عمليات طرد للكلية المزروعة لأن تبويب الأنسجة وتطابقها يتم على أساس المعروف لدينا من ضديات الأنسجة tissue antigen، وتظل هناك ضديات لا نعرفها هي التي تفسر الطرد رغم التطابق.
والحديث عن الخطر على حياة المتبرعين نتيجة تبرعهم تم حسمه. فالخطورة لا تكاد تذكر، وتوجد إحدى شركات التأمين مولت دراسة لمقارنة حجم التعرض للخطر من جراء نقل الكلية مع غيرالمتبرعين ووجد أن درجة الخطورة بسبب التبرع تساوي درجة الخطورة نفسها التي يتعرض لها إنسان يركب-. سيارته ويذهب إلى عمله على بعد 18 كيلو مترا أي كما لوأنه في القاهرة وعمله في إحدى ضواحيها.
ويثار أن زراعة الأعضاء تخلق سوقا لا إنسانية لتجارة الاعضاء، ليس في الهند وأمريكا اللاتينية فقط، بل حدثت هنا، فقد بدأ أناس فقراء من الدول الإفريقية يأتون لبيع أعضائهم وكان لهم فندق ومقهى ومافيا في ميدان "العتبة". كان ذلك أسوأ من أسواق العبيد. أمام ذلك قام المعهد بحملة ضخمة مع جمعية جراحي الكلى لوقف بيع الأعضاء تماما، وان تكون زراعة الأعضاء بين الاقارب فقط حتى لا تتحول الظاهرة إلى الشق الإجرامي مثلما حدث في أمريكا الجنوبية من حوادث اختطاف للأطفال وتربيتهم في مزارع وكأنهم حيوانات حيث تجرى لهم اختبارات تبويب الأنسجة وتعرض أعضاؤهم للبيع لمن يريد شراء كلية من هذا الطفل أو قرنية أو قلب من ذاك!
أمام ذلك يظل موضوع نقل الأعضاء من جثث حديثي الوفاة Cadaver هو الحل الأمثل خاصة حيث لا يوجد مانع ديني.
إنهم يصنعون المثانة أيضا
عند إعداد هذا الاستطلاع للنشر طيرت وكالات الأنباء خبرا، مفاده، أنه في أثناء انعقاد المؤتمر العالمي للكلى بالسويد فاجأ الدكتور محمد غنيم أطباء العالم بالإعلان عن اكتشاف صمام جديد للمثانة يصنع من الأمعاء لايكلف أكثر من خمسة دولارات، توصل إليه الباحث الشاب الدكتور حسن أبوالعينين مدرس مساعد جراحة المسالك بالمركز، وذلك بدلأ من الصمام المعدني الذي كان يوضع لكل مثانة مصنعة من الأمعاء وتركب للمريض بعد عمليات استئصال المثانة المصابة بالسرطان، مما يعني توفير 1000 دولار في كل عملية، وتنحى الدكتور غنيم ليقدم تلميذه ليشرح بمصاحبة عرض بالفيديو ما تم إنجازه في هذا المجال وبلغ 25 عملية ناجحة.
لم يكن هذا الخبر مفاجأة لنا، فهذا هو "أسلوب غنيم" في دفع الباحثين الشباب إلى المقدمة وتفجير طاقاتهم الإبداعية. كما أن حديث "المثانة الصناعية لما لم يفاجئني لأنني وجدته في مركز الكلى ضمن خطط العمل البحثي والتطبيقي، مع مواضيع أخرى يلحق بها المركز ركب التقدم العلمي في العالم في هذا التخصص وأحيانا يسبقه بمثل نبأ هذا الصمام. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن المركز يعتبر من المراكز الأولى في العالم التي استخدمت تقنية الشفط بإبرة دقيقة (FNA) لأخذ عينة من الكلية المزروعة لتقييم ثباتها بدلا من استخدام الإبر القاطعة كما تجري على حيوانات التجارب عمليات الزراعة المشتركة للكلى مع خلايا البنكرياس لمساعدة مرضى السكر على استقرار كلى تزرع لهم دون أن يتلفها مرض السكر. ولقد أوفد الدكتور محسن مقرش إلى فرنسا لنقل خبرة زراعة البنكرياس.
أمل لإزاحة ألم عظيم
و "المثانة الصناعية" هذه ليست ترفا بحثيا بل هي أمل لإزاحة ألم عظيم في واقع تنهش الأورام السرطانية مثانات فلاحيه. ويعتبر مركز الكلى أحد اكثر المراكز في العالم خبرة في سرطان المثانة، وكذلك في تصنيع المثانة من الأمعاء والتي تسمى "كيس كوك" (Kock POUCH) ففي العدد الأخير من الجريدة العلمية لجراحة المسالك البولية الناطقة باسم رابطة جراحى المسالك البولية الأمريكية نقرأ: "خبرات جديدة في بديل المثانة "كيس كوك" الموصول بقناة التبول الطبيعية بحث الدكاترة: محمد غنيم، عطا الله شعبان، محمد مهران. من قسم الجراحة بمركز الكلى وجراحة المسالك بجامعة المنصورة- مصر ".
وجاء في خلاصة البحث ABSTRACT أنه قد أزيلت المثانة ل 185 رجلا بسبب الإصابة بالسرطان، وتم استبدال كيس "كوك" بها، استطاع 92% منهم التحكم في التبول تماما في أثناء النهار. وأوصت مناقشة البحث جراحي الكلى والمسالك في العالم باتباع التطويرات التي أضافها إلى الموضوع باحثو مركز الكلى.
والجديد في الأمر، هو أن الرجال الذين كانت تزال لهم المثانة المصابة بالسرطان، كانت تجرى لهم عمليات تحويل للحالبين لتصريف البول عن طريق المستقيم أو عن طريق فتحات صناعية في البطن، لكن في عمليات كيس "كوك" صارت الفكرة هي تقديم مثانة بديلة تجمع البول وتخرجه بطريقة تشبه عمل المثانة الطبيعية التي هي كيس وصمام في الوقت نفسه. وهي الفكرة الجديدة التي يعملون بها ويطورونها في مركز الكلى.
فعند استئصال المثانة المضروبة بالسرطان ومعها البروستاتا التي امتد إليها المرض، تتم المحافظة على قناة التبول الطبيعية، الإحليل، وما يحيط بمدخله من مكونات عضلية. ثم تؤخذ من الأمعاء الدقيقة قطعة طولها من 45- 50 سنتيمترا، يصنع من الثلث الأول صمام بانفتال قطعة الأمعاء مع تثبيت هذا الانفتال بعراو معدنية. ومن الثلثين الباقيين يصنع كيس بعد فتح قطعة الأمعاء وإعادة تشكيلها لتناسب الاستقرار في الحوض، مستقبلة الحالبين من جهة وموصولة بالإحليل من الجهة الأخرى. وهذه المثانة الجديدة- كيس كوك- تجميع البول وتطلقه اعتمادا على قوة سحب الجاذبية Gravity drainage وبمجرد رفع الضغط داخل البطن (بالحزق). أي تشبه تقريبا عمل المثانة الطبيعية فتوفر على المريض عناء عضليا ونفسيا لا حد لهما.
وقد كانت نسبة النجاح عالية في مركز الكلى بالمنصورة ولم تسجل حالات وفاة بعد الجراحة.
مركز طبي في قلب حديقة
في كل ركن بمركز الكلى توجد النباتات والزهور. وتذكرنا كل هذه الألوان البهيجة بتاريخ المكان الذي بني وسطه المركز، فقد كان يوما ما حديقة جميلة تحمل اسم "شجرة الدر" الملكة التي أخفت نبأ وفاة زوجها "الصالح أيوب" حتى لاتفت من عضد المحاربين ضد الغزوة الصليبية، لكن الحديقة قبل إنشاء المركز كانت مهملة وكالحة وتحولت إلى بقع من الأرض البور والشجر العطشان والبرك الآسنة. ولقد أعاد المركز الحياة إلى الحديقة من جديد فصارت أزهى، إضافة إلى الحديقة الإنسانية التي تتفتح بلا انقطاع في قلب مكان يقاتل الألم والعجز الإنسانين بأكبر قدر من صون الكرامة للبسطاء والمتألمين.
وبركن الحديقة الخلفي كانت الصوبة موقدة المصابيح في رائعة النهار، توفر الدفء لنباتات جديدة يتم إكثارها ليستغني المعهد ذاتيا، كما أن كل نبات يمرض في المعهد يهبط ليتلقى العلاج في الصوبة ويحل مكانة نبات جديد فتي. ولقد عرفت من المهندس الزراعي أن هناك نباتات وزهورا نادرة لا يوجد مثلها خارج المعهد جلب الدكتور غنيم بذورها معه من الخارج في أثناء سفراته العلمية الكثيرة.
ثلاثية التميز
وإذا كان الجمال ملمحا يلفت النظر في مركز الكلى فإن النظافة والنظام يكملان ثلاثية التميز. فكل شيء يبرق نظافة، وفي عنابر المرضى كان كل شيء نظيفا، ففرش الأسرة يتم تغييره 6 مرات يوميا ويستبدل به آخر نظيف ومعقم. أما الطعام فقد كان خاضعا للثلاثية نفسها، كل شىء في المطبخ الضخم يتألق نظافة ولا شيء تلمسه الايادي حتى الخبز يتم التقاطه بقفازات معقمة ويوضع على صواني الطعام التي تمضي على سير متحرك ينقلها إلى عربة معقمة تصعد إلى العنابر وتوزع الطعام- دون لمسه- فتيات في زي خاص وبقفازات معقمة في أياديهن. منظر مؤثر، عندما يجد الفلاحون الفقراء من المرضى من يغمرهم بكل هذه العناية وكأنهم في فنادق الدرجة الأولى.
وأسمع دعاء حاراً، يتردد بلهجة ريفية: "يعمر بيتك ياغنيم".
وأمضى مودعا المكان الذي كان حديقة جميلة، وصار الآن حديقة أجمل، بينما صدى الدعاء يتردد في داخلي بكل الرضا:
" نعم.. يعمر بيتك ياغنيم ".