جمال العربية

جمال العربية

غزلّيات العقاد
بين جبروت الوعي والانكسار الإنساني

في ظل سيطرة نموذج شوقي الشعري - وهو نموذج استقطب جوهر شاعرية البارودي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم - لم يُتح للذائقة الشعرية عند الجمهور الأدبي أن تتسع لشعر العقاد، أو أن تضعه في سياقه الطبيعي من حركة التحديث الشعري.

فقبل أن يتخلخل نموذج شوقي، كان شعر المهجريين قد بدأ ينهمر من الأمريكتين، ومعه شعر من تابعوهم من شعراء المشرق والمغرب العربيين. ثم كان شعر جماعة أبولو ومغامراته الإبداعية التي تهدف إلى تجلية النموذج الرومانسي للقصيدة العربية من حيث الحساسية والموقف والرؤية الشعرية. كان كل ذلك يباعد بين قراء الشعر وشعر العقاد، وكانت المسافة تتزايد باستمرار، كلما أشرق فجر شعري جديد.

وزاد من اتساع هذه المسافة، أن شعر العقاد نفسه لم يكن كشعر غيره من شعراء معاصريه أو متابعيه. كان نموذجا يتحدى وعي المتلقي وعقله وفكره، وقدرته على التأمل والتجريد. لم يكن في الجلبة والجهارة والعناية بالفخامة كنموذج شوقي وأضرابه، ولا مسرفا في العاطفية والخيال الجامح كشعر المهجريين والرومانسيين. وليس هو شعر الحواس الظاهرة والقشرة الخارجية بقدر ما هو شعر العواطف العميقة. كان شعر اليقظة والوعي لا شعر الغيبوبة والحلم.. وكان العقاد في هذا الشعر - كما وصفه مريده وتلميذه سيد قطب في كتاباته النقدية المبكرة عنه - شاعرا يعيش في وضح النهار. والوضوح الساطع صفة يمكن أن يباهي بها الكاتب، لكنها ليست مما يسعد به الشاعر الحقيقي.

يقول سيد قطب عن العقاد الشاعر في أحد فصول كتابه «كتب وشخصيات» وهو يتناول بالنقد والتحليل ديوان العقاد «أعاصير مغرب»: «في وضح النهار يعيش العقاد، صاحي الحسّ، واعي الذهن، حيّ الطبع. لا يهوّم إلا نادرا، ولا يتوه فيما وراء الوعي أبدا. ومعالم الإحساس والتصور عند العقاد واضحة، وعلى رحابتها وانفساحها وعمقها ودقتها يحدّها إطار من الوعي المتيقظ، فلا تهِيم في وديان مسحورة، ولا تنطلق في متاهات مجهولة».

ثم يقول سيد قطب: «ويعوّض شعر العقاد الجيد عن الرفرفة الطليقة تلك الحيوية المتدفقة، وعن الإيقاع المتموج تلك الحبكة الرصينة، وعن الانطلاق الهائم ذلك العمق الدقيق، وعن سبحات الصوفية التائهة صدق الحالات النفسية الواضحة».

وشعر العقاد وحده - من بين كل آثاره القلمية - هو الذي يكشف لنا عن ضعفه الإنساني، ويجعلنا ننسى صورة «الرجل الخارق» أو «السوبر مان» التي نخرج بها من سائر كتاباته، صورة تتشكل من عناصر العناد والإصرار والكبرياء والتحدي والشعور بالزهْو والتفوق والاستعلاء على الآخرين. أما العقاد في شعره، فهو كائن شديد الهشاشة لفرط حساسيته واتقاد مشاعره ورهافة وجدانه، تنوشه الظنون ويقلق كما يقلق الناس، ويبكي بكاء الطفل الذليل ويغصّ بالماء الذي أعدّه للري ويتقلب في نيران الجحيم، ويتمنى لو باع حظه كلّه بساعة واحدة ينسى بها عمره فكأنه لم يولد.

يقول في قصيدته «يوم الظنون» وهي من بدائعه الشعرية، كما أنها شاهد على حقيقته الشعرية والشعورية معا في موقف يتجلى فيه معنى الضعف الإنساني والهزيمة النفسية:

يوْمَ الظنون صدعتُ فيك تجلّدي وحملت فيك الضيْمَ مغلولَ اليد
وبكيتُ كالطفل الذليل، أنا الذي ما لان في صعب الحوادث مقودي
وغَصَصْتُ بالماءِ الذي أعددْتُه للريِّ في قفر الحياة المجهد
لاقيتُ أهوال الشدائد كلها حتى طغت فلقيتُ ما لم أعْهِد
نارَ الجحيم إلىَّ غير ذميمةٍ وخذي إليك مصارعي في مرقدي
حيران أنظر في السماء وفي الثرى وأذوق طعْم الموت غير مُصرّدِ
أرْوى وأظمأ، عذبُ ما أنا شارب في حالتيّ نقيعُ سُمِّ الأسودِ
وأُجيلُ في الليل البهيم خواطري لا شارق فيه ولا من مُسعدِ
وتعيدُ لي الذُّكْراتُ سالف صبوتي شوهاءَ كاشرةً كما لم أشهدِ
مُسخت شمائلها التي سعدتْ بها وبدت بوسْمِ في السعير مُخلّدِ
يا صبوة الأمس التي سعدتْ بها روحي، وليت شقيّها لم يسْعدِ
وعرفتُ منها وجهَ أَصْبحَ ناضرٍ ورشفْتُ منها ثغْر أَلْعسَ أغْيدِ
سُومحْتِ، بل جُوزيتِ، كيف وعيْتِ لي بالأمسِ فيك ضراوة الذئب الصّدى
سُومحْتِ، بل جُوزيت، كيف طويْتِ لي زُرق الأسنة في الإهابِ الأملدِ
أمسيْتِ حربي في الظلامِ، وطالما جلْيْتِ لي وجه الظلامِ المُرْبدِ
ورجعْتُ أهرب من لقاك، وطالما ألفيْتُ عندك في الشدائد مقصدي
ما كان من شيء يزيد تنعُمي إلا يزيد اليوم فيك تلدّدي
أواه في أمسي ومن يومي معًا والويل من طول التردد في غدِ
أهبُ الخلود كرامةً لمبشري أنْ ليس يومي في العذابِ بسرْمدِ
وأبيع حظي في الحياة بساعةٍ أنسى بها عُمري كأنْ لم أْولدِ
وأسومُ مرْعى العيش غير مزوّدٍ وأرود روْض الحسنِ غير مُقيّدِ


وتنخطف روح العقاد، ويتواثب قلبه في صدره، انتظارًا لليوم الموعود الذي يجمع بين الحبيبين، والذي يفرح بشروق شمسه فرح العين التي ران عليها الظلام لقدوم الضياء، هذا اليوم الموعود يُخيّل له الجنة بكل ما فيها من زهر متبسم وثمرات مشتهيات، وكروم وظلال، هي لحظة أخرى كاشفة عن غوْرٍ سحيق من أغوار الضعف الإنساني، والصدق الشعوري، الذي يكشف عنه شعر العقاد حين يقول في قصيدته «اليوم الموعود»:

يا يوم موعدها البعيد، ألا ترى شوقي إليك، وما أُشاقُ لمغنم
شوقي إليك يكاد يجذب لي غدًا من وكره، ويكاد يطفرُ من دمي
أسرعْ بأجنحة السماءِ جميعها إن لم يُطعْك جناح هذي الأنجمِ
ودع الشموس تسير في داراتها وتخطُّها قبل الأوانِ المُبْرمِ
ما ضرَّ دهْرَك إن تقدم واحدٌ يا يوم من جيشٍ لديه عرمرم
لي جنّةٌ يا يوم، أجمع في يدي ما شئتُ من زهرٍ بها مُتبسِّمِ
وأذوق من ثمراتها ما أشتهي لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي
وتطوف من حولي نوافر عُصْمها ليست بمُحجمةٍ ولست بمحجمِ
وتلذُّ لي منها الوهاد لذاذتي بتصعّدٍ في نجدها وتسنُّمِ
لَمْ آسَ بين كرومها وظلالها إلا على ثمرٍ هناك مُحْرّمِ
فكأنما هي جنة في طيِّها ركن تسلّل من صميم جهنّمِ
أبدًا يُذكّرني النعيمُ بقربها حرمان مزءودٍ وعُسْرَة مُعدمِ(1)
وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى وكأنني من حسرةٍ لم أَنْعمِ
يا يوم موعدها، ستُبْلغني المنى وتُتمُّ لي الفردوس خير مُتمِّمِ
لا غصْنُ رابيةٍ تُقصّرُ راحتي عنه، ولا ثمرٌ يعزُّ على فمي
سأظل أخطرُ كالغريب بجنّتي حتى أثوب على قدومكَ، فاقْدُمِ
فأبيتُ ثَمَّ إذا احتواني أُفْقها لمْ أَنْهَ عن أملٍ ولم أَتندّمِ
فرحي بصيحك حين تشرقُ شمسهُ فرح الضياء سرى لطرْفٍ مُظلمِ
أمُعيرتي خُلْدَ السماءِ سماحةً صونيه عن وَلهٍ صيانةَ مُكرمِ
رفقا بخلدك أن تشوبي صفوه إن لم تري رفقا بمهجة مُغرم


إن مساحة كبيرة من شعر العقاد تكاد تجعل منه شاعرًا رومانسيًّا، يشبه شعره شعر المهجريين، وربما تقترب بعض قصائده من الأفق الذي حلّقت فيه قصيدة شعراء أبولو، طغيانَ عاطفة وجموحَ خيال. لكن الطريف - في أمر العقاد العاشق والمحب والمتيّم والمنكسر، والخاضع للضعف الإنساني ومعاناته، أنه يظل متمردًا على السّائد والمتداول. إنه يرى الحب من زاوية مغايرة ووجهة نظر مختلفة، فيصبح حبُّه مختلفا في المعنى والدلالة، وتصبح عاطفته - مهما اشتطّت - محكومةًّ بوعيه وفكره ونفاذ تأملاته. يقول العقاد تحت عنوان «هذا هو الحبُّ»:

غريرةٌ تسألُ: ما الحبُّ؟ بُنيتي: هذا هو الحبُّ
الحبُّ أن أُبصر ما لا يُرى أو أغمض العينَ، فلا أُبصرا
وأن أُسيغ الحقَّ ما سرَّني فإن أبى، فالكذب المُفْتَرى
الحبُّ أن أسأل: ما بالهم لم يعشقوا المنظر والمخبرا
ويسأل الخالون: ما باله هام بها بَهْرًا، وما فكّرا
الحبُّ أن أَفْرقَ من نملةٍ حينًا، وقد أصرعُ ليث الشرى
وأن أراني تارةً مُقبلاً وخطوتي تمشى بيَ القهْقري
الحبُّ كالخمر، فإن قيل لي: سكرْتَ؟ همّ القلبُ أن يُنكرا
وكلُّ عضوٍ بعده قائلٌ نعم، ولا أحفل أن أسكرا
الحبُّ أن يفْرق أعمارَنا عهدانِ، والعهدُ وثيقُ العُرى
أَحسبني الأكبر، حتى إذا عانقْتني، أَلفيْتني الأَصْغرا
الحبُّ أن نصعد فوق الذرى والحبُّ أن نهبط تحت الثرى
والحبُّ أن نُؤْثر لذّاتنا وأنْ نرى آلامنَا آثرا
الحبُّ أن أجمع في لحظةٍ جهنم الحمراءَ والكوثرا
وإنني أُخطئُ في لهفتي مَنْ منهما روَّي ومن سعّرا
الحبُّ أن يمضيَ عامٌ، وما هممْتُ أن أنظم أو أشعرا
وربّما علّقتُ في ساعةٍ حواشيَ الدفتر والأسطُرا
بُنيتي! هذا هو الحبُّ فَهِمْته؟ كلاّ ولا عتْبُ
مسألةٌ أسهلُها صعْبُ لا الناسُ تدريها ولا الكُتْب
حسْبُك منها لو شَفت، حسبُ إشارةٌ دق لها القلبُ


ولقد دق قلب العقاد مرات ومرات، واستطاع حينا أن يمسك عليه نفسه، وأن يضبط حركته معتصمًا بزْهو رجولته وكبريائه، وأن ينسحق أحيانا أمام طغيان الجمال وجبروته وتحكمه، فلا يملك إلا الشكوى وسكْب الدموع:

يا غزير الدموعِ! أين الدموعُ؟ كم تُريد البكا وما تستطيعُ
كيف سلواك، والفؤاد يما يُسـْ ليه في فاجعاتهِ مفجوعُ
لهْف نفسي عليك يا قلبُ، يأبى فيك إلا الكمونَ داءٌ وجيعُ
عبراتٌ، بُرءُ الهوى لو أريقتْ، وسِمامٌ حتى تُراق نقيعُ(2)
كَمنتْ فيك، لا تفيض ولا تبر دُ، فالصدر من شجاها صديعُ
لو جرت في السحاب أجفل أو يَأ زمُ عن سبْحه الفضاءُ الوسيعُ(3)
نضب الدمع أم مجاريه سُدّت أم فؤادي تامورُه مقطوعُ
كلّما رُمْتُ في الجوانح ماءً هاج للنار بينهنّ سطوعُ
منْ يذقْ غُصة الشراب فما بي غُصّةٌ، غير أن تفيض الدموعُ
إنما الحزن ريّضٌ ما استقى الدمـ عَ، وأندى الأحزانِ حزن رضيعُ
يحرق الجمر يابس الحطب الجزْ لِ، ويأبى الحريقَ لدْنٌ مَريع
فيك يا حُبُّ كلُّ هذا؟ فبُعْدا لك داءً ترياقهُ ممنوعُ
غمرات وخدعة وجهادٌ وسهادٌ وحسرةٌ وولوعُ


وفي الوجهين معًا من وجوه الحب والنفس الإنسانية تكمن حقيقة العقاد.
--------------------------
(1) المزءود: الشديد الفزع والاضطراب.
(2) سِمام: جمع سُمّ. نقيع: مُهْلك.
(3) يأزم: يواظب على الأمر. سبْحه: جريه الشديد.

 

 

 

فاروق شوشة