عبودية المعلومات.. هل المعرفة دائما قوة؟

عبودية المعلومات.. هل المعرفة دائما قوة؟

يعيش الإنسان المعاصر في ظل فيض جارف من المعلومات، فقد تم إنتاج كمية من المعلومات في الأعوام الثلاثين الماضية أكثر مما تم إنتاجه على مدى خمسة آلاف عام من تاريخ البشرية. فهل المعلومات مصدر قوة أم عبودية جديدة؟

من الشائع على ألسنة المتحدثين وفي الكتابات التي تصف عصرنا الحالي القول بأنه «عصر المعلومات»، وغالبًا ما يقصد الكاتب أو المتحدث بذلك تلك الفترة التي بدأت مع نهاية عصر التصنيع القائم على نموذج خط التجميع بما هو مسار خطي ذو تنظيم هيراركي محدد وحتى عصرنا الحالي، والتي تقوم بالدرجة الأولى على تبادل البيانات من خلال شبكات متفاوتة التعقيد، وصلت إلى ذروتها في الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، وترتب عليها تغيير في أنماط الاتصال وأشكال التبادل الاقتصادي وتحويل المجتمع - وخاصة المجتمعات الغربية - إلى ما يعرف بالمجتمع الرقمي، وكما كان العصر الصناعي مؤديًا لتحول الطبقة العاملة من فلاحي الإقطاع في الغرب إلى عمال صناعيين، فقد أدى عصر المعلومات إلى ظهور ما يعرف بـ«قطاع العاملين في حقل المعرفة» Knowledge Workers، ويشمل المختصين في إدارة شبكات الاتصال وشبكات المعلومات ومديري أقسام تكنولوجيا المعلومات المسئولين عما أصبح يُعرف بإدارة المعلومات في المؤسسات والشركات المختلفة.

وعلى هذا الأساس تجسدت في هذا العصر مقولة «المعرفة قوة» التي تضع المعلومات كمقدمة للسيطرة على أي موضع. بل لقد وصف عالم المستقبليات الأمريكي الشهير ألفين توفلر المعرفة أو المعلومات - في كتابه «تحول السلطة» الصادر عام 1990 - بأنها مصدر السلطة الذي يتميز بأنه يتزايد كلما استخدم على عكس مصدري السلطة السابقين في الظهور، وهما الثروة والقوة اللذان ينقصان بقدر استخدامهما. وذلك أن استخدام البيانات أو المعلومات يفتح المجال أمام الوصول إلى معلومات جديدة (كما يقودك تصفح أحد المواقع على الإنترنت إلى المزيد من المواقع حول الموضوع نفسه)، وليس أدل على ذلك من تزايد سرعة حركة المعلومات في الوقت الراهن التي تذهب بعض التقديرات إلى زيادتها بنسبة 100 بليون مرة في المائتي عام الأخيرة. بل ويتضاعف هذا الإنتاج كل أربع سنوات مع طباعة 1000 كتاب يوميًا على مستوى العالم. إن هذا الأمر لا يقتصر على الباحثين والمختصين في المجالات المختلفة الذين يسعون إلى أكبر قدر من المعلومات في مجال اهتمامهم، بل أصبح يشمل أفرادًا عاديين قد يبحثون عن معلومات غير تخصصية: فقد وصل الأمر إلى تقدير أن عددًا من أعداد نهاية الأسبوع من جريدة النيويورك تايمز يحتوي على معلومات أكثر مما كان الشخص المتوسط في القرن السابع عشر يعرف طيلة حياته، بل إن حياة الإنسان وخاصة في المجتمعات الغربية أصبحت تتسم بالتعرض لكم ضخم من المعلومات، فالأمريكي العادي مثلاً يقرأ في العام 0003 مذكرة واستمارة و100 جريدة و36 مجلة ويشاهد 2463 ساعة تلفزيون، ويستمع إلى 730 ساعة إذاعية، ويشتري 20 أسطوانة مدمجة «سي دي» ويتكلم في التليفون لمدة 61 ساعة، ويقرأ 3 كتب وهو كم هائل من المعلومات يفوق ما حصلت عليه أنبغ العقول في عصور سابقة. لقد تبع ذلك - ونتج عنه في الوقت نفسه - بنية معلوماتية حققت طفرة هائلة في إنتاج وتخزين ونقل المعلومات. فحسب ما يُعرف بقانون موور Law of Moore تتضاعف سرعة أجهزة الحاسب الآلي كل ثمانية عشرة شهرًا، بينما تنخفض أسعارها إلى النصف خلال الفترة نفسها، كذلك أدت هذه الطفرة المعلوماتية إلى انخفاض الزمن المستغرق بين وضع الأسس النظرية لأحد العلوم أو المكتشفات وبين الاستخدام التجاري لهذه الأسس. وقد أدى هذا الموقف إلى ما يعرف بتناقص المقاومة Friction-reduction حيث تتحول الفكرة إلى منتج في زمن قياسي مع إمكان التزايد اللانهائي تقريبًا في حجم الإنتاج مقابل استخدام قدر أقل من المواد الخام.

موت الجغرافيا

كذلك أدت سرعة نقل المعلومات والوثائق والمنتجات عبر القارات إلى اختفاء العقبات التقليدية المتعلقة بالمسافات بين الدول واختلاف المناخ، وطبيعة الاقتصاد وما إلى ذلك من عوامل مما يُعرف بـ«موت الجغرافيا» أو انتهاء مشكلة المسافة، الأمر الذي يمثل أحد أهم مكونات النظام الاقتصادي الصاعد والمعروف بـ«اقتصاد المعرفة»، الذي يقوم بالدرجة الأولى على استخدام البيانات وقواعد المعلومات كأساس لإنتاج وتخزين ونقل السلع والخدمات ولاتخاذ القرارات المتعلقة بكل عملية من هذه العمليات.وبالرغم من أن الوصف السابق يبدو أنه يقدم صورة لعالم مبهج تنكمش فيه المسافات وتتلاشى الفروق ويتزايد حجم الإنتاج وتتحقق فيه ديمقراطية المعرفة حيث المعلومات متاحة بلا حدود أمام الجميع - بالرغم من ذلك، فإن هناك جانبًا سلبيًا أساسيًا ينتج عن التعرض المتواصل لهذا الفيض الضخم من المعلومات. ذلك أن هناك حدودًا لحجم المعلومات التي يستطيع الإنسان أن يقوم بالتعامل معها: فعلى عكس الكمبيوتر، يستطيع المخ البشري القيام بعمليات التحليل والتركيب والتفكير النقدي - الإبداعي، ولكن ذلك يأتي على حساب قدرته على تخزين كم عال من المعلومات، الأمر الذي تستطيع أجهزة الكمبيوتر العادية القيام به بسهولة في الوقت الراهن، فالإنسان تقيده حدود مدى الذاكرة (يستطيع المخ التعامل فقط مع ما لايزيد عن سبع وحدات من المعلومات في الوقت نفسه)، مع قصور إمكانات الانتباه والإدراك لديه (ليس فقط بالمقارنة بأجهزة الحاسب الآلي بل ببعض الحيوانات كذلك)، مما دعا بعض الباحثين إلى تقدير قدرة الإنسان على معالجة المعلومات بأنها لا تتجاوز 126 بيت في الثانية، وهو أقل بكثير من سرعة المعالجة لدى أجهزة الحاسب الآلي حتى في أجيالها الأولى.

وفي ضوء محدودية قدرة الإنسان على التعامل مع الكم الضخم والمتزايد من المعلومات، أصبح العديد من الباحثين ينظرون إلى الزخم الهائل من المعلومات الحالية على أنه عبء معلوماتي Information overload يشكّل مصدرًا للضغط على الإنسان - وليس وسيلة مساعدة له - في تعامله مع البيئة والعالم من حوله. فهذا العبء المعلوماتي ينتج عن تزايد حجم المعلومات المتاحة في العلم أو في وسائل الإعلام أو في الاقتصاد الكوني الصاعد عن قدرة الإنسان على التعامل الإيجابي معها. ويتزايد الإحساس بالمشكلة مع إدراك أن كمًا ضخمًا من هذه المعلومات ليس أكثر من معلومات منخفضة القيمة، قليلة الفائدة، وقد تكون عديمة المصداقية في كثير من الأحيان كالعروض التسويقية والرسائل الإلكترونية الدعائية، والمتكررة Spams، والدعاية السياسية الرخيصة، والإعلانات التلفزيونية والإعلانات في الطرقات، والفواصل الإعلانية وغيرها مما أصبح يُطلق عليه التلوث المعلوماتي Information Pollution. ويتحدد مقدار العبء المعلوماتي بطبيعة مجموعة من العوامل تشمل كلا من المعلومات من حيث الحجم والنوعية «الغموض، الجدة، والتعقيد»، ومستوى خبرة ومهارة ودافعية الشخص الذي يستقبل هذه المعلومات، كما يتحدد بطبيعة العمل الذي يتم استخدام المعلومات فيه من حيث مستوى الأهمية ودرجة الأولوية، وبطبيعة التركيب التنظيمي لبيئة هذا العمل من حيث أسلوب الإدارة وطبيعة العلاقات داخل المؤسسة، وما إذا كانت ذا طابع رسمي أم غير رسمي. ومع أخذ كل هذه العوامل في الاعتبار يؤدي الوصول إلى درجة عالية من العبء المعلوماتي إلى إمكان التجاهل أو نسيان أو تشويه أو حتى الفقدان الكامل لبعض المعلومات. ومكمن الخطورة هنا هو أننا لا نعرف ما إذا كانت هذه المعلومات المفقودة لها قيمة أم لا، فنحن لا نستطيع تقييم جدوى وقيمة المعلومات من دون أن نفهمها ونعالجها، على مستوى عالٍ في المخ، ولما كانت معالجة جميع المعلومات أمرًا يقع خارج نطاق قدرتنا، فإن بقاء بعض المعلومات وفقدان أو تشويه بعضها الآخر يصبح أمرًا عشوائيًا.

البحث عن كائن مجهول

فنحن قد نعي أن شيئًا ما قد فُقد، ولكن لا نعرف بالتحديد ماهية هذا الشيء، وهو ما يقود إلى شعور بفقدان السيطرة على الموضوع محل الدراسة أو المشكلة التي نحن بصدد اتخاذ قرار بشأنها، وهو الشعور الذي يحاول الإنسان أن يعوّضه بالبحث عن المزيد والمزيد من المعلومات كما في البحث المتكرر عن المعلومات في قواعد البيانات ومحرّكات البحث الإلكترونية (جوجل مثلاً) ودوائر المعارف من دون وسيلة للتيقن من استيفاء البحث أو من عدم فقدان معلومات مهمة: فهي دائرة فاسدة تبدأ بالبحث عن المعلومة للوصول إلى استنتاج أو تكوين حكم، ولكن مع تضخم وتشعب المعلومات المتاحة تصبح عملية البحث عملية لا نهائية إذ لا يجد الإنسان وسيلة للتأكد من أنه لم يفقد معلومة مهمة في غمار البحث في آلاف بل وملايين مصادر المعلومات. وهكذا يستمر البحث عن المعلومات وكأنه بحث عن كائن مجهول لا نستطيع إدراكه حتى إن كان بين أيدينا. ومرة أخرى، فالإنسان في غمرة هذا السلوك الهازم للذات يواجه إما خطر فقدان معلومات مهمة وضرورية، أو خطر الاستمرار في البحث بلا جدوى عن هذه المعلومات محاطًا بشعور بالذنب ناتج عن إحساس بقصور البحث (من منا لم يتوقف بعد انتهاء بحثه عن بعض المعلومات على الإنترنت ليسأل نفسه: هل هذه هي كل المعلومات المهمة عن الموضوع؟ ألا توجد بعض المعلومات المهمة التي لم أصل إليها؟ ألا يمكن أن يكون هناك شيء مهم في الموقع التالي؟!). إن هذا الشعور يؤدي بنا إلى شعور بالضغط أو القلق المعلوماتي إلى ما أصبح يُعرف بـ«زملة الإنهاك المعلوماتي» Information Fatigue syndrome والتي بدأ المختصون في عالم النفس وصفها كأحد أخطر الاضطرابات التي تصيب العاملين في حقل المعرفة أو في مجال الإدارة. وتتمثل أعراض هذه الزملة في القلق، وصعوبات الذاكرة، وانخفاض مدى الانتباه، وتدهور الرضا المهني، والعلاقة بالزملاء، بل قد يصل الأمر في بعض الحالات إلى ظهور أعراض الاكتئاب وحتى الاغتراب وفقدان الثقة في المؤسسات وعدم القدرة على التوافق مع صعوبات الحياة في المجتمعاات المعلوماتية الحديثة.

من ناحية أخرى، يؤدي ضغط العبء المعلوماتي إلى ضعف كفاءة وفعالية عملية اتخاذ القرار سواء على المستوى الشخصي أو المؤسس أو حتى على مستوى السياسات العامة. ففي كل الأحوال يؤدي تعدد مسارات الحلول الممكنة لأي مشكلة، وما يصحب ذلك التعدد من تضخم إيجابيات وسلبيات وعواقب كل واحد من هذه المسارات إلى ما يُسمى بضغط البدائل Opportunity overload الذي يجعل اتخاذ القرار عملية صعبة بسبب عدم قدرة المخ البشري على معالجة جميع البدائل الممكنة والاختيار بينها، مما ينتج عنه شعور بالضغط النفسي الشديد لدى متخذي القرار إلى حد أن وجدت إحدى الدراسات أن نحو ثلثي المديرين في الغرب يعانون من زملة أعراض الإنهاك المعلوماتي.

لا وقت للتفكير

ويتزايد هذا الإنهاك مع التزايد المستمر في سرعة انتقال المعلومات وتزايدها داخل شبكات الحاسب الآلي المعقدة عبر العالم، حيث يؤدي هذا النمو الانفجاري للمعلومات إلى تزايد انتقال المعلومات الصحيحة والرديئة معًا، وإلى - وهو الأهم - انخفاض الوقت المتاح للتفكير في «معنى» هذه المعلومات، وإلى انتشار التأثير السلبي للمعلومات الخاطئة، فإصابة أحد أجهزة الحاسب الآلي بفيروس نتيجة اتصاله بحاسب آخر مصاب يجعل الأمر يحتاج إلى يوم كامل لجعل عدد الأجهزة المصابة اثنين بدلاً من واحد. ومع استمرار المشكلة يتزايد عدد الأجهزة المصابة إلى أربعة بعد يومين وإلى ثمانية أجهزة بعد ثلاثة أيام. وإذا استمرت معدلات الإصابة نفسها، فسوف يصل عدد الأجهزة المصابة إلى ألف جهاز بعد عشرة أيام إلى مليون جهاز بعد عشرين يومًا. وبطبيعة الحال، فإن العدد قد يكون أكبر بكثير إذا كانت الإصابة في جهاز يتصل بشبكة معقدة من الأجهزة الأخرى وليس في جهاز يعمل بمفرده، أو قد يتصل بجهاز آخر واحد فقط. فهنا انتقال المعلومات قد يكون مفيدًا، ولكنه قد يكون مدمرًا كذلك إذا كانت المعلومة مغلوطة أو ضارة. ومن أبرز الأحداث الواقعية التي يشار إليها في هذا الصدد ما يعرف بيوم «الإثنين الأسود» عندما انهارت أسعار الأسهم في البورصة الأمريكية، وفي العديد من البورصات العالمية في 19 أكتوبر عام 1987. إذ لم يكن هذا الانهيار راجعًا إلى الحالة الواقعية للاقتصاد، ولكن إلى دخول ظاهرة التجارة في الأسهم عبر الإنترنت وإلى إمكان متابعة أسعار الأسهم في جميع الأسواق المالية المهمة في العالم عن طريق الحاسب الآلي. وعلى هذاالأساس، فإن انخفاض أسعار بعض الأسهم وإسراع مجموعة صغيرة من المستثمرين إلى بيع هذه الأسهم قد أديا إلى حالة من الذعر بين قطاع كبير من المستثمرين الذين يتابعون حركة البيع والشراء، وإلى إسراعهم ببيع أسهمهم لتجنب الخسائر. وهذا الأمر أدى إلى مزيد من الانخفاض في أسعار الأسهم، مما قاد - بدوره - إلى مزيد من الإقبال على البيع ومزيد من انخفاض السعر مرة أخرى. وهكذا أدى الانتقال السريع للمعلومات إلى وتيرة متسارعة من القرارات، التي قد تتراكم تأثيراتها لتأخذ أحجامًا كارثية. ويمكن في الواقع تصور أن يؤدي ارتفاع الأسهم - ولو بشكل سطحي ومؤقت - إلى ظاهرة معاكسة من الإقبال على الشراء، ورفع أسعار الأسهم وانتعاش السوق المالية بشكل مصطنع. وفي كلتا الحالتين يؤدي التداول السريع وغير المحكوم للمعلومات إلى شعور بفقدان التحكم وإلى الانجرار في شبكة من الأفعال وردود الأفعال التي لا تعكس في واقع الأمر الحقائق الموضوعية (حالة الاقتصاد في المثال الحالي).

متغيرات بلا نهاية

ومن ناحية أخرى، يؤدي هذا الاتساع الانفجاري لنطاق المعلومات وتأثيرها على سلوك الأفراد وعلى القرارات التي يتخذونها إلى تعقد شبكة العلامات السلبية التي تحكم الظواهر المختلفة، فحتى عصر التصنيع كان المتغير (أ) يؤدي إلى المتغير (ب) الذي قد يؤدي بدوره إلى المتغير (ج)، وذلك في منظومة خطية من العلامات السببية. أما الآن، ومع التزايد الانفجاري في كم المعلومات المتاحة فإن أي متغير قد ينتج عنه عدد كبير من المتغيرات الأخرى التي قد ينتج عن كل منها عدد كبير آخر من المتغيرات - من ناحية - بل ويمكن لهذه المتغيرات أن تتفاعل، بعضها مع بعض في حركة دينامية تعود بالتأثير حتى على المتغير الأول الذي بدأ سلسلة التفاعلات من ناحية أخرى، وذلك في شبكة دائرية - وليست خطية - من العلاقات السببية. وبالرغم مما يصاحب هذا التفاعل المعقد من قدرة أفضل على رؤية الواقع، فإنه غالبًا ما يكون مصحوبًا بشعور بفقدان القدرة على التنبؤ بمسار الأحداث، مما يعيق عملية اتخاذ القرار. فمتخذ القرار في مصنع لإنتاج الورق - مثلاً - لم يعد الأمر يقتصر بالنسبة له على معرفة أسعار الخام وحجم الطلب من عملاء معروفين في السوق حتى يستطيع اتخاذ القرارات الملائمة من حيث كمية الإنتاج ونوعيته وتوقيتاته. بل أصبح الأمر يتجاوز ذلك إلى شبكة معقدة من المتغيرات تشمل - ضمن أشياء أخرى - المعلومات حول حالة المناخ، وإمكانية حدوث حرائق الغابات وضغوط جماعات المحافظة على البيئة والتشريعات المرتبطة بقطع الأشجار والنمو الاقتصادي للدول التي تستورد المنتج وارتفاع معدلات التعليم (التي قد تعني مزيدًا من الطلب على الورق في هذه الدول)، ونمو الطلب على الأشكال الإلكترونية - غير الورقية - من الكتب والمطبوعات المختلفة (الأمر الذي قد يعني انخفاضًا في الطلب على الورق في هذه الدول)، بل وحالة القمع أو الانفراج السياسي في التعامل مع الصحفيين وذوي الرأي في البلاد المختلفة، والتي تؤثر على سهولة أو صعوبة نشر الصحف والكتب، وبالتالي على الطلب على الورق في هذه البلاد.

إعادة هيكلة الدولة

وهكذا لم تعد المتغيرات المختلفة والمعلومات المرتبطة بها خاضعة لتحكم شبكة ضيقة من المسئولين الرسميين أو كبار رجال الأعمال، بل تجاوز الأمر هؤلاء إلى شبكة كونية من الجهات والخبراء والشركات والدول التي تؤثر اتجاهاتها تأثيرات يصعب التنبؤ الكامل بها. فما يسمى بالعولمة ما هو - على الأقل جزئيًا - إلا أحد جوانب ثورة المعلومات التي تمهد لنشوء كيانات تتجاوز الدول وقد تؤدي إلى إعادة هيكلة سلطة الدولة كجهاز ضخم يحكم حركة وتعاملات الناس في قطاع معين من الأرض، وهو النظام المستقر والمسيّر لحياة الناس بشكل مباشر عبر المائتي عام الماضية على الأقل. ولكن السؤال هنا مرة أخرى هو: ما الذي سوف تؤدي إليه عملية إعادة الهيكلة أو إعادة نمط العلاقات السياسية في ضوء هذه الثورة المعلوماتية؟ وإذا كنا كأفراد لسنا واثقين مما نفقده كمعلومات قد تكون مهمة أو تافهة، فما الذي يجعلنا كشعوب أو ثقافات واثقين من جودة ما نحتفظ به أو من رداءة ما نتخلص منه؟ ناهيك من السؤال عمن يقوم بتحديد ما هو جيد وما هو رديء من عناصر ثقافية مختلفة، ووفق أي محك يقوم بهذا التحديد؟ إن اختفاء المعايير هنا وغلبة النسبية الكاملة تقودنا إلى أن أحد أهم إشكاليات ما بعد الحداثة وهو انعدام المركز وغياب المرجعيات، هو التحدي الذي قد تشكل الاستجابة له أحد المعالم الرئيسية لمستقبل الإنسان.

ما الحل؟

وهكذا فإن ثورة المعلومات بالرغم مما لها من أهمية، وما توفره من إمكانات للنمو، تمثل كذلك تحديًا مهمًا على المستوى الفردي والمؤسساتي، بل وعلى مستوى الدولة وأجهزتها، وهو التحدي الناجم عن الفيضان الهائل من المعلومات الذي يتجاوز الإمكانات البشرية، بل وحتى الإلكترونية للقدرة على التعامل الأمثل معه، مما يؤدي إلى ما أصبح يُعرف بشلل التحليل Paralysis of analysis حيث تتوقف قدرة الفرد أو المؤسسات على تقييم وتحليل المعلومات الواردة مما يؤدي إلى شلل عمليات اتخاذ القرار. والواقع أن هذه المشكلة أصبحت تواجه الجميع، ولا يقتصر تأثيرها على العالم العربي الذي لم تتجاوز معظم دوله عصر التصنيع، بل تمتد إلى الدول الصناعية ذات البنى التحتية المستقرة في مجال تكنولوجيا المعلومات.

إن نقطة البدء في التعامل مع هذا التحدي لا تتمثل كما يرى البعض في تجاهل المعلومات أو اعتبارها غير مهمة (الحل الرومانسي الحالم)، ولا في تخفيض المعلومات المتاحة أو حتى حجبها عن الناس (الحل القمعي الرقابي)، ولكن نقطة البدء تتمثل في تطوير طريقتنا في التعامل مع هذه المعلومات، وبوجه أدق تطوير طريقة تفكيرنا في هذه المعلومات، إذ لم تعد المشكلة هي ندرة وصعوبة المعلومات ولكن - على العكس - أصبحت المشكلة في تضخم حجم هذه المعلومات. ففي أيام كانت تتسم بصعوبة الحصول على المعلومات كان يوجد أحيانًا لدى قطاع من المثقفين - وخاصة في العالم الثالث - خطاب معلوماتي يتباهى بالحصول على المعلومة (وخاصة من المصادر الغربية) ويتباهى بلغة الأرقام (التي لا تكذب) وهو خطاب يقوم على مراكمة الوقائع دون النظر إلى معناها. ومع تزايد كمية المعلومات المتاحة حول أي موضوع تزداد خطورة مراكمة معلومات مغلوطة، بل ومتناقضة في كثير من الأحيان. إلا أن ما نحتاج إليه في الوقت الراهن هو تشجيع التفكير النقدي - الإبداعي الذي يتعامل مع المعلومات كمادة خام تستحق الاحترام - إذا كانت صحيحة بطبيعة الحال - ولكنها ليست موضع تقديس. في هذا النوع من التفكير، تمثل المعلومات وسيلة وليست غاية، ونقطة بداية لعمليات من التقييم والمراجعة والتحليل وصولاً إلى الربط بين نطاق واسع من المعلومات للوصول إلى «نمط» أو «نموذج» ينظم الظواهر، ويمثل بعدًا مفهوميًا للتعامل مع الظواهر المختلفة. ويستدعي هذا النوع من التفكير النظر إلى المعلومات في سياقها بعيدًا عن اعتبارها «حقائق موضوعية» ذلك أنه لا يمكن فصل المعلومات عن رأي وتحيز وزاوية الرؤية لدى صاحبها، والفهم الصحيح لأي معلومة يستدعي فهمًا لهذه الرؤية وللسياق الذي ترد فيه. إن تشجيع التفكير النقدي - الإبداعي، يبدأ من تطوير نظمنا التربوية، بحيث تصبح عملية التعلم عملية مستمرة، ويكون التركيز فيها ليس على المعلومات التي تتغير بسرعة كبيرة في فترات زمنية قصيرة، بل على تنمية مهارات التعامل مع المعلومات واستثارة تفكير الدارسين في القضايا المختلفة. فالطالب الذي يتخرج في الجامعة اليوم ستصبح معلوماته قديمة وغير ملائمة للعصر في غضون خمس سنوات، مهما كان مستوى ورقي التعليم الذي تلقاه. وأمام هذه الفجوة الحتمية في المعلومات، أصبحت مهمة التعليم ليس فقط إعطاء المعلومات، ولكن تدريب الطلاب على البحث المستقل عن المعلومات والوصول إليها، والتفكير النقدي فيها، مما يجعل عملية التعلم عملية مستمرة مدى الحياة. ومن هنا يمكن أن نفهم ذلك الاهتمام العميق الذي تبديه العديد من الجامعات ومراكز البحوث حول العالم بدراسة عمليات التفكير وآليات عمل العقل وطرق تعامله مع الأنواع المختلفة من المعلومات، إذ يؤمل أن يؤدي فهمنا لهذه العمليات إلى تحسين كل من قدرتنا على التعامل مع المعلومات التي يقدمها لنا الآخرون، من جهة، وإلى تحسين قدرتنا على عرض وتقديم المعلومات للآخرين من جهة أخرى.

إن تنمية مهارات التفكير الإبداعي والتفكير المستقل هو سبيل الإنسان لتطوير قدراته على تنقية (فلترة) المعلومات الواردة إليه للتخلص من المعلومات المغلوطة والملوثة وغير الضرورية، والفهم التركيبي للمعلومات الصحيحة، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين «الصحة المعلوماتية» Information Hygiene. إن هذه الصحة المعلوماتية هي سبيل التحرر من عبودية المعلومات والانبهار الساذج بها وصولاً إلى القدرة على التفكير النقدي فيها، وهو طريق المشاركة في عالم يستشرف آفاقه بعض الباحثين باعتباره يمثل انتقالاً من عصر المعلومات إلى العصر المفهومي Conceptual age حيث ينتقل الاهتمام من المعلومات كغاية إلى المعلومات كمادة خام تؤسس لإطار مفهومي، ورؤية حول مستقبل الإنسان.

 

محمد طه