مكافحة تغير المناخ.. التضامن الإنساني في عالم منقسم

مكافحة تغير المناخ.. التضامن الإنساني في عالم منقسم

للعام الثاني على التوالي، يخصص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الموضوع الرئيسي لـ«تقرير التنمية البشرية» لقضية بيئية. وهو ما يعكس الاهتمام الدولي المتزايد بتغير المناخ، بما يمثله من تهديد لحياة الملايين من أفقر سكان كوكبنا، إن لم يكن يهدد وجودنا ذاته على كوكب الأرض.

ففي العام الماضي، كانت ندرة المياه هي الموضوع الرئيسي لتقرير التنمية البشرية للعام 2006 - 2007، الذي صدر تحت عنوان «ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية». وأهم ما تضمنه التقرير رفضه لما يروجه البعض بأن أزمة المياه العالمية تتمثل في النقص الشديد في الإمدادات الفعلية، حيث أرجع جذور الأزمة إلى الفقر، وعدم المساواة، وعلاقات القوى غير المتكافئة، فضلا عن سياسات إدارة المياه غير السليمة التي تزيد من حدة ووطأة ندرة المياه.

وحمل تقرير 2007 - 2008 عنوان «محاربة تغير المناخ: التضامن البشري في عالم منقسم». واشتمل على تفصيلات مذهلة لحجم التهديدات التي تشكلها ظاهرة الاحتباس الحراري. ويؤكد التقرير أن العالم يتجه الآن نحو نقطة فاصلة يمكن أن تلقي بالدول الأكثر فقرا في العالم ومواطنيها الأكثر فقرا في هاوية سحيقة، سيعاني نتيجة لها مئات الملايين من البشر من سوء التغذية وندرة المياه والتهديدات الايكولوجية والخسائر الهائلة في الأرواح.

وقد علق مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كمال درويش قائلا: «إن تغير المناخ يهدد البشرية بأجمعها، إلا إن الفقراء، وهم فئة ليس لها ذنب في هذا الدين الايكولوجي الذي تراكم على كوكبنا، هم الذين سيواجهون التكلفة الإنسانية الفورية والأشد خطورة لهذا التغير».

ويأتي التقرير في لحظة مهمة من المفاوضات الرامية لعقد اتفاقية متعددة الأطراف للفترة التي تلي العام 2012، وهو العام الذي يشكل تاريخ انتهاء العمل بفترة الالتزام الحالية من بروتوكول كيوتو، ويدعو التقرير لمدخل «مزدوج المسارات» يجمع بين إجراءات التخفيف لكبح مقدار الارتفاع في درجة الحرارة في القرن الواحد والعشرين إلى اقل من درجتين مئويتين وفي الوقت نفسه التعاون الدولي القوي من أجل تحقيق التكيف.

وفيما يتعلق بالتخفيف، دعا مؤلفو التقرير البلدان المتقدمة لكي تظهر ريادتها بخفض انبعاثاتها من ثاني أكسد الكربون بمقدار 80% على الأقل من مستويات العام 1990 بحلول العام 2050، ودافع التقرير عن فرض مزيج من الضرائب الكربونية، وإطلاق برامج الاتجار برخص إطلاق الانبعاثات ووضع اللوائح المنظمة لاستهلاك الطاقة وتحقيق التعاون الدولي في تمويل نقل التكنولوجيا منخفضة الاعتماد على الكربون.

وبالعودة إلى التكيف، يحذر التقرير من أن أشكال التفاوت في القدرة على مواكبة تغير المناخ باتت تدفع بشكل متزايد بتفاوت مناظر أوسع نطاقا بين وداخل البلدان المختلفة. ويدعو التقرير البلدان الغنية لكي تضع التكيف مع تغير المناخ في قلب اتفاقيات الشراكة الدولية المعنية بخفض الفقر.

وقد علق المؤلف الرئيسي كيفن واتكينز على هذا الأمر قائلا: «إننا نطلق دعوة للتحرك، وليس دعوة لليأس، فإذا عملنا معا بعزم وتصميم، فان بمقدرونا الفوز بالمعركة ضد تغير المناخ، بينما إذا أغلقنا على أنفسنا نوافذ الفرص فان هذا في حد ذاته سيعد فشلا أخلاقيا وسياسيا لا سابقة له في تاريخ الإنسانية، وقد وصف واتكينز محادثات بالي بأنها فرصة فريدة لوضع مصلحة فقراء العالم في قلب مفاوضات تغير المناخ.

ويطرح التقرير بعض الأدلة على الآليات التي ستنتقل من خلالها التأثيرات الإيكولوجية للتغير المناخي إلى الفقراء وبتسليط الضوء على أن هناك 2.6 مليار نسمة يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، يحذر المؤلفون من أن القوى التي سيطلق الاحتباس الحراري العنان لها من شأنها أن تشل ثم تؤدي لانتكاسة جميع أشكال التقدم التي تحققت على مدى الأجيال المتعاقبة ومن بينها التهديدات التي تواجهها التنمية البشرية، كما يحددها تقرير مكافحة تغير المناخ ما يلي:

- انهيار النظم الزراعية نتيجة زيادة التعرض لأحداث الجفاف وارتفاعات درجة الحرارة وتقلب أنماط هطول الأمطار، وبما يترك ما يصل الى 600 مليون شخص عرضة لخطر سوء التغذية. اما المناطق شبه القاحلة في مناطق جنوب الصحراء الكبرى التي تتسم بأعلى تركيز للفقر في العالم فتواجه خطر هلاك الإنتاجية الزراعية فيها بنسبة 26% بحلول عام 2060

- سوف يواجه 1.8 مليار شخص آخرون ندرة مصادر المياه حيث ستواجه مساحات هائلة من جنوب آسيا وشمال الصين أزمة إيكولوجية خطيرة نتيجة لانحسار الأنهار الجليدية وتغير أنماط هطول الأمطار.

- نزوح ما يقرب من 332 مليون شخص نتيجة للفيضانات والأنشطة الأعاصيرية المدارية في المناطق الساحلية وذات الأراضي المنخفضة حيث قد يتأثر ما يزيد على 70 مليونا من بنغلاديش و22 مليونا من فيتنام و6 ملايين من مصر بالفيضانات المرتبطة بالاحتباس الحراري.

- نشوء المخاطر الصحية مع تعرض ما يقرب من 400 مليون شخص لخطر الإصابة بالملاريا.

ويذهب مؤلفو تقرير التنمية البشرية بعد طرح النتائج المستمدة من عدد من الأبحاث الجديدة إلى القول إن التكلفة الإنسانية المحتملة والناجمة عن تغير المناخ قد تعرضت لقدر غير قليل من التهوين. وأشار المؤلفون إلى أن الصدمات المناخية مثل حوادث الجفاف والفيضانات والأعاصير، والتي ستصبح أكثر حدوثا وشدة مع تغير المناخ، تعد بالفعل من بين أقوى المسببات للفقر والتفاوت المعيشي وان الاحتباس الحراري سوف يزيد هذه التأثيرات ضراوة.

ويقول التقرير: «وبالنسبة لملايين البشر، ستكون مثل هذه الأحداث بمنزلة تذكرة ذهاب فقط إلى دوائر سحيقة طويلة الأمد من الفقر والحرمان». وبغض النظر عما تنطوي عليه تلك الأحداث من تهديد للأرواح ونشر المعاناة فإنها تأتي كذلك على هلاك الأصول والممتلكات وتؤدي إلى سوء التغذية وينجم عنها تسرب الأطفال من المدارس. وفي إثيوبيا وجد التقرير أن الأطفال الذين تعرضوا في طفولتهم المبكرة لحادثة من حوادث الجفاف كانوا أكثر تعرضا لسوء التغذية بنسبة 36% خلال السنوات الخمس التالية للجفاف - وهو رقم يعادل مليوني حالة إضافية من سوء تغذية الأطفال.

وفي الوقت نفسه الذي يركز فيه التقرير على التهديدات الوشيكة للتغير المناخي على فقراء العالم، فإنه يحذر من أن الإخفاق في التعامل مع تغير المناخ من شأنه أن يترك الأجيال المقبلة في مواجهة كارثة ايكولوجية ويسلط الضوء على الانهيار المحتمل للغطاءات الجليدية لغرب قارة أنتاركتيكا وانحسار الأنهار الجليدية وزيادة الضغط على الأنظمة البيئية البحرية باعتبارها تهديدات لها خطرها الدائم على الإنسانية.

ويقول درويش: «ثمة جوانب لا نستطيع الجزم بشأنها بالطبع ولكن في مواجهة مخاطر من هذا النوع والحجم، لا يجوز لنا أن نتخذ من عدم اليقين تبريرا للتقاعس وعدم التحرك. إن التخفيف الطموح لآثار تغير المناخ سيكون في الواقع هو التأمين الذي يتحتم علينا شراؤه في مواجهة المخاطر الهائلة المحتملة. إن تقرير مكافحة تغير المناخ يعبر عن التزامنا إزاء قضية التنمية البشرية اليوم كما يتناول خلق عالم يوفر الأمن البيئي لأطفالنا وأحفادهم.

تجنب تغير المناخ الخطير

يدعو مؤلفو تقرير التنمية البشرية الحكومات إلى وضع هدف جماعي لتجنب تغير المناخ ويدافع المؤلفون عن تحقيق حد أقصى قدره درجتان مئويتان فوق المستويات الحرارية الصناعية (حيث يبلغ المستوى الحالي 0.7 درجة مئوية).

واعتمادا على نموذج مناخي جديد، يقترح التقرير «ميزانية كربونية للقرن الواحد والعشرين» من اجل البقاء ضمن هذا الحد الأقصى وتحديد هذه الميزانية في صورة كمية المستوى الجمالي من غازات الانبعاث الحراري والذي يتفق مع تحقيق هذا الهدف، وفي رصد لنطاق وحجم التحديات المستقبلية يقدر التقرير أن الاستمرار على المعدلات الحالية يمكن أن ينجم عنه استهلاك النزعات الحالية لكامل الميزانية الكربونية للقرن الواحد والعشرين بحلول عام 2032 ويحذر المؤلفون من انه قياما على المعدلات الحالية، سوف يكون العالم اقرب لتجاوز حاجز الـ 4 درجات مئوية بدلا من البقاء ضمن حاجز الدرجتين المئويتين.

ويتناول تقرير التنمية البشرية بعض القضايا الحيوية التي تواجه المتباحثين في بالي. وفي الوقت الذي يقر فيه المؤلفون بالتهديد الذي يمثله تصاعد نسب الانبعاثات من أكبر البلدان المتقدمة، فإنهم يذهبون للقول إن على الحكومات الشمالية مهمة البدء في تحقيق أكثر نسب الخفض عمقا وتبكيرا وهم يشيرون إلى أن البلدان الغنية تتحمل مسئولية تاريخية هائلة عن المشكلة، كما أن بصماتها الكربونية لكل نسمة هي الأعلى في العالم، وفي الوقت نفسه فإنها ووحدها تمتلك الإمكانات المالية والتكنولوجية التي تعينها على التحرك.

وقد علق السيد واتكينز: «قائلا إذا قام السكان في العالم النامي بتوليد مستوى انبعاثات من ثاني أكسيد الكربون لكل نسمة يضاهي نظيره لدى السكان في شمال أمريكا فإننا سنحتاج حينها إلى الغلاف الجوي لثمانية كواكب مثل الأرض كي يتسنى لنا استيعاب العواقب فحسب.

ومستعينا بإطار العمل التوضيحي لمسار الانبعاثات المتفق مع هدف تجنب تغير المناخ الخطير يقترح تقرير التنمية البشرية ما يلي:

- ينبغي على البلدان المتقدمة خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري بنسبة 80% على الأقل حتى عام 2050 وبنسبة 30% بحلول عام 2020، وذلك بالنسبة لمستويات عام 1990

- ينبغي على البلدان النامية خفض انبعاثاتها بمقدار 20% حتى عام 2050 وذلك بالنسبة لمستويات 1990. وقد وجد المؤلفون قياسا على هذه المؤشرات أن الكثير من الأهداف التي وضعتها حكومات البلدان المتقدمة قد أخفقت في تحقيق ما هو مطلوب كما ينوه التقرير ككل الى ان معظم البلدان المتقدمة قد أخفقت في تحقيق حتى أكثر نسب الخفض تواضعا والتي يصل متوسطها إلى 5% عن مستويات 1990 والتي تم الاتفاق عليها بموجب بروتوكول كيوتو. وحتى عندما تم وضع أهداف طموح يذهب التقرير إلى أن قلة قليلة من البلدان المتقدمة هي التي استطاعت تحقيق أهدافها الوطنية الخاصة بالأمن المناخي، بما وضعته من سياسات ملموسة للطاقة.

إن السيناريوهات الموضوعة لمستقبل الانبعاثات تزيد من قوة التحدي الذي سيكون لزاما علينا مجابهته. فقياسا على المعدلات الحالية من المتوقع أن تزيد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 50% حتى العام 2030، وهي نتيجة سوف تجعل من تغير المناخ الخطير أمرا وشيكا لا مفر منه. وفي تعليق للسيد واتكينز يقول إن خلاصة الأمر هي أن نظام الطاقة العالمي حاليا لا يسير وفق الأنظمة البيئية التي تبقينا أحياء على هذا الكوكب، وسوف يتطلب تفادي ذلك إجراء تحول جذري في التشريعات الموضوعة والحوافز السوقية وحجم التعاون الدولي في هذه القضية. ويحدد تقرير مكافحة تغير المناخ مجموعة من السياسات المطلوبة لسد الفجوة بين البيانات الأمنية عن المناخ وبين سياسات الطاقة من اجل تجنب أخطار تغير المناخ، ومن بين أهم هذه السياسات:

- تسعير الكربون: يذهب التقرير إلى أن لدى كل من فرض الضرائب الكربونية وأنظمة الاتجار برخص إطلاق الانبعاثات دورا ليلعباه وسوف يكون الرفع التدريجي للضرائب الكربونية وسيلة أكثر من قوية لتغيير هياكل الحوافز التي تواجه المستثمرين كما ينبغي ان تستهدف الضرائب الكربونية مقترنة بضوابط الانبعاثات خفض الانبعاثات بنسبة 30% حتى عام 2020 كما يؤكد التقرير كذلك أن الضرائب الكربونية لا تتضمن بالضرورة عبئا ضريبيا إجماليا اكبر نظرا لأنه يمكن تعويضها من خلال خفض الضرائب على أجور العمالة.

- معايير تنظيمية أكثر قوة: يوجه التقرير دعوته إلى الحكومات بتبني وتعزيز معايير أكثر حزما على انبعاثات المركبات والإنشاءات والأدوات الكهربائية.

- دعم تطوير الطاقة منخفضة الكربون: يسلط التقرير الضوء على الإمكانات غير المستغلة في تحقيق زيادة في نصيب الطاقة المتجددة المستخدمة وفي استغلال التقنيات الحديثة مثل تقنية حبس الكربون وتخزينه.

- التعاون الدولي بخصوص نقل التكنولوجيا والتمويل: ينوه المؤلفون إلى أن البلدان النامية لن تشارك في اتفاقيات لاتطرح أي حوافز للمشاركة فيها وفي الوقت نفسه ترفع من تكاليف الطاقة بها ويذهب التقرير إلى ضرورة إنشاء مرفق لتخفيف آثار تغير المناخ لتوفير مبلغ يتراوح بين 15 و 20 مليار دولار سنويا لتمويل الاستثمارات المتراكمة في الطاقة منخفضة الكربون في البلدان النامية على نحو يتسق مع الأهداف المشتركة الخاصة بتغير المناخ.

ويدعم تقرير التنمية البشرية، بعض النماذج الاقتصادية التي طرحها الاكتشاف الرئيسي الذي ورد في تقرير ستيرن Stern Review. ويذهب التقرير للقول إن تكلفة تحقيق استقرار مستوى انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عند 450 جزءا في المليون يمكن قصرها على متوسط قدره 1.6% من الناتج الإجمالي العالمي حتى عام 2030 وفي هذا الصدد يحذر السيد درويش قائلا: هذه هي التكاليف الحقيقية، أما التكلفة الناجمة عن التقاعس وعدم التحرك فسوف تكون اكبر من ذلك بكثير سواء اقتصاديا أو اجتماعيا أو إنسانيا ويشير التقرير إلى أن تكلفة تجنب تغير المناخ الخطير تمثل اقل من ثلثي الإنفاق العالمي العسكري الراهن.

إن أحد أكثر الدروس إيلاما ووقعا على النفس التي يعلمها لنا تغير المناخ هو أن النمو الاقتصادي المتسم بالاعتماد المكثف على الكربون كما هو ثابت تاريخيا وكذلك حجم الاستهلاك التبذيري في البلدان الغنية الذي صاحب هذا النمو هي كلها أمور لا تحقق الاستدامة للبيئة ولكن يذهب المؤلفون للقول إنه عند تحقيق الإصلاحات الملائمة فعندها لن يفوت الأوان من اجل خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحرارية إلى مستويات مستدامة دون التضحية بالنمو الاقتصادية حيث إن رفع مستوى الرخاء وتحقيق الأمن المناخي في الوقت ذاته ليسا بالهدفين المتعارضين.

 

أحمد الشربيني 





انهيار النظم الزراعية يهدد بعودة التصحر إلى الأرض الخصبة





 





انحسار الأنهار الجليدية سوف يقلل من مصادر المياه في مساحات شاسعة من آسيا





استمرار تلوث البيئة يهدد بارتفاع ظاهرة التلوث الحراري





لاتزال ابحاث الطاقة الشمسية قاصرة عن توفير الطاقة التي يحتاجها الانسان





أعداد كبيرة من البشر لا تظفر بالماء النقي الصالح للشرب





والكثير من البشر يعيشون وسط مستنقعات لا تصلح للحياة الآدمية