الطريق الملكي إلى براغ محمد المنسي قنديل تصوير: طالب الحسيني

التشيك والسلوفاك .. إلى أين؟!

صوت الموسيقى يأتي من مكان ما خلف النهر كي يحكي قصة براغ جاءت امرأة جميلة من سفرة بعيدة. وقفت على حافة نهر "الفلتافا" فسحرتها المياه الصافية وهي تنحدر بين التلال. والطيور البيضاء وهي تحوم في دوائر لا تنتهي والأشجار وهي تتحرك مع تيارات المد والجزر فلم تستطع المقاومة. خلعت ثيابها وهبطت حتى احتوتها الأمواج ثم تذكرت أن هناك شيئًا لم تخلعه بعد، خاتما من الذهب كان في إصبعها ولما كانت تريد للمياه أن تمس كل جزء منها فقد خلعت الخاتم وألقت به على الشاطئ ومن هذا الخاتم جاءت براغ بأبراجها الذهبية الثلاثمائة

لكل مدينة أسطورتها الخاصة. ولكن لا شيء مثل براغ. فهي تقع في منطقة ما بين الحلم والكابوس. في جمالها نوع من السحر الأسود الحزين. بقايا من عبق القرون الوسطى يبعث على الرهبة والجنون. تستيقظ وتنام على أصوات أجراس الكاتدرائيات القديمة. وتدق ساعة النجوم في ميدان المدينة القديمة منذ قرون سحيقة تذكر الجميع أن الموت قادم. عبير متبدد. وألوان ذائبة متداخلة وعمارة ثقيلة مليئة بتفاصيل الأيام والشهور والسنين التي عبرت شوراع المدينة. أحيانا بخطى راقصة سريعة وأحيانا بطيئة وثقيلة مثل هزيم العاصفة فوق أسقف البيوت.

قبائل السلاف الذين عبروا أحراش أوربا الباردة اعتبروها بوابة الدخول إلى حلم الاستقرار. والذين عاشوا تاريخها المتقلب وغير المؤكد. عرفوا زهوها وعانوا من كوابيسها وأفاقوا على ذلك الجمال الأخاذ الذي يحتويك دون أن تستطيع مقاومته ويترك داخلك حزنا لا تقدر على التأسي به.. فالتاريخ يرقد في كل ركن من أركانها. تاريخ مهمل ومنسي ولكنه مستعص على الموت. تلك المدينة التي تقع تماما في وسط أوربا كان يحلو لها في أحيان كثيرة أن تسقط من ذاكرة أوربا ..

هل يمكن أن نخطو داخل شوارع براغ وأن نراها في الوقت نفسه.. هل نستطيع أن نفلت من قبضتها الآسرة وأن نراها بحيادية الغرباء .. ربما خطوات قليلة .. خطوات معدودة نستطيع بعدها أن ننكص على أعقابنا .. على الطريق الملكي المؤدي إليها ..

الخطوة الأولى.. بوابة البارود

كأنك ملك من ملوك بوهميا القديمة. ذات لحظة من لحظات الزهو القصيرة التي عاشتها هذه المملكة الصغيرة. يقودك إيقاع المدينة إلى قلبها القديم. الحواري الضيقة. والبوابات الحجرية والكاتدرائيات ذات الأبراج والقباب الذهبية. إنها لحظة التتويج. والطريق الملكي يمتد من بوابة البارود حتى كنيسة "ماري بروتيم" أو سيدتنا في الميدان القديم ثم يعبر بك الطريق جسر الملك شارل فوق نهر "الفلتافا" صعودًا إلى قلعة "هاروشاني" حيث مقر الحكم والسلطة.. ضع التاج على رأسك وواصل السير ولكن لا تأمن لشيء..

سر في الطريق الملكي وآمن بكل شيء ..
ولا تأمن لشيء ..
آمن بالشمس وآمن بالقمر
أما النساء، فسيخنك وأنت نائم
ثم يوقظنك بعويلهن وبكائهن
لا تبك فقد كنت أخونك أيضا
حبي كله كان أكذوبة وقلبي كان خادعًا ..

هذه نبذة من قصيدة للشاعر التشيكي ج. س. مارشار الذي مات عام 1942 وهناك مثل شائع في براغ يقول. " لا تأمن لشيئين في براغ. الجو والنساء".

في هذا الطريق الضيق عاشت براغ كل لحظات المجد والأفول.. عندما توج شارل الرابع ملكا للإمبراطورية الرومانية المقدسة. ثم اجتاحتها جحافل الغزاة من السويديين والنمساويين.. ولم تفق الدولة إلا قليلاً عندما توحدت الممالك الثلاث القديمة بوهميا ومورافيا وسلوفاكيا في دولة واحدة.. ثم دخلت قوات "البانزر" النازية.. وصعدت نجوم الشيوعية الحمراء.. وتفتح ربيع براغ ذات لحظة قصيرة من الزمن قبل أن تقتحم الدبابات السوفييتية المتاريس العارية وما زال الطريق يعيش لحظات الديمقراطية الوليدة حيث مات النظام القديم ولم يبرع النظام الجديد بعد ..

بوابة البارود الحجرية العتيقة "براسنا برانا" يعود عمرها إلى أكثر من ستة قرون من الزمن.. شاهدت البزوغ الأول للمدينة عندما بدأت الحكومة تأخذ شكلها البدائي وتقيم التحصينات والأسواق والبيوت. في القرن الحادي عشر مر أحد التجار العرب هو إبراهيم بن يعقوب وكان تاجرًا أندلسيا وكتب أول تقرير عن هذه المدينة منذ ألف عام من الزمان "براغ مدينة مبنية من الأحجار والملاط، الأسعار رخيصة. طعام الإنسان وطعام الحيوان أيضا. ولقد شاهدت أسواقًا كبيرة في بلاد البلغار وبلاد القفاس فلم أجد مثيلاً لهذا السوق ولا لرخص أسعاره" أنشأ هذه البوابة واحد من أشهر ملوك التشيك " فاسلاف ". وقد اكتسبت البوابة هذا الاسم عندما هاجمت جيوش "بروسيا" المدينة في حرب الثلاثين عاما وفجرتها بالبارود لأول مرة في دوي هائل يشبه الدوي الأول للكون. ثم أعيد بناؤها وبدأت تمثل الخطوة الأولى في الطريق الملكي الطويل.

مسرح ولكنه أسود

رغم ضيق الطريق فهو مزدحم بالناس من كل جنس ولون. طريق للمشاة فقط لا تدخله السيارات. مزدحم بمحلات العاديات والكريستال والمسارح والمكتبات والنساء الجميلات وكل أوجه النشاط الفني.. في أحد بيوته القديمة وفي الدور الثاني شاهدنا أحد عروض المسرح التي تشتهر بها تشيكوسلوفاكيا مسرح " اللاترنا ماجيكا" أو المسرح الأسود. قاعة صغيرة. ومقاعد ممتلئة عن آخرها. وجدران كلها سوداء. ومصادر للإضاءة لا تدري من أين تنبعث. وفي مقابلة مع مدير المسرح ماروش فاسيلي قال لنا " الفضل في هذا المسرح يعود إلى الفنان بيري سونيتش الذي طور هذا المسرح عام 1958 وقد أخذ فكرته من المسرح الصيني الذي بدأ منذ ألف عام. وكلمة الأسود هنا تأتي من الإظلام. حيث الستائر والخلفية وملابس الممثلين كلها سوداء. أما الأشياء المفروض أن تظهر على المسرح فهي تطلى بالألوان الفسفورية حتى إذا سلطت عليها الأشعة فوق البنفسجية ظهرت متألقة أمام الجمهور.. إنه مسرح لا يعتمد على اللغة بقدر ما يعتمد على الحركة التعبيرية والاستعراض حتى يبدو هدفه الترفيهي والنقدي.. ".

وكان هذا هو ما شاهدناه بالفعل. عرض لمسرحية "فاوست" التقليدية بالغناء والرقص والحركة دون أي حاجة للغة. ذلك الشيخ الذي باع روحه للشيطان من أجل لحظات قصيرة من الشباب والمتعة مرت سريعا ثم جاء الشيطان يطالبه برد ديونه.

ولكن المسرح الأسود ليس هو المسرح الوحيد بالطبع.. هناك مسرح الفانوس السحري الذي يمزج العرض المسرحي بالسينمائي.. وهناك سلسلة ضخمة من المسارح في كل البلاد تقريبا وهي كلها تواجه مشكلة انصراف المتفرجين عنها ووقوفها على حافة الإفلاس. في أثناء الحكم الشيوعي كانت المقاعد ممتلئة عن آخرها ولكي تحصل على تذكرة كان عليك أن تدفع رشوة أو تصبح من " اتحاد الاتجاه الثوري " وكانت التذاكر رخيصة لأن المسارح كلها تتلقى دعما من الحكومة. ولكن بعد الثورة ورغم مناخ الحرية والنقد العلني إلا أن عدد المتفرجين أخذ في التناقص والابتعاد. ربما بسبب غلاء الأسعار.. أو حيوية الحياة السياسية أو عدم وجود النصوص التي تلبي حاجات الناس في تلك المرحلة.. ولكن بالتأكيد سوف يأتي يوم ما يبحث فيه الناس عن المسرح مثلما يؤمن رجال المسرح في براغ.

الخطوة الثانية .. قلب المدينة

ثم يقودنا الزحام رغما عنا إلى الميدان القديم "ستروما نامستي" قلب المدينة وتحفتها المعمارية. ومجمل تاريخها. مقام في المكان نفسه الذي وصفه الرحالة العربي القديم. في هذه الساحة الفريدة لا يكف الناس عن الدوران حول أنفسهم. ولا تتوقف عمليات الاكتشاف ونحن نقف مشدوهين أمام فنون العمارة التي تمثل كل مراحل التاريخ.. يختلط الزوار بالباعة وتقف في جانب منه عربات تجرها الجياد. عربة صغيرة مكشوفة تقودها فتاة صغيرة وجميلة تدعوك إلى جولة متمهلة وسط معالم المدينة فكيف تستطيع أن تقاوم دعوتها؟ عازفو الموسيقى في كل مكان. يملأون فضاء المدينة بالأنغام. وبراغ مدينة تتنفس الموسيقى. عازفون يلبسون الملابس التاريخية ويعزفون الكلاسيكيات كأنهم في أحد قصور أمراء الإقطاع .. وعازفون صارخون يتقافزون مع آلاتهم الحديثة .. ولكن موسيقى موزار تنتصر في النهاية..

أرض الميدان مرصوفة بالأحجار الصغيرة. في منتصف الميدان توجد علامة أحد خطوط الطول الوهمية التي تقسم أوربا إلى قسمين. إذا خطوت من فوقها فكأنك خطوت فوق دقيقة كاملة من الزمن. وعلى الأرض أيضا توجد علامات من التاريخ. المكان الذي أعدم فيه 27 من النبلاء التشيك عام 1621 بعد الثورة التي قاموا بها ضد أسرة هايسبورج النمساوية التي كانت تحتل البلاد.. علامات تبين مواقع الرءوس التي سقطت وهي تدافع عن كرامتها.

وفي أحد جوانب المدينة توجد قاعة المدينة. تحفة معمارية ناقصة. ما زالت تحمل آثار الدمار الذي لحق بها في أثناء الحرب العالمية الثانية. ففي آخر يوم للحرب 8 مايو عام 1945 فتحت الدبابات الألمانية فجأة النيران على هذه القاعة فدمرت جزءاً كبير منها وحرقت جزءاً من الساعة الفلكية التي كانت تميزها. وظل المبنى ناقصًا حتى الآن ولكنه يقوم بواجباته الاجتماعية. فبين الضحكات والتهاني يفتح الباب التقليدي ويخرج عريس وعروسه على وجهيهما نضارة الشباب وهما يزيحان بقايا الأزهار وحبات الأرز كي يقوما بجولة في الميدان تنهال عليهما التهاني بكل لغات الأرض ثم يركبان إحدى عربات الخيول المكشوفة من أجل زفة فرح وسط المدينة.

وفي نهاية كل ساعة تدب في الميدان حركة غريبة ينهض الجميع ويتجهون بحركة غريزية إلى برج قاعة المدينة الناقصة. يرفعون رءوسهم إلى أعلى ويقفون متأهبين لسماع دقات ساعة النجوم. وعندما يقترب العقرب الكبير من مؤشر الثانية عشرة يبدأ العرض. تفتح النوافذ الصغيرة في أعلى البرج ويمر من خلالها صف من القديسين يلقون نظرات المباركة وربما الأسى على مئات المتفرجين في الأسفل. بينما يقوم تمثال على هيئة هيكل عظمي يجذب حبل الجرس حتى يدوي وسط الصمت بدقات الساعة التي لم تتوقف منذ قرون "سوف نموت.. سوف نموت.. ".

ساعة النجوم. معقدة. فيها ست ساعات متداخلة معًا. يعود عمرها إلى عام 1410 م. وتتكون من ثلاثة أقسام مستقلة. الجهاز الذي يحرك القديسين. ودائرة لقياس الزمن. وتقويم شمسي.. وهناك بالإضافة لذلك.. ساعة لأبراج النجوم.. وساعة لفصول السنة الأربعة.. وساعة لبزوغ وأفول القمر..

ولعل مركز الميدان يدور حول النصب الحجري الضخم ذي الدرج الدائري الذي يجلس الجميع فوقه. إنه تمثال المفكر والمصلح الديني " ياف هوس ". لقد أثارت أفكاره ومحاولاته ضجة عارمة منذ حوالي 500عام. واتهم كالعادة بالكفر والزندقة وحكم عليه بالحرق ولم يرد له اعتباره إلا عام 1915 حين رفع الستار عن التمثال الذي صممه المثال التشيكي لاديسلاف شالوف ويبين "يان هوس" وهو يقف شامخًا وحوله تلاميذه يتشربون كلماته تحيط بهم ألسنة اللهب التي استطاعت أن تحرق جسده دون أن تقدر على أفكاره.

وما زالت موسيقى موزار تملأ جنبات المدينة.. من المقاهي الصغيرة.. ومن القاعات.. وحتى العازفين في جوانب الطرقات.. كان هذا هو عام موزار وبدا كأن المدينة كلها تحاول أن تعتذر إليه وتتصالح معه.

صوت الموسيقى

في بوهميا القديمة. كان إذا جاء مولود وضعوا الشموع على رأس المهد الذي ينام عليه. ووضعوا على يمينه ملعقة من ذهب، وعن يساره كمانا من خشب. وينتظرون حتى يروا إلى أي جانب يميل المولود. إلى عالم الثراء والذهب. أم إلى عالم الفن والموسيقى. في تلك البلاد التي خرجت من السهوب الباردة. كانت الموسيقى هي لغة الإيقاع اليومي. امتزحت مع تاريخ الهجرات السلافية الأولى. ثم استوطنت الكنائس والكاتدرائيات العظيمة تمتزج فيها ابتهالات البشر مع الأبهاء الواسعة والبخور والأيقونات الملونة. خرجت إلى القصور وقلاع الباروك، ثم هبطت إلى الناس وتداخلت في طقوس الميلاد والزواج والموت والزرع والحصاد.

أنجبت بوهميا ومورافيا اللتان مثلتا معا عنصري الشعب التشيكي مشاهير الفنانين العظام أمثال بيريج سميتانا الذي هجر المدن الكبرى وأقام في القرى يستقي مفردات موسيقاه من المادة الشعبية الحية. وأنطوان دوفور جاك والعديد من الموسيقيين العظام.. ولكن براغ لم يفتنها شيء مثلما فتنتها موسيقى موزار.. أماديوس موزار ..

لم يمر بها مرورًا عابرًا. ولكنه أخذ منها وأخذت منه الكثير. هذا هو عامه. وهناك حالة من الهوس بموزار في كل مكان. ولا أعتقد أن هذا الموسيقار الذي مات صغير قد عرف أن هذه المدينة الحزينة الجميلة تعشقه كل هذا العشق.

قال لي مرافقي "إذا أردت أن تسمع موزار كما لم تسمعه من قبل عليك أن تصعد عاليا حيث يقام المعرض المئوي فوق أحد تلال براغ.. " ولم أفهم ما هي علاقة هذا المعرض الذي يقام مرة واحدة كل مائة عام في حديقة "ستروفكا " بموسيقى موزار ولكنني صعدت..

قال لنا جازوسلاف بسينكا أحد المسئولين عن المعرض الذي كان يبدو متوهجًا بالأضواء : "هذه هي المرة الثالثة التي يقام فيها هذا المعرض. الأولى كانت سنة 1791 عندما أمر ملك بوهميا ليوبولد الثاني بإقامته كي يبين فيه صناعة الإمارة التي كانت متقدمة في ذلك الوقت عن بقية أوربا. وما زال النصب الملكي الذي بناه موجودًا حتى الآن. ثم أضيفت إليه مبان أخرى مع المائة الثانية في عام 1891. وبعد مائة عام أخرى كانت تشيكوسلوفاكيا قد بزغت إلى الوجود. يقام هذا المعرض للمرة الثالثة.. ومن يدري في المائة الرابعة ماذا سيحدث؟ ".

كان هذا المعرض الممتد يحمل آثار القرون الثلاثة من الزمن. الأبنية القديمة المجددة والمصانة بشكل جيد تقودنا إلى واجهات العرض. دخلنا في غابة من الكريستال الشفاف الذي تتألق من خلاله كل ألوان الطيف. التحف الزجاجية التي اشتهرت بها بوهميا والتي تتحول تحت الأصابع إلى قطع من الفن الخالص والمجرد. قطع تتفاوت في ضخامتها الأسطورية وفي دقة أشكالها.. الطبيعة كلها وقد اختصرت في مادة واحدة وفي لون واحد. سنوات التاريخ تنهض شفافة من عمق الزجاج. الفرسان والملوك والفلاحون، الغزاة والمقهورون، العشاق والشعراء، زجاج. زجاج. ليس جامدًا ولا ميتا ولكنه مليء بحياة داخلية. تحاصرنا وتفرض علينا انعكاساته اللامعة وبريقه الأخاذ أن نذوب فيه. مثلما تذوب الأضواء كأنها ذكريات مؤجلة. هذا هو حصاد المائة سنة الأولى..

نجتاز بوابات المائة الثانية. الثورة الصناعية تدق الأبواب. والمناجم تخرج أحشاءها كي تمد العالم بالفحم والطاقة. انتهت عصور الإقطاع. وأسلمت القلاع قيادها للمصانع. وتطامن الفرسان في مواعيد الورديات. وعجزت سنابك الخيول عن أن تسابق السيارات. كنا نجتاز معرضا للسيارات القديمة. أول دولة أنتجت سيارة تسير في شوارع أوربا بالمعنى التجاري كانت هي تشيكوسلوفاكيا.. سيارة الرئيس.. عصور من الإنتاج.. والعمل الدءوب.. عصر التحدي والحروب والخوف من الهزيمة حتى درجة الهزيمة..

ولكننا كنا جميعا نعبر كل هذه السنوات كي نتجه إلى "النافورة" الموجودة في وسط المعرض. آلاف الزوار يتراصون في المقاعد التي تحيط بها من كل جاذب. أطفأ المعرض كل أضوائه. وكتم " الكريستال" كل ما في داخله من ألوان الطيف.. ثم يبدأ صوت "موزار" في الارتفاع. صوت خافت آت عبر السنوات البعيدة وتبدأ أنوار النافورة تضاء بخفوت. ثم تعلو أذرعة الماء مع صوت الكمان. وتبدأ إيقاعات السيمفونية فتعلو معها دفقات المياه متماوجة في كل اتجاه ممتزجة مع الأنغام كأنها كانت في لحظة الخلق الأولى عندما كان موزار يدوي بإصبعه على مفاتيح "البيانو". إنه يستيقظ من جديد. ويزور المدينة. شابا نحيفا قد أنهكته مؤامرات البلاط في فينا وتدافع الحساد ضد موهبته. جاء زائرًا أو هاربا إلى المدينة التي كانت قد انكسرت عل أيدي النمساويين في موقعة "بيلاهورا" أو "الجبل الأبيض". جاء للمدينة يحمل أحزانه الخاصة. فكان لها أشبه بشعاع الضوء وهي تحاول أن تكتشف ملامح شخصيتها القومية. دعاه النبلاء التشيكيون فحمل معه أوبرا "زواج فيجارو" وهناك تقابل مع المغنية "جوزفينا دوسكوفا " التي ارتبطت هذه الأوبرا بصوتها طويلاً. كانت أوبرا غريبة وغير تقليدية. ليس فيها شيء من ملاحم الملوك ولا أساطير الآلهة. ولكنها أوبرا الناس العاديين. ولأجل هذا نجحت في براغ نجاحًا مدويا وقاد موزار الأوركسترا بنفسه وهو يحس بالامتنان لهؤلاء الناس الذين أحسنوا فهمه أخيراً ..

الموسيقى ما زالت تواصل الانطلاق في فضاء المعرض المفتوح. موزار وقد استرد كل قوته وتمرد على الموت واالفناء والمياه في انسيابها ونعومتها هي التعبير الوحيد لتلك الموسيقى الخالصة. توالت زيارته لبراغ. وكانت الزيارة الأخيرة عندما استدعاه الملك ليوبولد الثاني كي يقدم له أوبرا خاصة بمناسبة تتويجه. أقام في فيللا "برترامكا " التي كانت تمتلكها المغنية جوزفينا. وزوجها. وتحولت هذه الفيللا الآن إلى متحف يضم نوته الموسيقية. والبيانو الذي كان يؤلف عليه. ورسائله ولوحاته وتمثالا نصفيا له. في هذا البيت بدأ يتم أوبرا الناي السحري. ويؤلف قداسًا جنائزيا أوصاه به شخص مجهول. ولكن عندما عرضت الأوبرا كان حظها سيئا.. كانت الثورة الفرنسية تدق أبواب الأرستقراطية القديمة. ورأس ماري أنطوانيت تنذر الجميع أن الرءوس لن تبقى في موضعها بعد الآن. وكان موزار مريضًا. تركت فيه المدينة الحزينة بعضا من حزنها .. غادر براغ للمرة الأخيرة وهو معتل النفس. ومات في ديسمبر 1791 وعزفت كل كنائس براغ قداسه الجنائزي الأخير.. ولكن ها هو يستيقظ. تتعلق أنغامه بذرات الماء.. بألوان الطيف.. بالنجوم في سماء براغ ..

الخطوة الثالثة.. ساحة الاحتجاج

لا تنس أنك ما زلت ملكا من ملوك بوهميا.. وأن المدينة مدينتك.. وأن هذه لحظة التتويج.. وأن كل الساحات في انتظارك.

لقد تحول المركز السياسي من الميدان القديم إلى ميدان آخر أكثر عصرية هو ساحة " فانيسلاس" الذي يطل على الشارع الرئيسي في العاصمة ويحفل بأهم المتاجر والفنادق. في منتصفه يقف تمثال القديس فانيسلاس القديس الحارس للشعب التشيكي راكبا جواده وشارعًا رمحه يقاتل التنين الراقد دائما في بطن المجهول. وخلفه يعلو مبنى المتحف الوطني العريق. وفي الساحة أمامهم تصطخب الساحة بكل مشاكل الحياة السياسية التشيكية من أول ذكريات ربيع براغ في الستينيات ومشاكل التحول إلى الاقتصاد الحر.. وحتى الانفصال الذي يبدو محتما بين التشيك والسلوفاك..

ذات يوم من أيام أبريل عام 1968 تفتحت زهور ربيع براغ في هذا المكان. رحل الرئيس نوفتي عن السلطة بكل أشكال الدول القمعية والبوليسية وحل محله الرئيس الكسندور دوبتشك بأفقه الواسع وأفكاره الجديدة. كانت هذه بداية فصل ربيع الطبيعة. وكان عليه أن يترك كل زهور السياسة تستكمل تفتحها وفي الحال بدأت حركة شبابية عارمة.. بدأت الاجتماعات السياسية، وبدأ النقد الذاتي والحلم بالتغيير. تكون أكثر من 14 ناديا وجمعية، وخرجت عشرات الصحف تنقد الحرس القديم من أعضاء الحزب الشيوعي. بدأ مناخ الحرية يهب من وسط أوربا إلى جهة الشرق حيث كانت الدول التقليدية الشيوعية تنظر مفزوعة إلى ما يحدث. وعقد حلف وارسو اجتماعه الأول لدراسة الوضع ولكن تشيكوسلوفاكيا رفضت الحضور وكانت النتيجة أن اقتحمت دبابات الحلف الشوارع العارية.. في 2 أغسطس عام 1968 انتهى ربيع براغ نهايته العنيفة ووجدت المدينة نفسها أسيرة الحرب بعد عشرين عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية. قال رجل عجوز وهو يشير إلى المتحف الوطني الذي يطل على الساحة التي نقف فيها " لقد حاصرت القوات السوفييتية هذا المتحف وهي تعتقد أنه مبنى الإذاعة التي كانت تذيع البيانات المضادة لهم وظلوا يقصفون المتحف وهم لا يعرفون لماذا لم تتوقف البيانات؟!..

أخذت القوات السوفييتية الرئيس دوبتشك إلى موسكو.. فرضوا شروطهم عليه لمدة خمسة أيام ثم عاد ووقف في ساحة فانيسلاس ليخطب في الجماهير ويطمئنهم لحسن نوايا الغزو.. " ولكنه كان رئيسًا ذليلاً لمدينة ذليلة " على حد تعبير الأديب التشيكي الشهير ميلان كونديرا.

وفي ساحة الميدان أحرق أحد الطلبة نفسه حيا .. وبدأت حركة المقاومة والاعتراض وبدأت أيضا حركات طرد ونفي وفصل كل المثقفين التشيك المعارضين. تحولت قاعدة التمثال إلى فرار سياسي لكل حركات المعارضة.. يضعون الزهور ويوقدون الشموع لكل من سقطوا وهم يقاومون الغزو.. كان مجرد زيارة هذه الساحة جريمة في نظر النظام الذي وضعه السوفييت بعد أن عزلوا "دوبتشك". كان الرئيس الجديد هو "هوساك" أو رئيس النسيان كما أطلقها عليه. الرئيس السابق فاسيلاف هافل نفسه قبض عليه عندما كان لايزال كاتبا مسرحيا معارضا وهو يوقد شمعة عند قاعدة التمثال..

لقد تكاثرت صور الذين سقطوا وهم يقاومون النظام الشمولي.. وتكاثرت بقايا الشموع والزهور حتى سقط النظام نفسه وتحولت الساحة إلى ميدان للشرف. أصبح مزارا قوميا يؤمه الجميع. وتكون فيها أول حزب خارج الحزب الشيوعي.. بل وخارج كل الأحزاب وهو " المنبر القومي " الذي أسسه الرئيس السابق هافل وقاد به الثورة المخملية في عام 1989.

ولكن هل استقام خط التاريخ أخيراً، في تلك البلد التي ما زال اسمها حتى الآن " تشيكوسلوفاكيا "؟!!.

دولة للبيع..

" إنه بلد لا يمكن التأكد من ماضيه "..

هكذا يصف الكاتب الشهير ميلوش زيمان تاريخ بلاده. ففي الخمسين عاما الأخيرة على الأقل تعرض هذا التاريخ للعديد من التحريفات والتصحيحات قلبته رأسا على عقب. تحول الأبطال إلى خونة. وتحولت معارك التحرير إلى إرهاب وقمع ..

إن براغ- تشيكوسلوفاكيا كلها- في حالة عميقة من مراجعة النفس والإحساس العميق بالذنب أيضا .. إن أربعين عاما من القمع والأسلوب البوليسي في الممارسة تجعلها تشعر أنها قد عاشت فترة استثنائية في تاريخها. لقد كان ثمن الحرية غاليا. فقدوا الأمان وتكاثرت نسبة البطالة وانخفض مستوى الرعاية الصحية الذي كان واحدًا من أعلى المستويات في العالم، ثم جاءت لمسة الانفصال بين الجمهوريتين اللتين اتحدتا منذ 74 عاما.. فهل كانت الحرية تستحق كل هذا الثمن؟..

أجل.. تستحق. هكذا أجانبي كل من سألتهم. قال لي عامل في أحد المصانع: " لقد جعلتنا الشيوعية نتوقف عن التطور. خرجنا من الحرب العالمية ومصانعنا سليمة ومصانع ألمانيا ومدنها مدمرة. ومع ذلك انظر أين هي الآن وأين نحن؟.. " وأكد لي عامل آخر.. " إنه لا بديل عن المشروع الخاص. كل واحد في تشيكوسلوفاكيا الآن يحلم بهذا المشروع الذي سوف ينقذه من الدخل المحدود والمسكن الخانق "..

حتى انفصال الجمهوريتين يبدو هو أيضا كأنه صورة من صور المشروع الخاص. كل جمهورية تريد أن تنكفئ على نفسها كي تصنع مشروعها.. ويدخل الصراع بين فالكلاف كلاوس وزير المالية ورئيس الحزب الديمقراطي التشيكي الذي يهوى لعب التنس.. وغريمه فلاديمير ميسار رئيس الحركة القومية السلوفاكية الذي يهوى لعبة الملاكمة.. مرحلة حاسمة بعد أن وقعا الخطوة الأولى في انفصال الدولتين سباقهما المحموم نحو أكتوبر القادم من أجل الانفصال النهائي..

" المهم ألا يكون الأمر محزنا وداميا،.. هكذا قال لي أحد الشيوخ ونحن ما زلنا في ساحة " فانيسلاس" كان الجميع منهمكين في توقيع العرائض التي سوف تحدد شكل الدولة السابقة. وكانت صور الشهداء الذين سقطوا تتطلع إلينا من خلال الزهور الذابلة. أضاف العجوز " لا نريد إضافة المزيد من الموتى ولا نريد أن نكرر المأساة التي تحدث في يوغسلافيا الآن. نريد طلاقا متحضرًا كما يقولون ".

كل زعيم يلعب على وتر المشاعر القومية. ويبدو أن الصراع بين الرجلين هو الذي أوصل البلاد إلى هذه الحافة من الهاوية. ونقطة الخلاف بينهما تكمن في موقفيهما المتعارض من الإصلاحات الاقتصادية والانتقال إلى تطبيق اقتصاد السوق. "كلاوس" التشيكي مُصِرٌّ على الانتقال السريع والجذري نحو اقتصاد السوق ورفع يد الحكومة التي تدخلت طويلا وأعاقت تقدم كل شيء. بينما ميسار الملاكم السلوفاكي ما زال يحمل ملامح الحرس الشيوعي القديم يرى ضرورة استمرار الدور الحكومي في الإشراف وتخفيف سرعة التكيف حتى لا تدفع سلوفاكيا وحدها الثمن مضاعفا.

إن التشيك يملكون أغنى الأراضي، ويستحوذون على معظم الاستثمارات الأجنبية بينما يعاني السلوفاك - وهم يتحدثون لغة أخرى بالمناسبة- من التدهور الاقتصادي بصورة متزايدة. فقد كانت قاعدتهم الأساسية تعتمد على الصناعات الثقيلة وخاصة صناعة السلاح، لذا فإن خطوط إنتاجها كانت مرتبطة مع الاتحاد السوفييتي الذي كانت تعتمد عليه في المواد الخام وتسويق المنتجات. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي. تلقت هذه الصناعة ضربة قاصمة وفشلت الدولة في تحويلها إلى صناعة مدنية، وهكذا أصبحت نسبة البطالة بين السلوفاك أربعة أضعافها بين التشيك.

وما زال ثمن الحرية باهظا.. فحتى الآن لم يكسب التشيك- على حد تعبير الكاتب جوزيف فاليشكا في مقابلة معه: " إلا حرية السفر إلى الخارج. وهكذا أصبح عمالنا يعبرون الحدود إلى ألمانيا كي يشتغلوا لمدة شهر ثم يعودون إلى البلاد للبقاء ثلاثة شهور بدون عمل ينفقون فيها ما كسبوا خلال هذا الشهر" وهكذا أيضا ارتفع معدل الجريمة في براغ وزادت نسبة بنات الهوى في الشوارع إلى درجة ملحوظة وأصبحت براغ من العواصم التي يتخوف المرء من السير فيها ليلا..

وتصبح المشكلة هي كيفية التخلص من مركزية الدولة التي امتلكت كل أدوات الإنتاج وكل المشاريع؟.. الدولة تحاول أن تفعل ذلك رغم أن استجابة الزبائن حتى الآن ليست كما ينبغي. فقد أنشأت وزارة للخصخصة. أحدث "موضة" في نظريات الاقتصاد. كما قال لي جوزيف توسوفكي مساعد مدير البنك التجاري.. " إنها شيء أشبه بما حدث في الغرب الأمريكي الوحشي حيث يتكاثر الأفاقون والمغامرون كل واحد يريد أن يظفر بنصيب من الغنيمة. ولكننا مع ذلك مقدمون على المغامرة.. " إن تشيكوسلوفاكيا تطرح 15 ألف مشروع للبيع وقد حولت قيمة كل هذه المشروعات إلى أسهم مطروحة للمشاركة يمكن لأي واحد أن يشتريها بما يوازي 10 دولارات للسهم الواحد. وحتى الآن لم تبع سوى المشروعات الصغيرة .. محلات.. مطاعم.. محطات بنزين. ولكن المسئولين في الحقيقة ينتظرون المستثمر القادم من الخارج حاملا الخبرة الحديثة والأموال اللازمة حتى يأخذ نصيبه من الكعكة التشيكية وحتى الآن يبدو أن ألمانيا هي ذلك الشريك المتحمس. فقد اشترت حصة كبيرة من شركة "سكودا" الشهيرة للسيارات وتسعى لضمها إلى شركة "فالكس فاجن". وهناك العديد من المشروعات التي يواصل الألمان شراءها. وقد انتقدت ذلك الصحفية نادا مسيليفونيا وهي تتحدث معي بمرارة " يبدو أننا سوف نتحول إلى مستعمرة ألمانية.. لقد أخذ الألمان بالاقتصاد ما فشلوا في أخذه بواسطة الحرب".

وهكذا ترتفع الدعوات الحارة لقدوم المستثمرين الأمريكيين. وكالعادة لم يرسل الأمريكان غير محلات "الماك برجر" "والكنتاكي فراي تشيكن". أما في بقية الأمور فهم يتعللون بالبيروقراطية القديمة، وضعف حركة الاتصال، وعدم الاستقرار السياسي. ولكن في الحقيقة فإن ما يعوق قدومهم هو أن مكاسب العمال والضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها العامل التشيكي لا تستطيع أي مؤسسة رأسمالية تبغي الربح أن تحققها.

وحتى الآن.. فإن هناك حالة من الشلل تنتظر البلاد حتى مطلع الشهر القادم حتى يتقرر مصير الاتحاد والشكل الدستوري للتقسيم.. وأيا كانت النتيجة فإن الجميع يصرون على أن يكون الانفصال طلاقا متحضرًا.

الخطوة الرابعة.. الجسر والنهر وشيء من الأسى

النهر والجسر والقلعة.

ثلاثية الجمال والشجن الخالص. شجن يغمر النفس فيوقظ فيها أطيافا من الذكرى والحنين. نهر "الفلتافا" يصدر صوتا خافتا وأمواجه تتكسر على حواجز الصيد. وأمامنا جسر الملك شارل والتماثيل الثلاثون من عل تنظر في حنو إلى العشاق الملتصقين به. وفوق هذا جميعا تطل القلعة علينا وعلى المدينة وعلى التاريخ. كأننا غفونا ونحن نسير عبر الطريق الملكي وأفقنا فجأة على أعتاب هذا الحلم تناهى إلينا صوت "أكورديون" يعزف لحنا متصلا. نغمة شاردة في الجو مثل طير أبيض من طيور الماء. ثم بدأ المطر يتساقط في رذاذ خفيف. تحرك العشاق في كسل. وواصل عازفو الموسيقى في تحد. وجمع باعة الهدايا التذكارية بضائعهم في سرعة وظلت التماثيل صامدة تتلقى قطرات المطر.. ولمسات العشق. كان قلبي يرتجف. تذكرت أن نصيبنا من الجمال ضئيل. وحظنا من المتعة نادر. والقضايا التي نتعارك حولها تافهة. تذكرت أن تراكم الجهد البشري عبر الأجيال قد صنع هذا النوع النادر من الجمال، وأن كل المعارك الخاسرة قد أهدرت عمر الإبداع. كل تجاربنا كانت ضئيلة وناقصة، لم تستطع التواصل ولم تستطع أن تعلو على صغائر النفس. كيف أننا لم نتوارث الجمال ولم نضف إليه ونحرص عليه..؟.

700 عام تقريبا هي عمر جسر الملك شارل. واحد من أقدم الجسور الحجرية في وسط أوربا. قام بإنشائه مهندس عبقري هو بيتر بارلر الذي لم يكن قد بلغ السابعة والعشرين من عمره عندما كلفه الملك بتجديد مباني براغ المهمة ولكن شكل الجسر وبناءه لم يكتمل إلا بعد قرنين من الزمن. يبلغ طوله 615 متر (وعرضه 10 أمتار. ويرتكز على 16 عمودا ويصل الطريق الملكي عبر النهر بقلعة براغ "هاروكاني". وفور أن تم تشييده أصبح العصب الرئيسي للمدينة.. شهد كل أحداثها التاريخية والاجتماعية. تعرض لأنواء الطبيعة ولدمار الحروب وشاهد العشاق والملوك المهزومين والشعراء الذين يقفون على حافة الحياة والموت. انهار وبني من جديد. تصدع ورممت أجزاؤه، صبح رمزًا للمدينة وصمودها.. بل لقد أصبح بشكل أو بآخر رمزًا لدولة التشيك كلها. كان موقعها في وسط أوربا يجعلها أشبه بهذا الجسر. يعبرها الغزاة الذاهبون إلى أي مكان دون أن ينظروا إلى مواطئ أقدامهم. يدمرونها في زحفهم ويجعلونها تدفع الثمن عند تقهقرهم ..

قال لي رجل عجوز كان يعزف الكمان على حافة الجسر.. في ذات مرة فاض نهر " الفلتافا " ودمر الجسر تماما. واستدعى الملك شارل أمهر البنائين في البلاد. طلب منهم أن يبحثوا عن طريقة تجعل الأحجار لا تنهار مرة أخرى تحت وطأة أي فيضان أو زلزال. وفكروا كثيراً دون أن يجدوا حلا. ثم جاء بناء عجوز من أقصى بوهميا وقال للملك إن الحل الوحيد حتى تلتصق الأحجار معًا أن يخلط مادة البناء بالبيض، أجل. البيض. وأرسل الملك شارل يجمع كل ما في البلاد من بيض. جمع كل ما في بوهميا ومورافيا وسلوفاكيا وحتى جنوب ألمانيا.. جمع ثلاثة ملايين بيضة ثم خلطها جميعًا بمادة البناء ومن يومها التصقت أحجار الجسر ولم يقدر عليه فيضان.. فهل كان هناك شيء ناقص في تلك الوصفة التى وحدت ما بين التشيك والسلوفاك؟..

والجسر ليس مجرد سبيل للعبور. إنه متحف مفتوح للسماء. على جانبيه تنتصب ثلاثون من أروع تماثيل عصر النهضة.. يختلط فيها الفن القوطي مع الباروك. لا يوجد له مثيل إلا جسر الملائكة في إيطاليا.. تماثيل مأخوذة من الكتاب المقدس.. تمجيدًا للمسيح.. وللقديسين والشعراء.. وآخر تمثال على الجسر يمثل تركيًا قاسي الملامح يمسك سوطا في يد ويقود كلبا شرسا في الأخرى وهو يقوم على حراسة مجموعة من المساجين تبدو عليهم التعاسة.. ورغم أن التشيك لم يتعرضوا للغزو التركي إلا أن هذا التمثال يمثل جزءا من المخيلة الأوربية عن الأتراك في بدايات عصر النهضة ..

مرة أخرى يتوقف الرجل العجوز عن عزف الموسيقى كي يشير إلى أحد البيوت الصغيرة بالقرب من الجسر وهو يقول لي.. هذا بيت الغسالة.. في هذا البيت كانت هناك فتاة تعمل خادمة ولا تكف عن غسل الملابس حتى تهرأت يداها. الأمل الوحيد الذي كان يضيء حياتها هو الضابط الذي كانت تعشقه. وفي كل يوم عندما كانت تعود سعيدة من مقابلته كانت تضع باقة من الزهور على قاعدة التمثال الذي يمثل السجناء التعساء وحارسهم الشرس. وفي ذات يوم لم تسمح لها سيدتها بالخروج لمقابلة حبيبها. وضعت أمامها كومة عالية من الملابس المتسخة واشترطت عليها ألا تخرج قبل أن تفرغ من غسلها جميعها. ونامت الغسالة وهي تبكي ولكن سجناء الحجر استيقظوا. حركوا مفاصلهم الحجرية وخرجوا من خلف القضبان وذهبوا إلى الغسالة الحزينة وأخذوا يغسلون أكوام الثياب. كانوا ممتنين لها. لأنها صغيرة وعاشقة ولأنها وهبت لهم الكثير من زهور عشقها. وقبل أن يبزغ النهار كانوا قد عادوا إلى سجنهم الذي ما زالوا فيه حتى الآن، واستيقظت الغسالة لترى غسيلها نظيفا، واستطاعت أن تذهب لتقابل حبيبها ولم تنس في طريق عودتها أن تضع باقة من الزهر أمام سجناء الحجر الذين كانوا ينظرون إليها في صمت..

كان يجب أن نترك الجسر خلفنا.. لأن الحكايات لا تنتهي والموسيقى لا تتوقف.

الخطوة الأخيرة.. المجد للقلاع عندما يسكنها الفنانون

"هارواكاني".. قلعة براغ بكل ما تحويه من قصور وكاتدرائيات وأبهاء. ما زالت مقر الحكم ولكنها مفتوحة أمام الجميع. لم يكن يشغل رئيس الجمهورية السابق فاسلاف هافل إلا جزءاً ضئيلاً منها. عندما يكون موجودًا يرفع العلم عاليا. وينكس عندما يكون خارج المدينة. إنه يملك طبيعة الفنان قبل أن يكون رئيسا. فقد كان يريد أن يفتح كل أجزاء القلعة ويزيل كل الحواجز وهو ما سبب الرعب لرجال الأمن. لقد ظل يركب دراجته ويتجول بها في أروقة القلعة. وكان يصر على الهبوط ليلاً ليسهر في مقهى "سلافا " وسط الفنانين والأدباء كما تعود أن يفعل ويناول معطفه لحاملة المعاطف العجوز التي تقول له " مرحبا يا فاسيكو ".. كما تعودت أن تدلله قديما.

وقلعة براغ أكثر من بناء عمره ألف عام. ساهم في بنائها مختلف الأجيال في بلاد التشيك. واحتفظت بداخلها بالعديد من بؤر التاريخ الحية. برزت إلى الوجود في القرن التاسع كمقر للحكم ثم اكتسبت أهميتها الدينية عندما أنشأ فيها الملك فاسلاف تلك الكاتدرائية العظيمة "سان فيتوس" كي يدفن فيها الملوك التشيك، وقد دفن فيها بالفعل بعد وقت قصير حين قتله أخوه. وأهم ما فيها تلك النوافذ الكبيرة المرصعة بالزجاج المعشق والتي تحكي قصة الخليقة وقد قام بتصميمها عظماء الفنانين التشيكيين. وتحت الكاتدرائية هناك قبو خاص ترقد فيه جواهر التاج الملكي في خزانة محكمة لها سبعة عشر مفتاحًا .. واحد مع رئيس الجمهورية .. وثان مع رئيس الوزراء.. وثالث مع كبير الأساقفة .. و.. و.. ومن الصعب أن يتجمع كل هذا العدد من الرجال والمفاتيح معًا لذلك لم تفتح هذه الخزانة رغم تاريخها الطويل إلا مرتين فقط ..

لقد مر على القلعة عشرات الملوك بدءاً من الأميرة الأسطورية " نبوشيه " التي كانت أول أميرة للقبائل السلافية وكانت تقاتل وتعشق بالوحشية نفسها، حتى رئيس الجمهورية السابق كاتب المسرحيات. ولكن أغرب الملوك الذين مروا على القلعة هو الملك رودلف الثاني الذي كان هو أيضا إمبراطورا للإمبراطورية الرومانية المقدسة الذي أنشأ الأبهاء والقاعات الواسعة كي يضع فيها مقتنياته العزيزة.. كان يقتني كل شيء.. وأي شيء.. اللوحات الفنية وقطع الجواهر النادرة ومنتجات الزجاج.. وكان في مجموعته أيضا عظام حيوانات ما قبل التاريخ وكان يعتقد أنها رفات حيوانات أسطورية .. كذلك كان هناك مسماران غاية في الضخامة يقال إنهما من سفينة نوح.

كان يبذل الجهود الجبارة ويدفع أي شيء من أجل أن يحصل على أي قطعة من الفن.. ويقال إنه عندما رغب في امتلاك اللوحة الشهيرة " عيد التسابيح " للمصور الألماني ألبريشت دور. أمر أربعة من الرجال الأشداء أن يحملوا اللوحة على أكتافهم عبر ثلوج جبال الألب حتى يصلوا إلى بوهميا حتى لا تصاب اللوحة بأي أذى أثناء هذه الرحلة الطويلة من البندقية حيث كانت موجودة.

ولكن حرب السنوات الثلاثين التي نشبت بعد وفاة رودلف بعدة سنوات أوقعت البلاد في حالة من الاضطراب وكانت نتيجتها خسارة هذه المجموعة. في البداية سرقها الغزاة السويديون.. ثم البروسيون.. وقد اعتادت ماري تيريزا إمبراطورة النمسا أن تبيع اللوحات الثمينة والتماثيل النادرة كلما وقعت في ضائقة مالية.. لقد تناثرت هذه المجموعة النادرة في كل متاحف أوربا تقريبا ولم يعد للتشيك إلا بقايا صور لها.

ولكن حلم رودلف الحقيقي. مثل أي فنان حالم- هو أن يحول الرصاص إلى ذهب. حلم العصور الوسطى في تحويل المعادن الخسيسة إلى ثمينة بواسطة حجر الفلاسفة. من أجل هذا أنشأ في أحد جوانب القلعة شارعا ضيقًا مليئًا بالبيوت الصغيرة المتلاصقة أطلق عليه شارع الكيمائيين وجمع فيه كل من يعملون في هذا المجال.. ولكن دون جدوى..

ما زال هذا الشارع باقيا، متلاصق البيوت، هجره الكيمائيون، وتحولت البيوت الصغيرة إلى محلات للعاديات والهدايا التذكارية. ولكن شهرة الشارع الحقيقية جاءت عندما سكن في أحد هذه البيوت الأديب التشيكي الشهير فرانز كافكا.. وبالتحديد في البيت رقم 22.

كان أديبا حساسًا. بالغ الرهافة. أزعجته الضجة في شوارع براغ وبشاعة الجيتو اليهودي الذي كان يعيش فيه. كان مريضًا عليل الجسم يعاني من آثار سل قديم ويمتلئ أدبه بالكوابيس. لقد فضل أن يعتزل المدينة إلى هذا الركن الهادئ هو وأخته وكتب من وحيه روايته الشهيرة "القلعة" عن المحاولات الدءوب لمحاولة شخص ما دخول إحدى القلاع وفشله في ذلك.. رواية يعرفها كل قراء الأدب العالمي وعلماء الطب النفسي على السواء.

خاتمة لكل الخطوات

انتهت الجولة الملكية يا سيدي، وعليك أن تخلع تاجك الملكي، فالمدينة الساجية أمامك كانت ذات لحظة هي مركز العالم.. وقد حاول كل الذين حكموها أن يجعلوها براقة وذهبية. وهكذا أصبحت براغ هي الرواية الخاصة للتاريخ، مكان الحوادث الكبيرة والعواطف الجياشة. البهجة والحزن والسعادة والتعاسة .. لقد ذابت السقوف الذهبية، أخذت وقطعت وصهرت ولكن المدينة احتفظت باسمها. أغمض ملوك بوهميا عيونهم على لحظات الأبدية وما زال صوت الموسيقى يأتي من خلف النهر.