فلسفة الوسطية الفضائل والحدود

فلسفة الوسطية الفضائل والحدود

الوسطية ظاهرة إنسانية لها جذورها في التكوين الأساسي للإنسان، لها مظاهر عدة في الطبيعة، ولها وظائفها ومنافعها وفضائلها في كثير من ميادين النشاط الإنساني، ولكن لها حدودًا مع كل ذلك.

تشير «الوسطية» مباشرة إلى معنى الاعتدال، ومن ثم إلى معنى الاستقامة «والعدل»، ولا يمكن أن يفهم منها معنى «الحياد» بأي حال من الأحوال. وبصفة عامة، فإن المعنى المكاني للتوسط يشير إلى الجانب الكمي من الأمور، بينما المعنى التقويمي له يشير إلى الجانب التقديري والكيفي منها، وهو المتضمن في التعبير المعروف «الوسط العدل» عند الحديث عن نظرية معينة في طبيعة الفضائل، كما أن معنى الاعتدال الأساسي هذا إنما ينهض على قاعدة من المعنى المكاني للتوسط بين طرفين، كما أنه يؤدي من جهة أخرى إلى الانتباه إلى معنى مختلف بعض الشيء، ولكنه متصل بالاعتدال الكيفي وبالتوسط المكاني معًا، ألا وهو معنى «الاتزان» الناتج عن «التوازن». والنتيجة النهائية هي أن لفظ «الوسطية» يستثير في الذهن معاني أربعة تتتالى: الاعتدال والاستقامة والاتزان والتوازن، وهذه الأربعة بدورها لا تفهم إلا في إطار من مفهوم أعلى وأعم، ألا وهو مفهوم النظام، الذي يتولد عنه معنى الانتظام، وبهذا يكون للوسطية دائرة مكونة من المعاني الأربعة الأولى، وإطار هو إطار النظام والانتظام.

وقد أشرنا إلى أن التوسط لا يعني «الحياد»، لأنك لابد أن تنحاز إلى ما هو حق وصواب ومدر للمنافع، وأمام هذه المعايير، فإنك لن تستطيع أن تكون «محايدًا». كذلك، فإنه لا يعني القيام بعملية ما أو إنشاء تركيب ما بطريقة لصق المتنافرات بزعم الأخذ من اليمين ومن اليسار سواء بسواء، فليس التوسط والوسطية أخذًا بطرف من كل شيء بغير تمييز، وإنما هو دائمًا أخذ بالمصالح وتركيب للأمر المعين على النحو المتفق مع طبيعته، ولكن في حدود الكافي والمناسب وبلا إفراط بالزيادة ولا تفريط بالنقص. أخيرًا، فإن هناك معنى يعلو على التوسط ويحكمه، وربما كان من معايير الحكم الإيجابي على نتائجه: ذلك هو معنى «الإحسان»، وهذه الكلمة لا تؤخذ هنا بمفهوم «الصدقة» أو «الجود» وما شابه، بل بمفهوم «الإجادة»، وفي كثير من الآيات القرآنية حول «أحسنوا» و«المحسنين» فإن هذا يكون هو المقصود وليس التصدق. وبعبارة أخرى، فإن من شروط قبول التوسط أن يؤدي إلى نتائج متقنة أجيد العمل في صددها فتؤدي إلى قيام المنافع المشروعة.

ضد المغالاة

وربما لاحظ القارئ أن التوسط والوسطية يكونان في أداء العمليات بأنواعها من جهة، وفي إنسشاء التراكيب والكيانات على أشكالها من جهة أخرى. ومثال الجانب الأول بذل جهد ما، في الأكل أو في الرياضة أو في الدرس أو في الترفيه عن النفس وغير ذلك، دون ما زيادة ولا تقصير، ومثال الثاني بناء بناية ما أو إنشاء نظام للضرائب أو غير ذلك، وفي حالة لم يراع التوازن بين مكوناته، فإن كل بناء لم يقم على التوازن المناسب سيكون مصيره إما الانهيار، ولو بعد حين، أو إنتاج الضرر الظاهر العظيم. ومن المفهوم أن التوسط المطلوب ليس هو ما يكون على صورة «الوسط الحسابي» أو الكمي، بل هو «الوسط المناسب» لمقام: فإذا تبرع الشخص الذي يمتلك ألف دينار، بثلاثين - مثلاً - أو بخمسين لغرض من أغراض الخير كان يسير على اتجاه الوسطية، لكنه لا يكون كذلك إن تبرع بخمسمائة أو بدينار واحد، أي في اتجاهي الإفراط والتفريط. إن إطار التوسط هو دائمًا تحقيق المصالح بلا إضرار لا بالذات ولا بالغير ولا بما نقوم به من عمليات ومنشآت. ولنأخذ مثالين: الأول من التربية، فكلّ من الإفراط في الاهتمام بالطفل والتقصير في إظهار الحب والرعاية له مضران به، والثاني من تاريخ السياسة والحرب: حيث يتفق جمع من المؤرخين الثقات على أن إسراف «الحلفاء» المنتصرين في «الحرب الأوربية الكبرى» الأولى (1914 - 1918م) (وهكذا كان اسمها الرسمي عندهم حتى تغيرت التسميات عام 1945م) في تقييد ألمانيا بشتى القيود بهدف إذلالها وفي فرض تعويضات مالية هائلة عليها لمصلحة الحلفاء المنتصرين، هذا الإسراف يرى أولئك المؤرخون أنه كان من الأسباب المباشرة لقيام الحركة النازية بزعامة هتلر بعد ذلك بعشر سنوات فقط وهو ما أدى إلى المجزرة الأوربية العظمى التي سميت باسم «الحرب العالمية الثانية» (1939 - 1945م) بعد ذلك بنحو عشر سنوات أخرى.

إن التوسط والوسطية هما الضد التام لاتجاه المغالاة إن إيجابًا أو سلبًا، وكذلك لاتجاه السطحية الذي شعاره: «من كل بستان زهرة»، وهما أيضًا ضد كل من الاندفاع والبلادة، وكل من الحماس المغرق والعجز المفوت للفرص.

من الأدنى إلى الأعلى

والآن، وبعد أن طوفنا على الأصل اللغوي للوسطية وعلى معنى مفهومها، فلنذهب في اتجاه أعمق بعض الشيء، أي نحو استجلاء الأسس التي يقوم عليها هذا الاتجاه والموجهات الأولى التي توجه الذهن والسلوك نحوه، وذلك في العالم والوجود من جانب، وعند التكوين الإنساني الأساسي من جانب آخر. إن الطبيعة تتكون من أشياء وعمليات وعلاقات، وجميعها يحكمها مبدأ التناسب. فتركيب أي شيء ينبغي أن يكون متوازنًا في ذاته، ومناسبًا لأغراضه ووظيفته، وعمليات الطبيعة تبدأ دائمًا من الأدنى إلى الأعلى بحسب منحنى ما أو خط سير معين بحيث تكون نسبة هذا إلى ذاك مساوية على التقريب للوسط بينهما. وأما العلاقات فإنها النموذج التجريدي للتناسب والتوازن، وهي تظهر على أخلص ما تكون في القوانين الطبيعية، وكل هذه المعاني تؤدي بالضرورة إلى معنى الاعتدال الذي هو قلب التوسط كما رأينا. ثم انظر إلى الأمثلة البارزة من توزيعات الطبيعة وعملياتها تجد تأكيدًا على التناسب والتوازن والاعتدال، ومن ثم على التوسط والوسطية في داخل الطبيعة نفسها: إن الطبيعة تمتد بالضرورة في مكان وفي زمان، وفي كل منهما بداية ونهاية ووسط، أو فلنقل بالأدق: أطراف من جهة ومن الأخرى ثم ما بين الطرفين، وعادة ما يكون أقوى الأمر مكانًا وزمانًا هو أوسطه. ثم انظر إلى بعض عمليات الطبيعة، لتجد أن هبوب الرياح والأعاصير وحركات الموج وما شابه تتبع هي الأخرى منحنى مشابهًا، فهي تبدأ شيئًا قليلاً ثم تصل تدريجيًا إلى قمتها لتعود إلى انحسار تدرجي يكاد يكون موازيًا تمامًا لتقدمها الأول عند بدايتها، وكذلك الحال مع نمو النبات شيئًا يسيرًا ثم وصوله على قمته عند الإثمار - مثلاً - ثم اضمحلاله حتى لتصير الشجرة المثمرة جرداء، وهكذا الحال أيضًا ما بين فترات النهار وفترات الليل وأول الصحراء وآخرها وبدايات السهول ونهاياتها ومجاري الأنهار: كلها تتقدم من بدايات يسيرة لتصل إلى أوجها وقمتها عند توسط عملياتها أو تشكيلها ثم تعود القهقري من جديد وكأنها في نهاياتها تشابه ما ابتدأت عليه.

ثم انظر إلى الإنسان في تكوينه وأعضائه وعملياته وعلاقاته، تجدها تشي جميعًا بالتوازن والاعتدال والتوسط، إن منحنى حياة الفرد الإنساني يبدأ من الميلاد وينتهي بالموت، وبينهما تقف فترة الإنتاج الأقوى، وهي في العادة، أو «في المتوسط» الإحصائي، تقوم ما بين الثلاثين والخامسة والأربعين بحسب مستوى أعمار هذه الأيام، وكذا الحال مع عمليات أساسية نجدها تتبع «المنحى» العام نفسه، الذي يبدأ على مستوى السطح ليتجه نحو القمة، ليعود منها إلى الانحدار من جديد إلى مستوى السطح الأصلي: فهكذا الحال مع حالة التشبع ومع حالة الهضم، ومع عمليات شرب الماء - مثلاً - وعملية أكل الطعام نفسها سواء بسواء، وكذلك مع امتداد فترة النوم من بدايتها إلى نهايتها مع ما يسمى في الوسط بـ «النوم العميق».

عمر الحضارة

وهذا المنحنى نفسه، لا يتبعه وحسب عمر الإنسان الفرد وعملياته الأساسية، بل وكذلك عمر الإنسان الاجتماعي، أي «المجتمع» أو «الاجتماع» وثقافته وحضارته: فللمجتمعات وحضاراتها أعمار، ولها بدايات ثم فترة الأوج حيث القوة والمجد، ثم تصير كل المجتمعات وكل الثقافات إلى مصير محتوم هو الشيخوخة ثم التحلل حتى الموت. (لاحظ هنا أن المجتمع شيء ومحض سكانه أو أعضائه البشر شيء آخر). وكذلك الحال مع العمليات الجمعية مثل الحروب وإنشاء التنظيمات السياسية والقانونية والاقتصادية الكبرى: فكلها تتبع دورات في وسط كل دورة منها تبلغ العملية أو التركيب أقصى قوته، ثم تدور الدوائر بالحتم في الاتجاه النازل. وكذا الأمر في تكون الإنسان عمومًا، وفي أعضائه خصوصًا: فهناك تناسب دقيق بين وزن الرأس ووزن بقية الجسم، وذلك على امتداد عمر الفرد وبحسب حجم جسمه ووزنه الكلي في كل مرحلة. والأمر نفسه مع تشكيل اليد الإنسانية مأخوذة ككل، ولك أن تتصور النتائج لو كانت أصابعنا أضخم أو أطول، أو بالعكس أصغر كثيرًا أو أقصر، بالقياس إلى بطن اليد وإلى التشكيل الكلي لها، وكذا الحال مع الأقدام والسيقان، وأحجام سائر أعضاء الجسم، وعند تجاوز التناسب، أو التوسط والاعتدال، نصير أمام ما يسمى بـ «المرض». إن الطبيعة ترغمنا على التوسط، فمَن يأكل إفراطًا يقول: تكاد معدتي تنفجر! والرضيع نفسه يترك حلمة الثدي ما إن يكتفي من الرضاعة، ومَن يعمل مستيقظًا بلا نوم لفترة تزيد على الطبيعي يغشاه النوم غصبًا عنه، وهكذا وهكذا، وإنه لمن المفهوم أن نسبة الاعتدال والتوسط تتوقف على الموقف المعين والسياق والإطار.

وليست الطبيعة وحدها هي التي تدفعنا إلى اتخاذ طريق الوسطية، وذلك من خلال التكوين الإنساني الخاص وكذلك قوانين النشاط وقدرات الجسم، وما يسمى في علم وظائف الأعضاء وفي علم السلوك الفردي («علم النفس») بـ «العتبة» (أي أن هناك حدًا أدنى وحدًا أعلى لا يقوم النشاط لا قبل ذاك ولا بعد هذا، ولكن في ما بينهما وحسب، فنعود هكذا إلى معنى «الوسط»، ولكنه هنا ليس الوسط المكاني، بل الوسط الديناميكي)، ولكن يدفعنا إليه أيضًآ محدودية الموارد من جهة، ووجود الغير في حياتنا من جهة أخرى، هذا الغير الذي هو إنساني في الأغلب، ولكنه حيواني كذلك إلى درجة ما لا نستطيع تفاديها تمامًا، لأن الحيوانات هي شركاؤنا على الأرض. فانظر - مثلاً - إلى الأسرة تتجمع حول الطعام: إن كل فرد منها مساق سوقًا إلى الاعتدال في كمية ما يأخذه لأن هناك غيره من حوله يتطلع إلى نيل نصيبه العدل هو الآخر، ولو حدث خروج على الاعتدال والتوسط في أخذ الأنصبة فلسوف يظهر النزاع ثم الصراع، ثم انظر من جهة أخرى إلى الدعوات البارزة هذه الأيام من أجل حماية بعض فصائل الحيوان المهددة بالانقراض نتيجة لإفراط العدوان البشري عليها، وخاصة من جانب الحضارة الغربية، ومنها فصائل الفيلة والحيوانات القططية، وبالأخص النمور والفهود، وغيرها، فإنك عند التأمل تجد أن سبب هذه الدعوات هو الإفراط في قتل أمثال هذه الفصائل بالقياس إلى المعدلات السابقة قبل مائة عام - مثلاً - أو قبل خمسين.

قانون عام

إن مبدأ التوسط واتجاه الوسطية يبدو لنا، إذن، وكأنه قانون عام من قوانين الطبيعة والإنسان، ويمكننا انطلاقًا منه أن نفسر بعض الظواهر الإنسانية في الحضارة والعدوان والحرب والأدب والدين جميعًا، وغيرها من غير شك، ولكننا نشير إلى هذه الظواهر المعينة التالية لأنها تحيط بنا على نحو أو آخر.

أما الحضارة، فإن كل حضارة من حضارات الإنسان، وهي بالآلاف، يكون لها بداية ووسط ونهاية، ووسط كل حضارة هو قمة قوتها وازدهارها، فإذا أخذت الحضارة الإسلامية التقليدية - مثلاً - وجدت بداياتها تمتد مدة مائتي سنة، ووسطها نحو سنتين آخريين، أي منذ عام 200هـ تقريبًا، ثم تأخذ في الضعف شيئًا فشيئًا على التدريج حتى لتصير كأنها جسد بغير روح في مئات السنين السابقة على إعلان اكتمال دورتها نهائيًا ورسميًا، أي بإلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م. والحال كذلك مع الحضارة الغربية، حيث نشأت في عصر النهضة الأوربية (1450 - 1600م)، وتكونت في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، بينما وصلت إلى قمة ازدهارها منذ الثورة الفرنسية 1789م، (وإذا كانت قد سبقتها بقليل كذلك كالثورة الأمريكية ودستورها، إلا أنهما كانا في الأطراف البعيدة من الحضارة الغربية آنذاك)، وفي خلال القرن التاسع عشر الميلادي. وحوالى منتصفه إلى بدايات ثلثه الأخير كانت حركة التوسع الأوربي، أي «الاستعمار»، قد وصلت إلى أقصاها، وبالأخص مع بريطانيا وفرنسا، وكذلك بلجيكا إلى درجة أقل، وغيرها من أمم الغرب الغازية، وما إن يبدأ القرن العشرون الميلادي حتى يأخذ الانهاك والضعف والأمراض الحضارية بأنواعها طريقها جميعًا شيئًا فشيئًا إلى جسم الحضارة الغربية، حتى ليمكن أن نعتبر عام 1914م، عام بداية «الحرب الأوربية الكبرى» الأولى، حيث قتل الأوربيون بعضهم بعضًا بالملايين، وخرجوا جميعًا ضعفاء منهكين بمن فيهم المنتصرون أنفسهم، عام بداية انهيار الحضارة الغربية.

مغامرات غير محسوبة

ولنأت إلى الحروب والعدوان لنتبين فيهما أيضًا أن الإفراط والمغالاة هما السبيلان المؤكدان نحو الفشل النهائي. فلنأخذ - مثلاً - أهم حربين أوربيتين في القرن التاسع عشر ثم في القرن العشرين الميلاديين، وبإزاء بلد واحد هو روسيا. فقد صال وجال الإمبراطور نابليون، وريث الثورة الفرنسية كلها، في أرجاء أوربا، ولكن لم تُظهر له الخضوع دولتان كانتا في مجال بصره الاستراتيجي: بريطانيا العظمى المحتمية بالبحر وبأسطولها صاحب الشهرة، وروسيا ذات الامتداد والخطر. ويقول المؤرخون الاستراتيجيون إن نابليون كان بوسعه الدفاع إلى درجة مقبولة عن نجاحاته في الدول المحيطة مباشرة بفرنسا: أي إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وفي هذه الحالة فإنه يكون قد اتخذ سبيل الحيطة والحذر، الذي هو سبيل «التوسط»، بالابتعاد عن المغامرات غير المحسوبة النتائج، ولكنه ها هو ذا يتجه إلى أقصى أطراف الشرق الأوربي، ويغوص جيشه في أوحال البراري والسهول الروسية، وحين يأتي الشتاء الروسي القاسي تصبح الإمدادات الفرنسية شحيحة أكثر وأكثر، وتدب الأمراض في أجسام الجنود، وتهبط روحهم المعنوية هبوطًا شديدًا، حتى يمكن اعتبار الحملة الروسية الفاشلة هي العامل الأهم في نهاية أسطورة نابليون ككل، وإن جاءت إنجلترا الماكرة في النهاية لتجهز عليه بالضربة القاصمة، ولتفوز بأعظم المكاسب في مؤتمر فيينا الشهير عام 1814م. لقد فات حس التوسط ذهن نابليون فقضى عليه. وكذلك الحال تمامًا، وبإزاء العقبة الروسية الكأداء نفسها، مع هتلر ونظامه النازي المتكبر الذي لم يكن يرضى بأقل من إخضاع كل أوربا ومعها تلك «الجزيرة» العنيدة الواقعة إلى الغرب من بحر المانش: فقد ارتكب هتلر الخطأ نفسه بالاتجاه نحو التوسع في كل اتجاه، وبما في ذلك اتجاه ليبيا ومصر، وبالأخص باتجاه روسيا، فكان مآل جيوشه فيها مثل مآل جيوش نابليون. وإذا كان من «نصيحة» تعطى لـ «المفكرين» الأيديولوجيين الذين يطلق عليهم «المحافظون الجدد» في أمريكا، فهي أن يعتبروا من هذين الدرسين، ولكن اندفاع حركة الأقدار أقوى بكثير من نصائح الحكمة والاتزان. والأمر نفسه مع الكيان الصهيوني الذي يعيش منذ لحظته الأولى على أشنع أساليب العدوان والغدر والخداع والاتجاه نحو التوسع الدائم، فإننا نتوقع له الفشل الذريع، حتى بالرغم من تقتيله اليومي للمقاومين الفلسطينيين من كل صوب، فهو ينسى بذلك أنه يزيد من قوة الرفض التلقائي له إلى أبد الآبدين، ويولد أعداء له يتزايدون بمحض تزايد درجة إجرامه.

تجربة نجيب محفوظ

ولنأخذ الآن مثالا من مجال الممارسة الأدبية، فإن أمامنا في سيرة الروائي البارز نجيب محفوظ أمثلة قوية على اتخاذ طريق التوسط في قيامه بعمله. ولعل أشهرها هو أنه لم يكن يكتب شيئًا من شهر إبريل إلى شهر سبتمبر، أو حوالى ذلك، من كل عام، بعد أن أبلغه الأطباء، منذ فترة مبكرة من عمره، بضرورة إراحة العينين من الإجهاد، وقد استطاع بهذا الإجراء، ولعشرات السنين، أن يحافظ على قواه الصحية وعلى قوته الفنية معًا، حيث إن أشهر تلك الإجازة الطويلة كانت بمنزلة فترة تلقي الأفكار وتخميرها، إن أمكن استخدام هذا التعبير. وكذلك الحال في أعمال الأسبوع وفي عمل كل يوم من أيام العمل، فكان لا يجلس إلى مكتبه أيام الخميس والجمعة، وفي كل يوم غير ذلك كان لا يجلس إلا وقتًا محددًا بعد عودته من عمله الحكومي. وأما في مراحل «نضوب الطاقة» الأدبية عنده، 1952و1967 وغيرها، فإنه لم يكن يحاول قهر نفسه على كتابة الرواية أو القصة، لأنه إما لم تكن لديه رغبة قوية أو لم تكن لديه موضوعات يكتب فيها، فكان يتحول إلى أعمال أخرى، ومن هنا كانت مشاركاته المهمة ككاتب للسيناريو في السينما في بعض تلك الفترات.

حدود الوسطية

ومع ذلك، فإن الاستثناء ملازم لأوضاع الحياة عامة، ولأوضاع الإنسان بخاصة، وعليه فإن هناك أيضًا «حدودًا» لاتجاه التوسط والوسطية، حيث توجد ميادين لا يحمد فيها اتخاذ هذا الاتجاه دليلاً للسلوك إن تفكيرًا أو قولاً أو عملاً. فلا توسط في الإيمان، ولا توسط في شأن الحقيقة، ولا توسط في الدفاع عن الذات وفي حفظ الشرف والذود عن الكرامة (ولنطبق هذا على الموقف الواجب اتخاذه من العدوان الصهيوني في قلب منطقتنا)، ولا توسط في العبقرية ولا حتى في الحب العميق. وحتى في المواقف التي يحسن فيها التوسط والوسطية، فإن معيار ذلك ليس معيارًا كميًا، فقد يظهر التوسط هنا تطرفًا بالإفراط أو التفريط هناك، ولذلك فإن لكل موقف أحكامه المناسبة، وكذا لكل ميدان، وهناك من الميادين التي أشرنا إليها ما لا يسمح بالوسطية أصلاً. ثم هناك خطر دائم أمام تطبيق الوسطية: ذلك أن التوسط قد يؤدي إلى السطحية صراحة، ولذلك وجب أن نضم إلى اتجاه الوسطية اتجاه الإحسان، أي البحث عن الاتقان والذي شعاره «إعطاء كل ذي حق حقه»، وهو ما يعود على كل حال إلى معنى العدل.

أخيرًا، وليس آخرًا، فإن هذا العرض الذي أراد أن يعتمد على التفكير الذهني البحت وعلى ما تثبته الوقائع وطبائع الأمور في الطبيعة والحياة، يجد نتائجه، إن من حيث الحض على التوسط في معظم الأمور، وإن من حيث التنبيه إلى حدود اللجوء إلى ذلك التوسط في بعض الميادين، نقول إنه يجد نتائجه هذه مبسوطة في التعاليم الإسلامية المباشرة الميسرة قرآنًا وحديثًا. فأما القرآن الكريم فإن فيه: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا ، و وكان بين ذلك قوامًا ، و قال أوسطهم ، و ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ، وغير ذلك من الآيات. وأما في الحديث النبوي، فنجد حديث «لا إسراف في الدين»، وحديث «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا»، وحتى لو لم يكن هذا الحديث مؤكدًا فإن معناه موجود في حديث «الفسلة» الشهير، وهي النبتة التي توضع في الأرض، فتثمر بعد حين، حيث يطلب إلى المسلم أن يضع الفسيلة لكي تنبت في أوانها حتى ولو تأكد له أن الغد لن يطلع عليه، وهناك أحاديث أخرى كثيرة يذكرها علماء الحديث. وأما ما قلناه عن قيام حدود لاتجاه الوسط والوسطية، فإنه يتأيد بهذا الحكم القرآني البليغ: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، فلا غلو في الدين، لكن باستثناء ما هو حق، ومن ذلك - مثلاً - الشرك «حيث إن الآية السابقة مباشرة على ذلك النص هي: قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا والله هو السميع العليم .

إني خيرتُكِ فاختاري
ما بينَ الموتِ على صدري..
أو فوقَ دفاترِ أشعاري..
اختاري الحبَّ.. أو اللاحبَّ
فجُبنٌ ألا تختاري..
لا توجدُ منطقةٌ وسطى
ما بينَ الجنّةِ والنارِ..

نزار قباني

 

عزت قرني