الوجه الآسيوي للعولمة

الوجه الآسيوي للعولمة

العولمة كلمة تردد صداها كقرع الطبل المدوي ليؤذن بأن العالم على أعتاب عصر حراك سريع غير مسبوق من حيث المحتوى والمضمون والأدوات، بل ونحو إنسان جديد.

تمثل العولمة اتجاهًا شاملاً طاغيًا ومن ثم قوة عالمية النطاق من شأنها أن تؤثر جوهريًا في جميع الاتجاهات الكبرى الكوكبية في العالم. وأن البشرية بذلك موعودة بفردوس جاوز حدود الخيال، وأصبحت العولمة الأمل والمصير الذي لا ردة عنه بحكم الأمر الواقع، فإن التقدم العلمي والتكنولوجي لم يرتد يومًا في تاريخ الإنسانية إلى سابقه، إذ يحكمه مبدأ سهم الزمان المنطلق إلى الأمام، وإن اقترن مع تداول مراكز التقدم بتداول ثنائية الخير والشر، الهيمنة والتبعية، ومن ثم نفاذ قانون أو مبدأ صراع الوجود.

لذلك، بدت العولمة بشيرًا لأصحاب السيادة العلمية والتكنولوجية، وبشيرًا أيضًا لمجتمعات قبلت التحدي والمزاحمة. غير أنها بالقطع، وعن يقين، نذير لمن تقاعس وتخلف عن الركب أو رأى فردوسه غير الفردوس الذي يبشر به علماء العصر. وسادت بين هؤلاء مقولة يائسة، العولمة صناعة أمريكية مرفوضة، وهي مقولة صحيحة مرحليًا، وقنعوا بمقولة رفض «الشيطان» دون فعل التطوير والتحدي.

ولكن ثمة تساؤلات كثيرة هي من أهم دروس التاريخ، لقد وعدنا التنوير الأوربي بسيادة عصر العقل وبشَّر بالفردوس، ولكن ها هو العقل الغربي ذاته يراجع نفسه منتقدًا إخفاقاته وانحيازاته، فهل ما يمكن أن نسميه أيديولوجيا العولمة، تمييزًا لها عن العولمة كتجليات علمية تكنولوجية، مصيره بعد قرن أو أكثر عود إلى المراجعة وكشف لأسباب الأخطاء والخطايا؟ هل يمكن، وقضايا العالم الآن تجري وتتفاعل في شفافية وعلى الصعيد العالمي كله، أن تسير أحداث الحراك العالمي على غير

ما هو قائم الآن، ويجري تداول أو تعدد لمراكز الإنتاج العلمي والتكنولوجي ومراكز التحكم المالي... إلخ، على عكس عصر المركزية الغربية؟ أو هل يمكن أن تفلت الأحداث من قبضة الإنسان المتقدم، وإذا الفردوس المنشود ينقلب إلى جحيم؟ وهل نحن على أعتاب تحول لنشأة مجتمعات جديدة هي مجتمعات ما بعد المعلوماتية تمييزًا لها عن مجتمعات ما قبل المعلوماتية التي انصرفت عن التحدي في الإبداع والإنتاج وقنعت بالتبعية والاستهلاك شأن ما يوصف الآن بمجتمعات ما قبل التاريخ؟

يجمع الباحثون على أن النظام العالمي يعيش مخاض تحول جذري عميق، وأن العالم منذ نشوء منظومة التحالف الغربي عام 1949 لم يشهد حالة سيولة كما هي خلال العقدين الأخيرين. وجرت محاولات وضع سيناريوهات مختلفة تتنبأ بالمستقبل القريب. وتؤكد جميعها أن الولايات المتحدة ستواجه تحديات دولية كبرى تختلف عما تواجهه الآن. وهذه التحولات نتيجة ضخامة حجم وسرعة التغيرات الناجمة عن عالم يتعولم. ويناقشون قضايا ومحاور جديدة ومنطق الحراك العالمي.

العولمة والمنافسة

ويؤكد التوجه العام للسيناريوهات أن غالبية البلدان ستستفيد من الاقتصاد العالمي المتطور المتنامي ولكن بشروط:

1 - أن تملك مكانة في العلم والتكنولوجيا إبداعًا وتطويرًا معرفيًا وتقانيًا.

2 - توفر نظام حكم ديمقراطي ومؤسسات ديمقراطية.

3 - تعزيز وتطوير رأس المال البشري، أي النهوض بالإنسان وبثقافته ليكون على مستوى التحدي المنشود من حيث التعليم العصري والقدرة الإبداعية العلمية والفعالية الحرة الاجتماعية والإنتاجية والمشاركة السياسية وحرية الاتصال وتدفق وتلقي واستثمار المعلومات في شفافية على صعيد كوكبي واختيار المستقبل.

4 - أن تحوز المجتمعات الصاعدة أكبر عدد من المؤسسات الإنتاجية العالمية المنتجة لأهم الصناعات.

5 - أن تمثل أسرع سوق استهلاكية متنامية.

ويمكن لمثل هذه البلدان أن تعبر قفزًا، شأن قفزات الضفدع، مراحل التنمية، وتتخطى المراحل التي اضطرت البلدان المتقدمة إلى عبورها. وهنا تتجه الأنظار إلى بلدان شرق وجنوب آسيا، وبخاصة الصين والهند، فهما مهيأتان جيدًا لتصبحا رائدتين في مجال العلم والتكنولوجيا. ثم هناك أندونيسيا وكذا البرازيل. إذ إن هذه بلدان قبلت التحدي واستوعبت حقيقة العولمة كمعلم حضاري أساسه العلم والتكنولوجيا وفعالية الإنسان. بينما بلدان الشرق الأوسط غائبة عن الساحة.

الصين والهند والمستقبل القريب

وتشير غالبية التنبؤات إلى أنه بحلول العام 2020 سيكون إجمالي الناتج القومي الصيني أكثر من الناتج القومي لأي من البلدان الغربية باستثناء الولايات المتحدة، كذلك الهند. وهنا يبرز سؤال: كيف ستمارس الصين والهند قوتهما المتنامية في السياسة والاقتصاد، وهل سيتعاملان على أساس من التعاون أم المنافسة مع القوى الأخرى في المنظومة العالمية؟ وسوف ينتفي التصنيف القديم :شرق وغرب، أو شمال وجنوب.

وسوف ينشأ طريقان يتناميان باطراد أخذًا وعطاء بين البلدان الصاعدة والمتقدمة أو الصاعدة والغرب.

1 - دفق القوة الإبداعية للتكنولوجيا العليا أو ما يسمى High - tech Brain Power.

2 - تزايد حجم قوة العمل التي تجيد العمل على معلومات الحاسوب.

3 - جهود المؤسسات الصناعية الكوكبية لتنويع عملياتها الخاصة بالتكنولوجيا العليا، مما يساعد على انتشار التكنولوجيات الجديدة والاختراعات العلمية التكنولوجية.

وحسب منطق التطور الرأسمالي، فسوف تتجه الشركات الصناعية الكبرى إلى حيث توجد الأسواق الأوسع والأرباح الأوفر من منطلق سياستها ورؤيتها. كذلك ستتزايد أعداد الشركات الكوكبية التي تتميز بدينامية الحركة والتنوع الأكثر من حيث الحجم والنشأة، وهذه ستغلب عليها صفة الآسيوية، وهو ما يؤدي إلى نشوء توجهات جديدة ومؤثرة سياسيًا واقتصاديًا.

هجرة الشركات إلى السوق

إن غالبية الشركات متعددة القوميات ستتجه أكثر فأكثر إلى أن تكون خارج سيطرة دولة بذاتها، وستكون عاملاً مهمًا في التغيير ونشر التكنولوجيا لدعم وحدة الاقتصاد العالمي.

وطبيعي أن يتمركز عدد كبير منها في البلدان الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل. وهنا سوف تأخذ العولمة طابعًا غير غربي خالص وسيكون لآسيا الصاعدة وربما أمريكا الجنوبية (البرازيل) حضورهما على الساحة بقوة مؤثرة، أي تقترن العولمة في الذهن بآسيا الصاعدة أيضًا، وليس بأمريكا وحدها أو بفكرة أمركة العالم.

ويرى المراقبون أن الثورة التالية في التكنولوجيا الراقية والتي تتضمن تلاقي تكنولوجيا النانو Nano - tech، والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا المواد الجديدة، يمكنها أن تعزز توقعات الصين والهند. ذلك أن هذين البلدين يستثمران جيدًا في حقل البحوث الأساسية في هذه المجالات، وهما في وضع يسمح لهما بالريادة في عدد من المجالات الأساسية. وأكثر من هذا أن أوربا تعيش مخاطرة التراجع إلى خلف آسيا بالنسبة لبعض هذه التكنولوجيات. ولكن ستبقى الولايات المتحدة في وضع القيادة، ولكن في موضع المنافسة.

والملاحظ أن بلدان شرق وجنوب آسيا عمدت إلى زيادة ميزانيات البحوث والتطوير الأساسية في مجال العلم والتكنولوجيا، بل وإعادة تنظيم وتطوير نظام مؤسسات البحث العلمي وتهيئة الفرص للتفاعل بين علمائها والمؤسسات العلمية الكبرى العالمية. وسوف تستمر آسيا قوة جذب للتكنولوجيا التطبيقية من كل أنحاء العالم بما في ذلك تكنولوجيا الذروة العصرية التي تدعم تطورها.

وبناء على هذا، من المتوقع أن يستخدم عمالقة آسيا الجدد قوة أسواقهم لتحديد معايير الصناعة بما يخالف معايير الغرب، بل وأيضًا لإعادة تشكيل نظام حقوق الملكية الفكرية الدولي وفقًا لرؤى سياسية وفكرية واقتصادية جديدة.

العولمة ظاهرة متحركة

ويؤكد هذا أن ظاهرة العولمة ليست ظاهرة ثابتة، وإنما هي شأن أي منظومة لها بداية وحركة ومسار ونهاية، وتحكم حركتها عوامل فاعلة داخل ساحتها من الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والشركات... إلخ، وهذه عوامل متغيرة بحكم تفاعلاتها ومنطلقاتها ورؤاها، ولذا ستعمل على صياغة وإعادة صياغة المحيط العام لها.

لهذا فإن صعود آسيا سيؤدي إلى استمرار إعادة صياغة العولمة، ويكسبها خاصية جديدة. كذلك ستغير آسيا من قواعد عملية العولمة. إذ إن آسيا ستمتلك أسرع أسواق الاستهلاك نموًا، ومزيدًا من أكبر وأهم الشركات متعدية القومية، وقدرًا أعظم من المكانة العلمية والتكنولوجية، وبهذا ستكون آسيا محور الدينامية الاقتصادية الدولية كما يتوقع المراقبون، شريطة اطراد النمو الاقتصادي في آسيا.

وجدير بالذكر أن بزوغ العولمة في إطار الهيمنة الأمريكية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وتقدمها دون منافس في مجالات العلم والتكنولوجيا أثار مخاوف ومعارضة. وسمعنا تنديدًا هنا وهناك، عن حق، بما اصطلح على تسميته «أمركة» العالم، باعتبار هذا النهج هو محتوى وجوهر العولمة كما يتجلى في سياسات الإقراض والصناعات وشيوع القيم الثقافية الأمريكية.

وأجج هذا من مشاعر المناهضة لما هو أمريكي حتى داخل أوربا. مثال ذلك أن وزير الثقافة الفرنسي وصف مشروع ديزني لاند في باريس بأنه تشيرنوبل الولايات المتحدة في أوربا، في إشارة إلى كارثة مفاعل تشيرنوبل.

ونجد موقفًا على النقيض داخل الولايات المتحدة نفسها. إذ يرى البعض أن تقدم بلدان شرق وجنوب آسيا مع امتلاكها لأسواق استهلاكية ضخمة مع سياسة حضانة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، بمعنى أن يكون المجتمع حاضنة للعلم والتكنولوجيا وللصناعة، سيؤدي كل هذا إلى هجرة الشركات الكبرى إلى شرق وجنوب آسيا حيث تنافس الطائرة بوينج المصنوعة في الصين، كمثال، الطائرة بوينج المصنوعة في الولايات المتحدة. علاوة على هذا فإن الشركات الكبرى ستنزع إلى التجاوب مع ثقافات أسواق الاستهلاك المتنامية في آسيا. وسوف يغير كل هذا من طبيعة الموقف والظرف العالمي.

وواقع الحال أن دول شرق وجنوب آسيا تدرك أبعاد الموقف. وإذ تعمل على تطوير طاقاتها وإمكاناتها ورأسمالها البشري في الداخل، أي تأكيد أهليتها للظرف الكوني الجديد، تعمل أيضًا على خلق مؤسسات ومنظمات دولية منافسة لما هو قائم ومتجاوبة مع رؤيتها وفلسفتها. وتشير دراسة في هذا الشأن، صادرة عن مجلس المخابرات القومي الأمريكي National Intelligence Council في فبراير 2005، إلى جهود مجموعة بلدان آسيان واتفاقياتها الاقتصادية والسياسية، كمثال على التوجه الجديد. ونذكر كذلك فكر وزراء مالية آسيا في تأسيس صندوق نقد آسيوي يعمل وفق سياسات مختلفة عن سياسة صندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. من ذلك ألا يعتمد كثيرًا على المقايضة المالية، وأن يعطي القرار الآسيوي قدرًا أكبر من السماح الذي يسمح «توافق آراء واشنطن بشأن الاقتصاد الكلي»به الذي يلتزم به صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهكذا تكون لآسيا كلمتها. وأكثر من هذا أنه ستكون للبنوك المركزية في آسيا بعد عقدين قدرة على إصدار قرارات تحدد أسعار الفائدة مما يؤثر في أسواق المال العالمية الأخرى، بما في ذلك نيويورك ولندن.

هوية ثقافية جديدة

وبدأت الهيمنة الثقافية الأمريكية تواجه منافسة مع قدرات ثقافية بازغة سوف يتسع نطاقها في إطار العولمة. إذ بدأ يتسع نطاق هوية ثقافية آسيوية - أو لنقل ثقافة محورية آسيوية سيكون لها تدريجيًا أعمق الأثر الناتج عن آسيا الصاعدة. ولنا أن نقول إن العالم ينتظر وليدًا ثقافيًا عالميًا جديدًا بفعل التداخل والتفاعل بين البلدان، وبفعل تقدم وسائل وتكنولوجيا الاتصالات داخل إطار حضارة واحدة عالمية النطاق.

ويلاحظ أن بعض بلدان آسيا بدأت تقلل عدد أعضاء بعثات طلابها إلى أوربا وأمريكا وتكثف من بعثاتها إلى اليابان، بل وأصبحت الصين أيضًا قوة جذب علمي. وتحاول بلدان آسيا سد النقص الذي تعانيه الولايات المتحدة في مجالات التعليم والبحث العلمي.

وجدير بالذكر أن بعض معلمي الرياضيات في الهند يدرسون الرياضيات لطلاب الولايات المتحدة عبر الإنترنت نظرًا لنقص عددهم في الولايات المتحدة. وغير خاف أيضًا جهود بلدان شرق وجنوب آسيا في تعلم اللغات الأجنبية سواء لتحصيل العلم- الإنجليزية مثلاً - أو لتأكيد اتصالهم وحضورهم الاقتصادي والثقافي في بلدان أخرى - العربية مثلاً.

وثمة هويات ثقافية آسيوية بازغة بدأت تمثل صراعات ثقافية في العالم، مثل مغني البوب الكوريين Korean Pop، والرسوم المتحركة اليابانية، وسينما الكونج فو الصينية، وملاحم بولي وود للرقص والغناء الهندية، والتي تتأثر بها الآن هوليوود.

بيد أن منافع العولمة لن تكون حقًا مشاعًا شاملاً على النطاق الكوكبي، إذ لن يفيد بها المتواكلون المعتمدون على الآخر.وإنما هي فعل كوكبي شبكي نشط متبادل على المستوى الفكري/ المعرفي، والإنتاجي... وإنما ستنتفع به وتفيد منه البلدان التي تستثمر الفرص التي تتيحها السوق الكوكبي الصاعدة، وتملك أفضل السبل لتأكيد مكانتها وقدرتها على الساحة العالمية بفضل استثماراتها المنافسة في مجال البحوث الأساسية للعلم والتكنولوجيا.

 

شوقي جلال