اللغة حياة

اللغة حياة

حَمّالة الحطب

لشيوخ الدين أساليب طريفة في امتحان الآخرين؛ وقد كان لي خال يمكن إدخاله في زمرة الشيوخ، لأنّه كان، رحمه الله، مقرِئا يتقن تجويد القرآن الكريم إتقانا كبيرا، وقد خرّج في القراءة عشرات الطلاّب، وربّما مئاتهم، فضلا عن أنّه كان جميل الصوت، مجيدا للألحان، مكتفيا باستعمال معرفته الموسيقيّة في قراءة القرآن والأناشيد الدينيّة ليس غير. ويوما أراد أن يمتحن لغتي، بُعيد دخولي إلى ملاك التعليم الجامعيّ، أي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأن يختبر منهجي العلميّ، ليرى إن كنت مدقِّقا متأنّيا أو عجولا متسرّعا؛ فقال لي ساخرا مستنكرا: «أَتَعْلم يا مصطفى أنّ فلانا يزعم جواز أن نقرأ: «وامرأتُه حَمّالةُ الحطب»، بضمّ حمّالة - أليست هذه حماقة؟» فقلت له: «أنا أعرفها بالفتح، لكنّني لا أعلم إمّا كان ثمّة قراءة أخرى بالضمّ، فدعني أراجع كتب القراءات»؛ فقال لي، وهو يحاول أن يثنيني عن التحفّظ، وأن يجعلني استنكر ما تظاهر باستنكاره: «معقول؟ الأمر واضح جدّا ولا يحتاج إلى مراجعة»؛ فلمّا أصررت على الاستيثاق، مضى مظهرا التبرّم؛ ثمّ التقيته، بعد ذلك، مرارا فتحاشى حديث «حمّالة الحطب»، وحال دون أن أبلغه ما انتهى إليه بحثي؛ وأدركت أنّه كان يستدرجني إلى تجهيل من يرفع «حمّالة»، فيفضح جهلي وتسرّعي!

والحقّ أنّه أفادني، يومذاك، إفادة جمّة؛ لأنّني كنت أحسب أنّ نصب «حمّالة» واجب، وأنّها منصوبة على الشتم أو الذمّ، فلمّا أن راجعت كتب القراءات، وجدت أنّ عامّة القرّاء قد قرأوها بالرفع، وانفرد عاصِم بن أبي النجود أو عيسى بن عُمَر بقراءتها بالنصب؛ فهي قراءة خاصّة، مع أنّها هي الغالبة في المصاحف اليوم؛ ولعلّ سبب غلبتها أنّ كتبة المصاحف أخذوا برواية حَفْص الأَسديّ تلميذ عاصِم؛ فلا غرو أن يكون كاتب هذه المقالة أيضا قد حفظها على تلك الصورة منذ أيّام الطلب. وتقوم قراءة العامّة على أنّ «امرأته» مبتدأ، و«حمّالة» خبر، وجملة «في جِيدِها حَبْلٌ» في محل حال من فاعل «حمّالة»؛ أو على أنّ «امرأته» مبتدأ، و«حمّالة» نعت لها، وجملة «في جيدها، الخ» خبر. وهذان أقرب إلى المنطق والبداهة من تقديرات أخرى معقّدة وغير مقنعة.

أمّا قراءة النصب فعلى ما أسلفنا؛ والراجح أنّ اللغويّين، ولاسيّما سيبويه، هم الذين استنتجوا أنّ المراد هو الذمّ أو الشتم، فقدّروا فعلا يدلّ عليهما وينصب الكلمة؛ وذلك أيضا غير مقنع، حتى إنّ بعض النحاة المتأخّرين كابن عَقيل واين هشام، لم يفردوا لهذا المبحث ولا للنصب على المدح بابا، في ما نعلم. فالأمر تأويليّ محض؛ لأنّ الجملة إذا وردت في معرض الذمّ، قدّروا فعل ذمّ ناصبا، أو قدّروا فعلا كفعل «أَذكر» وضمّنوه معنى «أَذُمّ»؛ وإذا وردت في معرض المدح قدّروا فعل مدح ناصبا، أو فعلا مضمَّنا معنى «أَمدَحُ». ومن شواهدهم على ذلك بيت شاعرة قديمة تفخر بقومها، والفخر مدح للنفس أو لقوم الشاعر:

لا يَبْعَدَنْ قومي الذينَ هُمُ سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
أَلنازِلينَ بِكُـلِّ مُعْتَرَكٍ والطَيِّبونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ


على أنّ «النازلين» منصوب بفعل «أَمدحُ»؛ والطريف أنّ سيبويه يروي البيت نفسه، في الجزء الأول من كتابه، بالرفع: «النازلون» موحيا أنّ الكلمة صفة لقومي؛ ويرويه في الجزء الثاني بالنصب، مؤكّدا أنّ الكلمة نفسها اسم «لا سبيل له إلى أن يكون صفة»! ولا شكّ أنّ عطف «الطيّبون» على «النازلين» لا تقبله السليقة العربيّة، مهما تأوّل اللغويّون؛ والصواب رفع الكلمتين.

هذا، وإذا استشعر النحاة معنى الشفقة، جعلوا النصب على الترحّم، مثل: مررتُ به المسكينَ؛ فإذا لم يجدوا لا مدحا ولا ذمّا ولا ترحّما قدّروا فعل «أَعْني»، وذلك قول سيبويه: «وقد يجوز أن يَنصب ما كان صفة على معنى الفعل، ولا يريد مدحا ولا ذمّا ولا شيئا ممّا ذكرتُ لك»؛ ويستشهد ببيت يُنصب فيه مفعول بفعل «أَعْني» على ما قدّمنا.

وقريب من ذلك ما سمّوه اختصاصا، نحو: نحن البدوَ فصحاء. مع أنّهم قدّروا فيه فعل «أخصُّ» وليس مصدره الاختصاص؛ لكنّ سيبويه قدّر فيه فعل «أَعْني» نفسه، وإن أشار إلى الاختصاص، وأوحى إرادة الفخر؛ فجاء المتأخّرون وجعلوا النصب على الاختصاص والفخر أو على الاختصاص والمدح، معوِّلين على التأويل المحض. وبعضهم فرّق بين النصب على الاختصاص والنصب على الفخر، فحيث وجد فخرا نصب عليه، وإلاّ نصب على الاختصاص! علما أنّ سيبويه جعل الاختصاص يحتمل معنى الافتخار ومعنى التحقير؛ والحقيقة أنّه يكاد يحتمل كلّ المعاني، ولا يجوز التفريق في النصب بمقتضى هذين الغرضين وما أشبههما.

فالنصب على المدح أو الذم أو الترحّم أو الاختصاص، الخ. ليس مسلّما به، والراجح أنّ جميع هذه الحالات، إن صحّ وجودها كلّها، منصوبة بفعل «أَعْني». ويبقى أنّ الرفع صحيح مادام السياق يحتمله. والغريب أن بعضهم يخطِّئه مع أنّ المبرّد يروي بيتا لشاعرٍ من بني نَهْشَل، يقول:

إنّا بَني نَهْشَلٍ لا نَدَّعي لأَبٍ عَنْهُ، ولا هُوَ الإيثارِ يَشْرينا


فيجيز فيه:«إنّا بنو نهشل»، بجعل «بنو» خبر «إنّ». أمّا إذا نُصبت «بني» فنصبها، عنده، بفعل مضمر للاختصاص «وهذا أمدح» في رأيه؛ وخبر «إنّ» هو عندئذ قول الشاعر في البيت التالي: «إن نبتدرْ غاية، الخ». وعلى الرغم من ربط المبرّد الاختصاص بالمدح فإنّه يوحى أنّ منه قراءة «وامرأتُه حمالةَ الحطب»؛ ومعروف أنّ سيبويه ومن تابعوه جعلوا في هذه القراءة شتما لزوجة أبي لهب وليس مدحا. والحقيقة أنّ جملة:» إنّا بني نَهْشلٍ لا نَدَّعي لأَبٍ» تامّة، وخبر «إنّ» فيها هو جملة «لا ندّعي».

وهنا تظهر المشكلة: إذا طبقنا قول المبرّد على مثَلَ سيبويه: نحنُ العربَ أقرى الناس للضيف، لكن برفع «العرب» حصلنا على أنّ «نحن العربُ» مبتدأ وخبر، فما محل «أقرى»؟ الواقع أنّ «العربُ أقرى الناس» جملة اسميّة تامّة، مثل جملة «اللهُ أحدٌ» في الآية الكريمة «قلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ»، و«نحن» في تلك الجملة نظير «هو» في الآية؛ وينشأ رأي أُنُف، لا نحسب القدماء قالوا به، وهو أنّ ضمير الشأن يمكن أن يكون للمتكلّم، كما يمكن أن يكون للمخاطَب في نحو عبارة: أنت محمَّدٌ صادقٌ. لكنّ قولنا مثلا: نحن العربُ نحبُّ الشعر، لا يستقيم لأنّ جملة «العرب نحبّ الشعر» ليست عربيّة؛ كما أنّ بناء محمّد على أنّه علَمٌ منادى أقرب إلى السليقة، ولذلك يُفضَّل النصب على الاختصاص في مثل هاتين الحالتين.

 

 

مصطفى الجوزو