أصوات غريبة قصي الشيخ عسكر

أصوات غريبة

إذن هي الأصوات ذاتها عادت من جديد. الحدّة والقسوة كذلك.

ربّما خدعت نفسي, فظننت أني نسيت, بل كنت أتجاهل, فقد مرّت سنوات طويلة على ظهور تلك الأصوات لولا أنّها داهمتني, هكذا, فجأة من دون مقدمات.

زئير يمنعني من النوم ثمّ يختلف الصوت: نمر... ضبع... عواء... نباح.. ألفت جميع الأصوات مثلما يميز الصائغ المعادن, وكانت حدتها وبريق عيونها يتعاقبان عند أذنيّ. قبل أيّام كنت طليقًا, وقبل دقائق سكنت هذا الفندق المتواضع الجميل. لحدّ الآن أجهل تمامًا لم استُدعيت ضيفًا ثقيلاً في مكان ما. اليوم أذكره بالضبط: ليلة أربعاء, ثلاثة ملثمين اقتادوني إلى حيث لا أدري, لكن ما الذي كان سيحدث لو لم أمر من هنا بعدئذ? تبينت أن عليّ ألا أندم, فبإمكان هؤلاء أن يقتحموا الباب وينتزعوني من فراشي ليدفعني أحدهم إلى سيارة سوداء, في حين غطى الآخران عينيّ بعصابة, وكنت أجلس القرفصاء موثوق اليدين, فتخرج الحيوانات المفترسة إليّ من مكامنها, الآن, وبعد خمسة عشر عامًا تعود الأصوات من جديد!

هكذا, فجأة, من دون مقدمات, امتدت ألسنتها الخشنة إلى ما وراء السنين, كأنّ الهدوء الناعم والحياة الرخوة في هذه الجزيرة الصغيرة البعيدة, كل ذلك حفر ذاكرتي فقفزت إليّ من مكامن مجهولة أصوات غربية سمعتها ولم أرها ذات يوم.

في البدء, أطلّ عليّ الزئير, بالضبط كما حدث لي منذ أعوام, أدركت أنهم رموني للسباع, ومرّت الأصوات من أذني مواء نمر, عواء ذئب, ضبع, وكدت أتنفس من أصواتها روائحها الكريهة, فتنتابني نوبة من الغثيان, قلت لصاحب الفندق أرغب في غرفة هادئة, فدلني على مشتمل واسع ذي شرفة تطلّ على حدائق ومروج. مكان أشبه بالمصحّة, ولست أحلم, المهمّ أني هربت وسافرت بعيدًا إلى هذا المكان. خمسة عشر عامًا تفصلني, وآلاف الأميال, وأنا على يقين من أنّ الأصوات التي تلحّ في أذنيّ سوف لن تقفز من زمن غابر, ومكان بعيد لتقتحم عليّ نافذة المشتمل الواسع لتفترسني, فقد كانت معي وأنا معصوب العينين, موثوق اليدين, أحسست ألسنتها الخشنة تداعب وجهي, وها أنا لم أفقد أيّ جزء من جسدي, السؤال الوحيد الذي أرّقني: لمَ عادت فجأة من دون مقدمات بعد زمن طويل?

الطبيب الكهل ذو الخبرة الذي قصدته, قال لي إن الحرية الواسعة التي وجدتها في هذه الجزيرة الصغيرة الآمنة, بعد هربي مباشرة استفزتني إلى حدّ ما, فجرّدتني من عمقي تمامًا. أنا الآن أشبه بالنائم الحالم تحررت من أيّ قيد, ومادمت لم أنم البارحة, فسوف أنام مبكرًا الليلة, الأمر الذي ارتحت له أنّ الطبيب لم يصف لي دواء, الحقّ أنّي لم أكن لأشك في الأصوات. البارحة وصلت فترة المغرب, وفجأة هبّت الأصوات بوجهي, أما في النهار, فكان صخب الباعة والسيارات وحركة الناس تغطّي على تلك الأصوات, وتلهيني عنها.

لم أغادر الفندق إلى أيّ مكان, وفي الليل استرخيت تمامًا. بدأت أشاغل نفسي بالأرقام, حسبت من الألف إلى الواحد. عند بضعة أرقام رجعت إليّ بعض الأصوات أو خيّل إليّ أني سمعت صوتًا أشبه بالعواء, ثم نمت نومًا عميقًا وصحوت مرّات عدة.

وقد مرّت على إقامتي في تلك الجزيرة ثلاثة أيام من دون أن أرى أيّ معلم سياحيّ فيها, الأصوات التي دوت أمام أذنيّ ولحست وجهي بألسنتها الخشنة صدّت نفسي, وجعلتني ألازم الفندق معظم الوقت ما عدا نزولي في بعض الأحيان إلى الساحة العامة, والتجوّل في السوق المركزيّ أو الجلوس في أحد المقاهي.

حين قدمت عاملة الفندق إلى الغرفة, تحمل صينية الفطور, سألتها عن أقرب معلم سياحيّ إلى الفندق, فأشارت بيدها إلى ما وراء الشرفة, وأردفت بابتسامتها المألوفة التي تزيد وجهها المدوّر إشراقًا:

ليس هناك من ضرورة لتستقلّ سيارة أجرة إنها خلف التلة المطلة على المرج خمس دقائق من المشي فقط. غادرت الطاولة إلى الشرفة, وأزحت الستارة حيث امتد بصري إلى المرج والمنحدر الملتفّ كالحبل حول التلّة, وكانت عاملة الفندق تضيف:

يقال الحيوانات هناك من سلالة قديمة كان أجدادنا القدامى يستوردونها من مستعمراتهم في إفريقيا ليشاهدوها تصارع البشر وتلتهمهم. معلم سياحي قديم لابدّ لك من زيارته, ولكي لا ينزعج الزبائن من أصواتها, عملنا زجاج النوافذ في الشرفات من الزجاج المضاعف الصقيل.

كل شيء اتضح لي الآن وضوح التلّة والمرج والمنحدر الممتد أمام بصري, وكان خطئي الوحيد أنّي نسيت النافذة الخلفيّة غير محكمة الإغلاق, ليتسرّب بعض الهواء, وإلا لكان الزجاج المضاعف الصقيل كافيًا وحده ليمنع أيّ صوت من الدخول.

كانت عيناي معصوبتين سارحتين إلى ما وراء التلة والمنحدر, وعاملة الفندق الجميلة ذات الوجه المدور تثرثر وتدّعي أن بعض المصارعين الذين ألقي بهم إلى الأسود استطاعوا النجاة بأعجوبة, وآخرين بقوتهم أو بالحظّ وحده.

لم تكن بي رغبة لتناول الفطور بعد, تركت كل شيء في مكانه, ارتديت ملابسي على عجل, وهرعت أهبط درجات السلّم, كنت أهرول باتجاه المنحدر, حيث الحديقة القديمة لأرى تلك الحيوانات التي لعقت ذات يوم وجهي وأنا معصوب العينين!.

 

قصي الشيخ عسكر