طوكيو.. بوابة الشمس

طوكيو.. بوابة الشمس

تستلقي طوكيو باسترخاء على الناحية الشرقية لجزيرة «هونشو» الأكبر في اليابان كلها، هنا تنبض بالبشر أكبر بقعة في القارة الآسيوية وفي العالم برمته، إذ تتربع فوق جزر بركانية نارية تجلس تحت رحمة الزلزال الذي قد ينال منها في  أي لحظة، وفيها تتشكل مدينة عملاقة تمزج بين الجمال التلقائي والتكنولوجيا بالغة التعقيد.

هي عاصمة بلاد أُطلق عليها منبع الشمس، كونها النقطة الأقصى في شرق العالم، وتتربع فوق المحيط الهادئ وبحر اليابان وتجاور شبه الجزيرة الكورية. كل شيء في قلب اليابان أو «نيبون» كما ينطقها أصحابها، يعمل بالطاقة، وتتدخل فيه لمسات التكنولوجيا الحديثة والغريبة على حد سواء. غالبية الأشياء والتفاصيل تُزين بالأزهار الملونة بدءاً من تأشيرة الدخول إلى هذه العاصمة، وعملتها المحلية المعروفة في كل مكان، وتذاكر السفر منها وإليها. مروراً بحافلات المترو والبنايات الضخمة والمركبات والفنادق والمطاعم. وصولاً إلى طوابع البريد وبطاقات الاتصال وحتى شاشات المصاعد العملاقة وملابس اليابانيين وشاشات البلازما ذات الاستخدام الدعائي والتجاري.

تعتبر مهمة استكشاف علامات طوكيو الفارقة عن أي مدينة في العالم آسيوية أو حتى أوربية مسألة سهلة، ولا تحتاج إلى مجهود كبير لالتقاطها، وإن كانت اللغة اليابانية صعبة ومعقدة بالنسبة لغير ناطقيها، الذين قد يتخيلونها كأشكال هندسية أو متاهات بالغة التعقيد أو رسومات عشوائية مرتجلة.

تهزها الأرض فتهز العالم

أطير إليها لأكتشف وجه الشبه بينها وبين وجاراتها القريبة والبعيدة، فيسرقني الاتساع والكم الهائل من البشر ومحطات المترو الممتدة، لكن نقاط الاختلاف تستعصي على العد والإحصاء: هنا العمران يسبح في فضاء حر، إذ لا يُحكم بقوالب جاهزة عمودية أو أفقية، بل يتمتع بحرية هندسية مقيدة بالجمال والإبداع، وليس هناك الكثير من المباني التي تستنسخ جاراتها الأخرى، سواء في واجهاتها الزجاجية، أو في مساحيق تزينها، أو أشكال التكنولوجيا الزاحفة إليها، أو حتى ابتسامات أهلها التي لا تختفي ليل نهار. وهنا أيضا ترقد العاصمة على صفيح ساخن من زلزال وبراكين، وهي قلب لبلاد تتألف من حوالي ثلاثة آلاف جزيرة صغيرة وبضع جزر كبيرة أهمها: هوكايدو، وهونشو، وشيكوكو، وكوشو.

تهز الأرض هذا المكان، ليهز بدوره العالم برمته وعلى طريقته الخاصة. أما الابتسامات فتحتل شفاه ساكني المدينة الضخمة بلا غياب.

تتناسى وأنت في الطريق الطويل المؤهل إلى طوكيو كل هموم الرحلة وتفاصيل تعبها، وضياع حقائبك الشخصية، وتأخرك عن رحلتي الإقلاع بسبب حالة الطقس المُغّبرة؛ فأنت سترى ملامح طوكيو الجميلة التي لا تُشاهد إلا بالعين المجردة رغم كبر حجمها، وستحتاج إلى توظيف كل حواس الشم والذوق ومشتقاتها خلال رحلتك.

قبيل الوصول إلى مطار «أوساكا»، المحافظة رقم 27 في اليابان والمرتبة من الشمال إلى الجنوب، والإقلاع من جديد في رحلة داخلية قصيرة إلى القلب التكنولوجي لثاني أكبر اقتصاد عالمي، وفي أعماق طائرة الإيرباص، تشرع في اكتشاف القليل من ملامح طوكيو، فتسأل وتقرأ وتتمعن من نافذتك المكسوة بالقليل من الثلج، ليأتيك خليط من الحقائق من شهود عيان: اليابانيون يستخدمون ثلاث لهجات في لغتهم هي كتاكان وهيرغان وكازجي ذات الأصل الصيني. والعاصمة اليابانية شريط كبير يشمل عددًا من المدن الصغيرة المتاخمة وبها ثلاث مدن كبيرة هي: «يوكوهاما»، و«كاواساكي» و«تشيبا»، وكلها تستلقي شرق طوكيو. وإذا ما سألت أي ياباني فإنك ستتحصل على إجابة، وإن تعذر ذلك فلن تشاهد إلا وجوهاً بشوشا تقدم لك الاعتذار.

أحب في طوكيو إخراجها العمراني وبيوتها القديمة وطبيعتها. وأجد صعوبة في التعايش مع الأطباق اليابانية، وأجبر على الشروع في «رجيم» قسري. وألتفت إلى النسبة الكبيرة من المسنين الذين يتخطون نسبة العشرين في المائة، ليكون بذلك معدل الحياة اليابانية الأعلى بين دول الأرض، وأعرف أن 99 في المائة من سكان هذا البلد يتكلمون اليابانية، في وقت لايزال نحو 200 مواطناً فقط من شعب الإينو يتحدثون الأينية.

تضخم إيجابي

يسرد الشاب تماو بوجهه الدائري وشعره الطويل ولغته العربية المتأثرة باليابانية، كلمات جميلة ورقيقة عن مدينته التي ولد فيها العام 1974. أستنتج من حديثه أن طوكيو ليست مدينة، بل هي قلعة ساحرة تجمع بين الطبيعة الخلابة والتكنولوجيا المعقدة، والذي يرى هذا المكان سينسى هموم الدنيا، وسيكفيه التوقف عند ابتسامات اليابانيين المارين في الشوارع أو العابرين للأنفاق الأرضية، أو النظر لعمرانها المتحرك والملون، أو التأمل في ليلها القصير، ليضحك كثيراً، ومن دون شك فإنه سيفكر في تمديد إقامته.

وتماو، المهندس الزراعي الذي يُشرف على مشروعات وأبحاث في مدينة حلب السورية، لا يطيق البعد كثيراً عن طوكيو فسرعان ما يعود إليها من ترحاله.

تمتلك عاصمة اليابان مخزوناً استراتيجياً من السحر؛ فهي قلب البلاد التي نحتت حاضرها في الصخر، وعاشت عصراً جميلاً متوجاً بالصناعة والمال، واستطاعت الشفاء من جراح الحرب العالمية الثانية بزمن قياسي، والفضل في ذلك للإرادة الحديدية التي تتوافر في أبنائها، وحبهم الكبير لبلدهم.

أصل مطار طوكيو الدولي في (هيندا)، بعد أن أجبت على متن الطائرة عن أسئلة لاستبانة سبرت غوري، واستفسرت فيها سلطات الهجرة عن سر وصولي إلى هذا الجزء البعيد من آسيا الساحرة، وفيه استعلام عن دخلي وصحتي ومكان إقامتي ومدته وما أحمله من مواد. أجيب بموضوعية، فالسلطات المختصة في هذا البلد تفترض فيّ وفي غيري الصدق، وحتى لو ثبت العكس.

المدينة.. الدنيا

أقترب من أجواء طوكيو في مشهد يبدو وكأنه لوحة فنية بالغة التعقيد والسحر: أبراج شاهقة، مساحات خضراء، عمران، طبيعة خلابة، بحر، جسور، شبكات طرق عريضة، وعشرات التفاصيل.

أهبط سريعاً إلى محطة المترو الأرضية الملاصقة لهيندا، أبحث عن خريطة للمكان الجديد علي، أمضي القليل من الوقت في باطن الأرض اليابانية، ثم أستأنف المسير فوق الأرض متجهًا لفندق «جراند برنس» في ناحية «أوكاساكا»، فأضل الطريق.

من جديد أستغني عن القطار، وأصل إلى منطقة«شايبيا»، أشم رائحة طوكيو لأول مرة، وأخرج بانطباعات أولية كثيرة، أجد نفسي محاطاً بوجوه دائمة الابتسامة، وأناس مزودين بالاستعداد والتطوع للإجابة عن أي استعلام، وحتى لو تعذر على هؤلاء الجواب فإنهم يمنحونك «وجبة خفيفة» من الابتسامة، وعلامات الترحيب وهز الرأس أو الانحناء قليلاً، في طقوس تعيد عجلة الزمن إلى الوراء.

ابتسامات دائمة

يُجلس هاكوا، سائق سيارة الأجرة، مركبته على حافة الطريق المخصصة كموقف في شارع عريض مُشجّر بالكرز ومكسو في أرضيته بنباتات الزينة. يرتدي السائق زياً رسمياً وقبعة، ويغطي يديه بكفوف بيضاء، وتسيطر على وجهه ابتسامات طبيعية، من وراء زجاج سيارته حيث يحتل المقود الجهة اليمنى من مقدمتها.

تسأله عن عنوان ما في طوكيو، فيرد عليك: أهلاً بك في عاصمة اليابان، اصعد سنوصلك. يقتصد هاكوا في الحديث، بخلاف رغبتي في ضخ العشرات من الاستفسارات حول هذا المكان الغريب، الذي أصل إليه لأول مرة في حياتي.

يُسكت السائق مركبته، وأترجل إلى وجهتي في ضاحية قديمة من أرجاء طوكيو، ثم أغادرها إلى الفندق طلباً للراحة.

في بهو فندق «جراند برنس»، القريب من شبكة جسور و مساحات خضراء، تتقدم موظفة استقبال مبتسمة لفتح الباب، تحني رأسها في حركة تدل على الترحاب، ويصطف بجوارها موظفون وموظفات في زيهم المائل للرمادي ووجوههم الضاحكة لإكمال المهمة، يستقبلونني ويحملون حقائبي، ويبدون استعداداً للرد على أسئلتي العنقودية، من دون أي ملل.

أرتاح قليلاً، وأجرب ارتداء زي ياباني أعده الفندق للضيوف، ثم أسرع إلى اكتشاف ملامح مدينة طوكيو، لأن الوقت هنا يعزف إيقاعاته بنغمات سريعة. 

«فوجي ياما» السر الشاهق..

يطاردني الجوع، أتناساه قليلاً، وأركب المترو من جديد، ثم أمتطي أقدامي، ووجهتي جوار جبل «فوجي ياما».

أرى الجبل الأخاذ كالعين الثالثة لمدينة «إيدو» وهو الاسم القديم لطوكيو الذي يشير إلى حقبتها التاريخية الممتدة بين سنوات (1600-1868 م).

يختطفني جمال جبل فوجي الساحر، ويغرييني موقعه المتميز في قلب طوكيو، ويُراقص خيالي لأذهب في رحلة جديدة نُحلق بعيداً عبر «توكايدو» لاكتشاف أعلى جبل في البلاد الصفراء.

أتوصل لكلمة السر للجبل، إذ يطلق اليابانيون على هذا القسم الشامخ اسم «فوجي سان»، ويطول ارتفاعه إلى نحو 3776 متراً، مقابل أدنى بقعة في البلاد واسمها «هاشيرو-غاتا» التي تقل عن سطح البحر بأربعة أمتار.

قرب الجبل، أقرأ مقتطفات من أشعار يابانية مترجمة إلى العربية، وقصيدة «شوكا» (أي قصيدة طويلة) الشهيرة للشاعر «يامابي نو آكاهيتو» ومطلعها:

«منذ افترقت السماء والأرض، انتصبت سامقة مهيبة في سوروجا قمة فوجي..».

أشم رائحة فوجي، وأشعر وكأنه مضيفي السخي، فيستقبلني بنظرات بيضاء كلونه، وأتعرف من التاريخ الياباني إلى شيء من سيرة ذاتية ارتبطت بهذا الارتفاع الكبير.

أرجع إلى أيام الحاكم الإقطاعي (أوتنا دوكان) الذي شيد قلعة (إيدو) في حوالي منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، يوم كانت طوكيو بقعة من مستنقعات مهملة، وكان «دوكان» - كما يقول اليابانيون - يتمتع بذوق رفيع وإحساس مرهف.

من أشعار هذا الحاكم الإقطاعي، أكتشف مساحة ثرية من الخيال المكسو بالجمال:

«هناك ملاذي..في بستان صنوبر قرب الشاطئ، حيث ترتفع قمة فوجي المهيبة خلف حواف السطح.»

متاهات «الوجيزوكا»

يفسر مرافقي الشاب المغرم بالتاريخ كيوانو علاقة اليابانيين بفوجي ياما وارتباطهم به: في هذا الجبل، بنت مجموعة «فوجي كو» وهي أول طائفة تشرف على صعود جبل فوجي كإحدى الشعائر الدينية، فقامت بتشييد نسخ مصغرة من الجبل العملاق داخل المدينة، لمن يعجز عن تسلق الجبل الأصلي، عرفت باسم «الوجيزوكا».

هنا عكف أفراد المجموعة الدينية على جمع التبرعات للإنفاق على مواسم حج سنوي، فكانوا يزورون أولاً معبد سينجن على سفح الجبل للتطهير، وبعدها يتسلقون فوجي ياما بزيهم الأبيض، ويقدمون الصلاة في المعبد، ثم يسلكون طريقاً مختلفة في إيابهم باتجاه إحدى البلدات المنتشرة على سفح الجبل، إذ يتمتعون بالطعام والشراب والتسلية ويؤدون الابتهالات لشفاء المرضى ويبيعون التمائم لإبعاد الأمور السيئة عنهم..

وفي العصور الوسطى، وعندما كانت البوذية والشنتو تتقاربان إلى حد الانصهار، شُيّد معبد بوذي على قمة جبل فوجي، وظهرت طائفة تبشر بأن«الأرض الطاهرة لبوذا آميدا تقع على ارتفاع الجبل.»

صار الجبل الشاهق مرتبطًا بالآلهة «كونو هانا ساكيا هيمة»، وفق معتقدات اليابانيين، وتحول فوجي ياما إلى رمز دائم يدلل على الحظ السعيد في التقاليد الشعبية، ويعتقد اليابانيون أن أول حلم يراه الإنسان في السنة ينسحب على السنة كلها، وأن الحلم الأكثر أملاً وجمالاً هو المتصل بجبل فوجي الذي يوحد أيضًا المعتقدات الدينية لعناصر الشنتو والبوذية والطاوية والأديان الأخرى المتداخلة.

غزل..

قرب الجبل أيضاً أقرأ ما كتبه تاكاشينا شوجي، الأستاذ في جامعة طوكيو، والمدير العام للمتحف الوطني للفن الغربي: تجلت المكانة البارزة التي احتلها الجبل كمهوى لأفئدة المعجبين منذ بدايات حقبة الإيدو في عادة إطلاق اسم الجبل «فوجي ياما» كاسم تحبب على جبال أخرى مسبوقاً باسم المنطقة التي يوجد فيها ذلك الجبل، كما هي الحال في جبل إيواكي في محافظة آدموري شمال اليابان، والذي يدعى تحببًا «توجارو فوجي» وجبل كايموانداكة في محافظة ساتسوما، والذي يدعى أيضا ً«ساتسوما فوجي».

أما درجة الشبه بين هذه الجبال والقمة الأشهر فهي موضوع خلاف، ولكن الاسم وحده يتحدث ببلاغة عن المكانة الفريدة التي يعيشها فوجي الشاهق في قلوب اليابانيين. 

إنهم يشبهون بعضهم!

أتخلى عن جماليات فوجي ياما مكرهين، فالإعياء والجوع لها رأي آخر، أصل إلى مطعم شعبي في إحدى ضواحي طوكيو الشرقية، أستمتع مكرهاً بوجبة دسمة من «نودلز السوبا» وباكيتوري الدجاج على الطريقة اليابانية بأرزها المقلي والسلمون وصلصة البونزو.

أقهر نار جوعي، وأسترد قليلاً من عافيتي، فالتعب لا يعترف بهدنة للاستمتاع بجمال طوكيو الطبيعي من دون أي مقابل.

في الطريق، أسأل بائعة التحف اليابانية ساناتشي عن الشبه بين وجوهنا الشرقية السمراء التي تحل ضيفة على طوكيو، ووجوه أهلها المائلة للبشرة الصفراء، فتأتيني الإجابة: أنتم تقولون إننا نحن نشبه بعضنا البعض في وجوهنا، ونحن نراكم تشبهون بعضكم مائة في المائة، ولا نستطيع التمييز بينكم: وجوهكم، شعركم، شواربكم، لحاكم، عيونكم، ضحكاتكم، بشرتكم، كل شيء...

أقول لها: ربما ستبدأ هذه النظرة بالتلاشي، في حال التعامل المشترك، ولفترات طويلة، ولو انفتحت آسيا الشاسعة قليلاً على نفسها.

لا تفارقني بعض الأسئلة المشتقة من السياسة، فأختار الاستعلام عن فلسطين وقضيتها، لأكتشف أن الغالبية العظمى من عينتي المعقولة لا تفرق كثيراً بين فلسطين و«إسرائيل» أو بين الأراضي الفلسطينية المحتلة والفلبين.

السياسة الترف

أكف عن السياسة قليلاً، ولا أسأل عن الإمبراطورية القديمة أو الحديثة، ولا لون البلاد السياسي المختلف عليه(جمهورية أم ملكية)، ولا حقبة الإيدو، لكني أعود للتراجع بعض الشيء، فأسأل الصحافي تاكاو ساتو الموظف في التلفزيون الياباني وخدمة الأخبار العالمية عن مزيج من الطبيعة والجمال والتكنولوجيا والسياحة والرياضة والديانة البوذية والفن.

ثم أخصص حيزاً لسؤالين حول تصريحات وزير الدفاع الياباني فوميو كيوما الذي رحب خلالها بالهجوم الأمريكي النووي على بلاده العام 1945 ، وقال :«إن القنبلتين النوويتين لم يكن من الممكن تجنبهما، لأنهما أدتا إلى إنهاء الحرب العالمية الثانية، ومنعت الاتحاد السوفييتي من الدخول في الحرب في مواجهة اليابان.» ثم عاد واعتذر عنها وقال إنه لم يكن يقصد إهانة الضحايا.

السياسة في اليابان شيء من الترف، فالناس تشغلهم الحياة والتكنولوجيا والأزهار الأخاذة، وإذا ما سألتهم عن التاريخ، فإنهم بالإجمال يتناسون كارثتي هيروشيما ونجازاكي، ولا يرون في الولايات المتحدة عدواً لهم.

هناك بالتأكيد في طوكيو وغيرها، من يخرج عن هذه القاعدة، ويسكن الماضي في قلبه، ولا يستطيع نسيان الألم والأجيال المشوهة إلى اليوم بفعل القنبلتين النوويتين الأمريكيتين.

في رحلة إقلاع ثانية من أوساكا إلى طوكيو، أقرأ في السماء أخباراً عن اختفاء طائرة سياحية كمبودية، على متنها عشرون شخصًا، وأسمع عن تقدير السلطات باحتمال تحطمها، فنصاب بالقلق.

أهبط إلى أرض العاصمة مرة ثانية بسلام، أحمد الله، وأتمنى السلامة لمن يركب السماء والبحر واليابسة.

أصل جامعة الأمم المتحدة في قلب العاصمة اليابانية، أستمع من روبين حزبون المولود لأم فلسطينية وأب سلفادوري، والذي يدرس السياسة الدولية كلاما معسولاً عن طوكيو.

في هذا المكان أشعر بأنني في بيتي، صحيح أن الناس هنا أكثر بكثير من أن أعرف قسما صغيرا جداً منهم، لكني بابتساماتهم المتواصلة أحل جزءاً كبيرًا من مشكلتي.

بالنسبة لمضيفة الطيران اليابانية ذات الشعر الأسود المعتم، فإن جزءاً من طقوس عملها تستمده من التقاليد لبلادها، فهي تحرص على تقديم التحية لركاب الطائرة على طريقتها اليابانية، فتحني لهم رأسها وجسدها، وتضع يدها أسفل وجهها، ثم تتبع ذلك بابتسامة طبيعية.

حتى في الطائرة، يُذكّر اليابانيون المسافرين بعاصمتهم الجميلة، وبأزهارهم المنتشرة على طول بلادهم وعرضها. توزع علينا المضيفة صوراً لمقتنيات قديمة وعينات من الزهور، ولا تغفل الجرائد المحلية عن تقديم إشارات جديدة لتاريخ هذه الإمبراطورية ولعلاقتها بالطبيعة الفاتنة، وبخاصة في ربيع طوكيو، وقريباً من جبل فوجي ياما.

تُعلمك فوكيانا بعض الكلمات باليابانية، لكنك سرعان ما تخسرها بفعل صعوبتها، ولا تتذكر منها سوى «السّن» الذي يشير إلى الصفر، وبعض الأشكال التي تشبه الرسومات المربعة والأشكال العشوائية والكلام الطويل والمثقل بحروف الكاف.

تقاليد

تبدو ملامح هيرو أكايو الموظف الرفيع في الأمم المتحدة بنيويورك هادئة كأقرانه من اليابانيين، فهو قادم إلى مسقط رأسه في شمال طوكيو للمشاركة في مؤتمر دولي حول علاقة الإعلام بقضايا الشرق الأوسط.

من وحي حديثه أكتشف: الاحترام البائن في تصرفات اليابانيين، وميلهم نحو مساعدة الغير، ووجوههم الباسمة، هي كلها من تقاليد اليابانيين الذين يحرصون على نقلها لأطفالهم في سن مبكرة، حتى تترسخ في نفوسهم وتصبح جزءاً من تصرفاتهم الطبيعية والتلقائية.

يعدد هيرو قيماً أخرى كالتسامح والاحترام والاهتمام بالجماليات والنظافة والعناية بالزهور ومساعدة الآخرين والترتيب، وكل هذا ينعكس على الأمكنة والشوارع والحدائق في طوكيو وسائر اليابان، وهو جزء من التربية والثقافة .

الأسرة اليابانية صغيرة العدد في الغالب، ومتماسكة بعض الشيء، ويحظى كبارها برعاية من قبل الأهل، ويساعد اليابانيون زوار البلاد في قضاء حوائجهم، ويسخرون التكنولوجيا لخدمة مقاصدهم.

فإذا ما سألت أحدهم عن موقع مكان ما، فإنه سيسترشد بهاتفه النقال للدخول إلى شبكة الإنترنت، ليشرع في البحث عن الموقع، وأرقام هواتفه، وسيقدمه للسائل على طبق من ذهب، مضافاً إليه ابتسامة وترحابا.

حضن مجاني!

وسط ميدان شين جي كو المزدحم بالناس، يمكن مشاهدة العديد من الغرائب: هنا يرفع هيوا تياتكو ورفاقه من الجنسين لافتة كتب عليها بالإنجليزية: «حضنة مجانية» يمكن للمارة «التمتع» بها دون مقابل، تسألهم عن السر في ذلك، فيجيبون ووجوههم مبتسمة: نفعل ذلك لأجل نشر المزيد من التسامح والمحبة بين الناس.

لا يميز الزائر لطوكيو بين ليلها ونهارها، فالأضواء في «شين جي كو» ساطعة، والحركة ذات إيقاع سريع طوال اليوم بأكمله، وحتى لحظة قطع الطريق من المارة بوسعها التحول لعمل فني لكثافة عناصرها وتناغم إيقاعاتهم السريعة.

أفتش عن سر هذا التوزيع المجاني في ميدان عام، فتأتيني إجابات متقاربة: إننا نريد الهروب من الحياة الآلية المعتمدة على التكنولوجيا والخالية من العواطف فنجد في الحب مهربًا، وبعضنا يود نشر الحب الأبيض ويعيد للتسامح والعلاقات الحسنة عصرها الذهبي، ونستفيد هنا من الحرية السائدة، فنعمل ما يحلو لنا بشرط أن لا نعتدي على حريات غيرنا أو اقتحام خصوصياتهم.

من حديث هؤلاء، ألمس ما يصرح به السواد الأعظم من اليابانيين وكونهم لا يتبعون أي ديانة. إذ يعتقد غالبية الشباب أنه يجب إزاحة الدين والمعتقدات عن الإيحاءات التاريخية، وهذا بسبب الدور الذي لعبته ديانة الشنتو في تجييش اليابانيين خلال الحرب الكونية الثانية، وبالرغم من هذا تحافظ التعاليم البوذية والشنتوية على وجودها في ثنايا الحياة اليومية.

سحر «الكيمونو»

قريبا من موزعي الحب، يقف زوجان يابانيان بملابس تقليدية قديمة لالتقاط صور تذكارية، ولإتاحة الفرصة أمام من يشاء للانضمام إليهما.

أسجل ما أورده الزوجان في حديث عفوي وبإنجليزية متثاقلة: نرتدي هذه الملابس التي تعيد ذكرياتنا إلى الوراء كي نذكر بها أطفالنا، وليشاهدها السياح، ولنروج لماضينا الجميل، وإمبراطوريتنا القديمة، وبوسع زوار طوكيو أن يلتقطوا صورًا جميلة بصحبتنا، وحتى من دون إذن.

يطلق اليابانيون كلمة «كيمونو» للتدليل على اللباس التقليدي في هذا البلد، و«كيمونو» في اللغة اليابانية تعني بعامة ملابس، ولكنها بخاصة تشير إلى اللباس الياباني التقليدي الطويل الذي يرتديه الرجال والنساء والأطفال.

ينساب الكيمونو بجماليات عالية وألوان جذابة وبخاصة على النساء. فأكمامه العريضة التي قد تصل إلى نصف متر هي نكهة الإضافة للزي الياباني، وتأمر التقاليد والأعراف النساء غير المتزوجات بأن يلبسن الكيمونو بأكمام طويلة جدًا يصل طولها إلى الأرض تقريباً، أما الثوب فيكون ملفوفاً حول الجسد ، ويكون الجانب الأيسر على الأيمن ويحاط بحزام عريض يربط من الخلف ويدعى «أوبي».

تلاحظ كيف صار الزي التقليدي مهددًا بالانقراض، وبخاصة لدى الشباب الذين يسيرون وراء خطوط الموضة السريعة.

موائد دوّارة..

في منطقة شوبيا(الوادي الضجر)، تعيش طوكيو صخباً عالياً تماماً كالإيقاع السريع في العاصمة اليابانية، وكحركتها التي لا تتوقف.

بجوار معبد قديم يغلب عليه اللون الزهري الفاتح، تتنازع لافتات ضخمة تسعى للتعريف بمنتجات طوكيو وسلعها، فيما يعمد آخرون للتنكر بملابس نمور وقطط ضخمة للترويج الدعائي لشركات تجارية.

ألاحظ كيف يختفي أحدهم من وراء جلد نمر ضخم وأصفر، ويتفاخر: نبتكر في طوكيو كل شيء جميل، ونعتز بأن يقلدنا غيرنا في سلوكنا التجاري، وفي نظامنا الصناعي العظيم.

أقترب من مطعم «سوجي» لأكتشف أعجوبة أخرى، هناك تقف في مدخل المطعم فتاتان ترحبان بالزبائن، وتوجهان الدعوة للمارة كي يدخلوا. في أعماق المكان المزدحم بالرواد يصطف العشرات حول مائدة مستديرة تدور بإيقاع سريع وتحمل فوقها عشرات الأطباق، وعلى الجالسين تناول الطعام الياباني بسرعة، ومن لم يأكل سبعة أطباق في ثلاثة أرباع الساعة فسيكون مصيره دفع الحساب والخروج طواعية من المكان وإفساح المجال لغيره.

أجرب الموائد الدوارة هذه، فلا أستسيغ مذاقها من أول طبق، أدفع الحساب وأمضي إلى شأن آخر.

ليس بعيداً عن المطعم الغريب تأخذ طوكيو بكشف بعض مفارقاتها، فهنا شبان يتخذون من أرصفة الشوارع بيوتاً وأمكنة للنوم. وفي حديقة عامة قريبة من الميدان المزدحم بالعاصمة اليابانية يمضي آخرون أيامهم في حياة تشرد صناعية، يقول جاوايكا، وهو أحد هؤلاء: نحن بلا بيوت فعلاً، ولكن هناك من ينضم إلينا على سبيل إحداث تغيير في حياته، والقضاء على الروتين الذي يسيطر عليه، فيخرج إلى الحديقة العامة، وينصب خيمة، ويرجع في تصرفاته التجارية عقوداً إلى الوراء، فيبدأ بمقايضة المشردين الآخرين بمهارته كقص الشعر أو العزف الموسيقي مقابل الحصول على الطعام أو التمرن على فنون «اليوجا».

عمران متحرر..

يسكن الصحفي السوري نجيب الخاش طوكيو منذ عشر سنوات، وصارت هذه المدينة تسكنه كثيراً. بالنسبة لنجيب فإن العمران المتحرر من القيود هو أكثر شيء ساحر في العاصمة اليابانية، ويكفي لتعليل ذلك القول: وأنت تسير في طوكيو ستجد علب كبريت مرتفعة ومرتبة، وستكتشف بجوارها بنايات مختلفة في النمط، وفي ركن ثالث ستكتشف عشوائية عمرانية جميلة، أما في الطريق المؤهل لمطار هيندا فستعيش لحظات غريبة، وستسيطر عليك أبنية مختلفة الطراز ومصنوعة بإبداع، والأهم تنتفي صفة التكرار عنها.

تفضي الحرية العمرانية هذه في نهاية المطاف إلى أنواع أخرى من الحريات، وتنعكس على نمط المعيشة في مدينة يعبر من شوارعها ومحطات قطاراتها الأرضية أكثر من ستة ملايين ياباني، هم جزء من سكان العاصمة باهظة التكاليف.

من غرائب طوكيو الأخرى، محطات التزود بالوقود، فالأنابيب الناقلة للنفط للمركبات وسواها تتدلى من أعلى السقوف إلى أسفل، على العكس تماماً من السائد في معظم دول العالم.

يسرد لك تناسو، وهو أستاذ تربية موسيقية في ضواحي طوكيو الجنوبية: الغرابة دائماً تحقق الكثير من المتعة، وتكون نقطة انطلاق للمقلدين، إذ سيفكر هؤلاء في حملها معهم في أدمغتهم إلى بلادهم البعيدة عن عاصمتنا، وللإبداع وظيفة بالغة  الحيوية، فهو يجعل العين تعيش حالة متعة دائمة.

تمييز إيجابي

يحظى كبار السن والمرضى والحوامل وأصحاب الاحتياجات الخاصة في طوكيو برعاية كبيرة، ففي المواصلات العامة والمشافي ومحطات القطارات والمطارات تخصص لهم مقاعد متقدمة ومريحة ومميزة، وفي المطارات توفر لهم السلطات عربات خاصة لحظة مغادرتهم الطائرة ومواصلة سفرهم لأماكن أخرى.

لسان حال اليابانيين يرسل لي: لدينا الكثير من التسهيلات التي نقدمها للضعفاء، لأن هؤلاء يحتاجون بالفعل إلى مساعدة تقدم لهم، وإذا لم نحترمهم فهذا سيجعلنا متناقضين مع القيم التي تربينا عليها، والتي نسعى إلى غرسها في نفوس أطفالنا.

تستعد تاشوسيكا للسفر بصحبة أمها المريضة من طوكيو إلى بانكوك، كما تفعل دائماً، ولو لم تحظ والدتها بتسهيلات لفكرت في التقنين بمسألة التنقل كثيراً.

تناقص معدل الإخصاب في طوكيو وجاراتها بعد الحرب العالمية الثانية، وظهرت الإشكالية من جديد بعد العام 1970، عندما رفضت اليابانيات ترك أماكن العمل والجلوس في المنزل لتربية الأولاد ورعاية شئون الأسرة كتخصص في حياتهن.

يحظى الأطفال والمسنون والداخلون في مرحلة الرشد بأعياد قومية في هذا البلد، وهذا يدلل على مساحة الاهتمام الرسمية بقطاعات عريضة كما تردد تاشوسيكا بشعرها القصير على مسامع أمها التي راحت تستند لعكازها الأسود.

غير أن هذه الأعياد لا تحل الإشكالية الكبيرة في شيخوخة طوكيو واكتظاظها الخانق والذي لا يكاد ينتهي، بل على العكس مرشح لمزيد من التصاعد.

أوكسجين للبيع!

قرب مجمع تجاري ضخم، تشرع كياكو، الشابة ابنة العشرين في الترويج لأجهزة غريبة من نوعها، تقول عباراتها اليابانية المترجمة إلى الإنجليزية عبر ملصق دعائي: اربح الأوكسجين النظيف، وتمتع بالانتعاش والاسترخاء، وعش لحظات من الرائحة المنكهة بمذاقات التوت أو الزهور وغيرها، والتي تشتريها مقابل القليل من العملة المحلية(الين).

ترى الاختراع الياباني الجديد، فهو جهاز موصول بأربع عبوات من الأوكسجين بمذاقات مختلفة، موصولة بأنبوب يوضع على الأنف والأذنين، ويبث رائحة عطرة منعشة بالمذاق الذي تختاره، فتشعر أنك تدخل عالماً من الانتعاش.

أستغرب من هذا الجهاز، وأجربه قليلاً، محاولاً استكشاف حجم الدعاية التجارية المبالغ فيها في أماكن العالم، فأجد النتيجة مختلفة.

أنتعش قليلاً وبخاصة بعد أيام من التعب والأجواء الطارئة علينا والمتأرجحة بين رطوبة وحر وأمطار صيفية، وأرى السحب الناجمة من التلوث تحتل أفق طوكيو، وكيف يقاومها البعض بتكميم الأنف بمعدات طبية طمعًا في حياة خالية من المرض المنتقل بالعدوى.

ترى نوبيتكو سائقة التاكسي أن طوكيو مدينة تختصر آسيا لولا الغلاء الفاحش الذي يشكو منه الزائرون، لكننا نقول لها: يكفي أن الجزء اليسير من رجال الشرطة الذين شاهدناهم مسلحين بالابتسامات لا الهراوات، فتضحك هي الأخرى كثيرًا..

أخرج باستنتاجات كثيرة، إذ إن رحلة استكشاف طوكيو تحتاج إلى عدة أشهر، لكن الغلاء لا يسمح للضيوف بالمكوث طويلاً في العادة، فلا تتاح لهم فرصة الدخول إلى قلب العاصمة اليابانية الجميلة بكل خباياها، ولا تتوافر لهم فرصة التمتع باحتفالات طوكيو بأعياد البحر والربيع ويوم الراحة الوطني وبدء الصيف وأيام الثقافة والعمل والإمبراطور وغيرها من مناسبات.

حب من أول نظرة

يرى كابوكي أوتوباكي، النادل في مطعم شعبي أن طوكيو مدينة تًحب من أول نظرة، بالرغم من أسعارها المرتفعة، وأرى أنا الطارئ على العاصمة الشيء ذاته.

يرتدي كابوكي طربوشاً أبيض اللون يعتلي رأسه ويتفاخر: أنا من أوساكا، لكنني لا أستطيع العيش بعيداً عن ضوضاء طوكيو ولو للحظات قصيرة، فهي صارت كالهواء الذي أتنفس.

قريباً من «مترو الأنفاق»، تشاهد في ساعات الصباح الباكر مناظر حديثة بالنسبة لنا، فقريباً من بوابات عربات القطار، يقف شابان يرتديان قمصانًا بيضاء يزاولان حرفتهما غير المألوفة.

يدفع الشابان طوال القامة نسبياً المسافرين إلى داخل عربات المترو، ليستمروا في إيقاعات السرعة وللتخفيف قدر الإمكان من الاكتظاظ.

تعتقد نوبيكو أن مشاهد الدفع اللطيف هذه عائدة إلى كون الياباني مغرمًا بالسرعة والرشاقة، فلو سار كل واحد على هواه لخسرنا كثيراً.

ألتقي الصحفي نجيب الخواش في جامعة الأمم المتحدة فجأة، فأمضي بصحبته وقتاً ويرشدني لبعض عوالم طوكيو الغريبة.

من كلام نجيب أكتشف الكثير: في ساعات الزحام، لا تستطيع أن تتحرك ولو لبضعة سنتمترات، وإذا ما سقط منك شيء على أرض القطار، فذلك يعني أنه لن يعود إليك، لأن الزحمة تجعل الركاب مثل السمك المُعلب.

يعتقد كازوياتا كاهاتشي السكرتير الثاني في السفارة بالعاصمة الأردنية أن طوكيو تختزل حكاية اليابان بشيء من التفصيل، فهي ساحرة وأخاذة ومليئة بالأسرار وستقدم نموذجا لزيارة لن تنسى.

عجلات هوائية

في دروب العاصمة الواسعة تزدهر كراجات تأجير الدراجات الهوائية، التي يحظى ركابها بممرات خاصة بهم على الطرقات الرئيسة. توجو موظف في إحدى الكراجات يروي لك: عليك أن تدفع القليل لتحصل على وسيلة نقل جميلة ورائعة، ولكن سيكون حظك عاثراً لو أمطرت عليك السماء، وبوسعك أن تشتري مظلة صغيرة أيضاً، تزدهر تجارتها في عاصمتنا.

في طوكيو تمتطي الفتيات دراجات هوائية، وكذا الشبان. في أهداف هؤلاء توفير الوقت والجهد، والحد من التلوث باستخدام سياراتهم الخصوصية، وتوفير المال، كما يعتبرها البعض رياضة للجسم، ووسيلة للتغيير والابتعاد عن محطات مترو الأنفاق المزدحمة.

أشاهد بقاعا صغيرة من العاصمة اليابانية تضم على الأقل خمسة كراجات لتأجير الدراجات الهوائية، وتنتشر في بعضها دراجات نارية، غير أن المترو بالنسبة لسناتشي وسيلة أرخص وأفضل وبخاصة في الأحوال الرديئة للطقس.

ومحطات القطار الأرضية في العاصمة متوفرة وقديمة، إذ يرجع تاريخ إطلاقها إلى العام 1871، يوم أطلقت أول سكة للقطارات، بين طوكيو ويوكوهاما.

ويستقبل المترو أكثر من ستة ملايين مسافر في أوقات الذروة، يطوفون أرجاء طوكيو، على امتداد أكثر من مائة كيلو متر، وفي بعض المسارات الخارجية ينتشر القطار فائق السرعة والمعروف بـ«شينكانسن».

أما المركبات العمومية، فهي منتشرة، وإن كانت مكلفة وبخاصة بالنسبة لزوار العاصمة وسياحها.

ملامح

تجهز معظم مصاعد البنايات اليابانية العملاقة بشاشات كبيرة الحجم، وتسعى للترويج غير التجاري بطريقة رائعة، ففي كل طابق صعودًا أو هبوطًا، تتوافر فرصة مجانية للاستمتاع بنباتات اليابان وأزهارها الخلابة، وتأتي في المقدمة أزهار الكرز الجميلة، وحقول خضراء من العاصمة الشرقية وخليج طوكيو ونهر سوميدا.

يستلقي في قلب المدينة التاريخي القصر الإمبراطوري المحاط بمساحات خضراء، ويحظر على العامة زيارة المكان. وإذا ما سرنا باتجاه الغرب والجنوب فسنصل حي «كاسو ميغاسيكي» الذي تتجمع فيه الهيئات الرسمية ومقر البرلمان ومجلس الوزراء والمحكمة العليا.

ننحاز لاتجاه الشرق لنمر من حي «مارونداوتشي»، فتستقبلنا بنايات شاهقة نعرف لاحقًا أنها مقار لمؤسسات مالية ومصرفية كبرى.

أتوغل في حي «جينزا» الواقع في الناحية الشمالية لطوكيو، فيسير معنا نهر «سوميدا» لنرى سوق المدينة المفعم بالحركة والنشاط وبالحال الثقافي والفني.

يتجلى جمال حينا في «جينزا» أيام الأحد من كل أسبوع، إذ يحظر على المركبات السير هنا، ويتساوى الناس بالمشي على أقدامهم.

في يوم الأحد الجميل في طوكيو تسير بحرية، ويعرض التجار بضاعتهم، وتبتعد قليلا عن عالم السيارات المزعج.

أسبر غور حي «أساكوسا» بسرعة، فهنا مكان شعبي يوحي لنا وكأننا ندخل إلى قلب متاهة بأرجلنا، تستريح عشرات المتاجر والمحال الحرفية الصغيرة، وأشاهد مكانًا ذهبيًا للمصنوعات التقليدية وتجارتها المزدهرة.

تخبرك رائحة المكان بهويته، وتمنحك جماليات الشوارع المتداخلة شعوراً بالعودة إلى الماضي، فناطحات السحاب ليست في متناول اليد، ومظاهر شواء الدجاج في مطاعم شعبية، والأزقة الصغيرة توحي لنا بأننا ابتعدنا عن عوالم طوكيو المعقدة.

لم يسعفك الحظ في الوصول إلى معبد «سينسو» الذي تجلت فيه شخصية «كاننون» أو آلهة الرحمة في الديانة البوذية، لأن الوقت ضاق علينا، فنتجه إلى حي «إيكيبوكورد» حيث نتمتع بمشاهدة أكبر مجمع تجاري في العالم، نشاهد دون أن نلمس،  ونتفرج من دون أن نبرم صفقات بيع وشراء، ونراقب الإعلانات الضخمة، والأزهار التي تستضيفها بنايات مرتفعة.

كنوز

يصطحبك إياك تيستوجاك، مدرس الفنون الجميلة في رحلة قصيرة إلى بعض من متاحف اليابان، فيقع الاختيار على متحف المدينة القديمة للتقاليد، الذي يزين حي «أساكوسا» العتيق.

يسرد لك إياك بعجالة شيئًا عن متاحف العاصمة طوكيو، ويخبرنا بأن منتزه «أوانيو» يستضيف في أحشائه العديد من متاحف العاصمة طوكيو، فهناك متحفها الوطني الأكبر، الذي يحوي خبايا من شتى عصور اليابان التاريخية، إذ يقدر القائمون عليه مقتنياته بنحو ثمانية آلاف قطعة أثرية. أما رواق «هوريوجي» فيخفي في أعماقه كنوزًا دفينة ونادرة، وترجع إلى القرنين السابع والثامن للميلاد، في حين يقدم المتحف الوطني للفنون الغربية أعمالاً لعمالقة الفن من طراز: سيزان، و مانيه، ورودان، وغيرهم. يرشدك دليلك إلى متحف «هاتاكي ياما»، فيخبرك بأن المتحف يسرف في عرض لوحات فنية وخزفيات مخصصة لطقوس تقديم وجبات الشاي اليابانية، تمضي في جولة قصيرة وتتعرف لإيجاز من التراث الياباني الجميل، وكأنك ترجع بعقارب الساعة إلى الوراء. تشاهد صورًا فوتوغرافية لنساء من طوكيو يسحبن أوراق الحظ (أومي كوجي) في مزار «كسغا» الشتوي.

عبق الماضي

أستوطن المكان الذي يشغل طوكيو حاليًا منذ فترة «جومون»، وتحولت لاحقاً ضمن الأراضي الملكية التابعة للإمبراطور خلال فترتي «نارا» و«هيتيان»، وسقطت المدينة أثناء العصور الوسطى في قبضة المحاربين القادمين من السهول الشرقية القريبة، واسس هؤلاء حكومة عسكرية باسم «كاماكورا» استقرت جنوب خليج طوكيو نهاية القرن الثاني عشرميلادي، ومنذ وقتئذ حصلت المدينة على اسمها الأول «إيدو» والذي يعني «ميناء الخليج» في إشارة إلى خليج طوكيو. بملامح فرحة تسيطر على وجوه اليابانيين أسمع هذه الرواية: أصبحت المدينة عاصمة لبلادنا منذ القرن السابع عشر للميلاد (1868)، وعرفت طوكيو عصرا ذهبيًا خلال فترة حكم الإيدو، وسكن المدينة مليون نسمة في القرن الثامن عشر، وفي أعقاب سقوط نظام الشيوغونية تراجع دور المدينة لمصلحة العاصمة الإمبراطورية «كيوتو»، ثم قرر البلاط الإمبراطوري نقل العاصمة إلى«إيدو« التي أعيد تسميتها بطوكيو ومعناها العاصمة الشرقية. بدأت طوكيو تتطور لتصبح واحدة من كبرى مدن العالم أثناء بدايات حكم «مييجي»، وصارت المدينة القديمة تتحول لاحتضان الشركات العملاقة والجامعات والأنشطة الصناعية الضخمة.

وشكل العام 1870 نقطة تحول في تاريخ المدينة، فوقتئذ تأسست أنظمة الإنارة العمومية التي تعمل بواسطة الغاز، وشُيدت خطوط القطارات، وأخذت تنمو المباني الحكومية في ناحية «كاسوميغاسيكي».

وبحلول القرن العشرين تضاعف حجم العاصمة، واستغلت المساحات الشاغرة على امتداد الضفاف الغربية لخليج طوكيو، ثم تبدل الاتجاه نحو الشمال والشرق. ووفق المراجع التاريخية التي يستند إليها أوكاسي، فإن المدينة تعرضت لموجات من الحرائق والزلزال والدمار، وشهد العام 1923 أعنف هزة أرضية دمرت أكثر من نصف طوكيو، وإبان الحرب العالمية الثانية نال القصف الجوي من المدينة، وأدى إلى قتل مليون من سكانها، ودمرت الحرب النسيج الحضري للمدينة على امتداد مائة كيلو متر.

روح الحاضر..

راحت طوكيو تستعيد عافيتها بسرعة، ففي عام 1964 شيدت في المدينة طرقات ومبان خاصة وعامة، واستضافت نسخة الألعاب الأولمبية، وأصبحت تضم أكبر بورصة في العالم، فيما يكمل قرابة نصف اليابانيين تعليمهم العالي في جامعاتها العريقة ومعاهدها العليا، وأصبحت تحتل الرقم الأول في ميادين البحث والتعليم والثقافة، وتنتشر في أحيائها المكتبات بكثرة، إذ تمتد على مساحة 600 كيلو متر مربع، وتتشكل من 23 حيًا، ويعيش فيها 30 مليونا (12 منهم في مركز طوكيو لوحدها) من بين 127 مليوناً وفق إحصاءات العام 2003، لتشكل اكبر تجمع حضري في العالم. ويمتد عمرانها من دون توقف على مساحة عشرة آلاف كيلو متر مربع من أصل 377835 كيلو مترا تشكل إجمالي مساحة اليابان كلها، فيما يتألف سكان العاصمة طوكيو، كما في اليابان كلها، من مزيج عرقي ولغوي. فالسواد الأعظم منهم ياباني من شعب الإينو، وبجوارهم خليط من الكوريين وسكان أوكيناوا والصينيين والتايونيين والفلبينيين والبرازيليين.

يتفاخر سكان طوكيو بصناعتهم القوية،وبتربعهم على عرش ثاني أكبر اقتصاديات في المعمورة، إذ يتدنى إنفاقهم العسكري (1 في المائة من الناتج القومي الإجمالي)، ويسرد الياباني العادي بسهولة قصة نجاح بلاده التي تعتمد على شراكة متينة بين الدولة والمؤسسات، وترتكز على أخلاقيات العمل، وتتسلح بالتكنولوجيا المتطورة.

من أبجديات الاقتصاد في طوكيو وسائر اليابان، التسلح بنظام مجموعات تسمى «كيئي - ريتسو» والتي تعني ثلاثية العلاقة بين الصناعيين والمتعاملين والموزعين، بجوار نقابات عمالية حديدية لا تواجهها نزاعات عمل، إضافة لضمان حق العمل مدى الحياة لشريحة كبيرة من العمال في حقل الصناعة. أرحل من طوكيو، وعيني على بلاد الشمس من جديد، فالعاصمة الخلابة تحتاج إلى مزيد من الوقت لسبر غورها الخلاب...

 

عبد الباسط خلف 





صورة الغلاف





 





 





نادلة في أحد مطاعم طوكيو وابتسامة لا تفارق وجهها





زحام لا يهدأ في الشوارع





عناق مجاني لمن يريد تعبيرا عن  المحبة والتسامح





محطات المترو العملاقة نموذج للدقة والتطور التكنولوجي





مطار طوكيو الدولي «هيندا» الذي يصل اليابان النائية بكل العالم





جنديان من الجيش الياباني يستعدان لرفع علم الأمم المتحدة





أحدث أجهزة التكنولوجيا متوافرة في يد المواطن الياباني العادي





العمران في طوكيو يسبح في فضاء حر ويتمتع بحرية هندسية لا يقيدها الا الجمال والابداع





النوم في الشوارع ليس من باب الفاقة ولكن من باب التغيير والقيام بتجربة جديدة





البناء لا يهدأ في تلك العاصمة المزدحمة واختفى الخوف من الزلزال بعد ان تطورت تكنولوجيا البناء





رسوم على الحائط لنساء يرتدين الزي الياباني التقليدي «الكيمونو» ويلاحظ أن النساء غير المتزوجات يرتدينه بأكمام طويلة





جبال طوكيو غامضة ومعبأة باحتمالات الانفجارات والزلازل .. الجزر اليابانية كلها هي إحدى هبات البراكين





عرائس يابانية تقليدية بألوانها وزخارفها





عرائس يابانية تقليدية بألوانها وزخارفها