السيد ياسين و د. مصطفى عبدالغني

  • القيود المتعدّدة على حرية التفكير حالت دون التصدّي لظواهر اجتماعية أساسيّة
  • الاقتراب العلمي من جانب الفن يتطلب إعداداً مناسبًا لا يتوافر لكثير من علماء الاجتماع تشخيصُ مشاكلنا، ونقد ذواتنا دليل تقدّم حضَاريّ مؤكّد
  • لا نستطيع أن نتنصّل من التراث النظري العالمي في علم الاجتمَاع
  • الشريحة الاجتماعية- مصطلح أدقّ من (الطبقة) في دراسَاتنا الميْدانيّة

الأستاذ السيد ياسين، أحد الشخصيات الفكرية المهمة التي أسهمت بكتاباتها ودراساتها المتعددة في حقل الثقافة العربية. تعددت دراساته الأولى في القاهرة وباريس حول العلوم القانونية والسياسية وتحددت اهتماماته في جزء منها في الفكر القومي العربي. وعلى مدى أكثر من ربع قرن توالت أعماله: دراسات في السلوك الإجرامي، السياسة الجنائية المعاصرة، الشخصية العربية بين مفهوم الذات وتصور الآخر، علم الاجتماع الأدبي، الفكر القومي العربي.. إلخ، فضلا عن إسهاماته المتواصلة كمدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام- القاهرة، ومسئوليته كأمين عام لمنتدى الفكر العربي بعمان. وقد أجرى الحوار معه د. مصطفى عبدالغني الذي أسهم بدراساته العديدة في مفهوم علاقة المثقف والسلطة ودراساته العديدة في مجال النقد وفلسفة التاريخ.

  • يشكو الباحثون في حقل العلم الاجتماعي إهمالاً شديدًا في تقييم جهودهم. كما يشكو هذا الفرع من العلوم عدم اهتمام الباحثين. في الجانب الآخر، هناك اتهام موجه إلى علم الاجتماع بشقيه: القانوني والسياسي أنه لم يؤد الدور المطلوب منه في وطننا العربي.. ماذا ترون حول هذه النقطة المثارة؟.

- أريد أولا أن أفرق بين علم الاجتماع القانوني وعلم الاجتماع السياسي. علم الاجتماع القانوني يتمثل موضوعه في دراسة القانون باعتباره نسقا اجتماعيا. ويقتضي ذلك إخضاع الظاهرة القانونية بمختلف جوانبها للدراسات السوسيولوجية، مع تركيز على الدراسات الميدانية. وهذا العلم الاجتماعي لم يجد- مع الأسف الشديد- إقبالا من الباحثين في الوطن العربي لأسباب متعددة، أهمها أن أساتذة القانون العربي تدربوا على أساس المنهج الشكلي للقانون، والذي يركز على دراسة النص القانوني دراسة مكتبية، وغالبا في انفصال عن الواقع الاجتماعي. ويندر من تلقى منهم تدريبًا على مناهج وأساليب البحث في العلوم الاجتماعية، وكثير منهم يقف من علم الاجتماع القانوني موقف العداء الصريح. وهناك أسباب أخرى أهمها أن هذا الفرع العلمي يحتاج إلى تكوين مزدوج: في القانون وفي علم الاجتماع، وهذه مسألة شاقة. ومن هنا نجد بين علماء الاجتماع القانوني المعروفين من جاء إليه من القانون مثل الأستاذ كاربونييه الفرنسي، الذي جاء أصلا أستاذا للقانون المدني، ثم اهتم بعلم الاجتماع القانوني، أو من وفد إليه من الفلسفة وعلم الاجتماع، مثل عالم الاجتماع الفرنسي المشهور جورج جيريفتش.

والخلاصة أن علم الاجتماع القانوني ما زال في بداياته الأولى في الوطن العربي. وقد حرصت في أثناء عملي خبيراً بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (من عام 1957 حتى عام 1975) أن أنشر عددا من الدراسات النظرية المهمة للتعريف بالعلم، وأن أجري بحثا كبيرًا عن الإصلاح الزراعي في مصر مع فريق من الباحثين، وطبقت فيه مناهج علم الاجتماع القانوني.

أما علم الاجتماع السياسي فهو في موقف أفضل من علم الاجتماع القانوني، فهناك بين شباب الباحثين من خاض هذا الميدان بكتابة دراسات نظرية أو إجراء بحوث ميدانية، غير أننا أيضا ما زلنا في بداية الطريق، وربما يعود السبب إلى أن ظاهرة السلطة والمجتمع، وهي أحد المباحث الرئيسية في هذا العلم مسألة ليس من السهل بحثها بطريقة موضوعية في الوطن العربي، نظراً للقيود المتعددة على حرية التفكير التي تكبل الباحث العلمي الاجتماعي وتمنعه من التصدي لظواهر اجتماعية أساسية.

سوسيولوجية الأدب

  • بعد عودتك من فرنسا رفدت المكتبة العربية بمؤلفك القيم (التحليل الاجتماعي للأدب). راصدًا فيه العلاقة بين الأدب والمجتمع. وكان يؤمل منك الكثير في هذا الاتجاه.. لماذا لم تواصل الدراسة في هذا الميدان؟ وهل هذا المنهج، الذي تبنيته في كتابك، ما زال صالحا للتناول؟

- كتابي " التحليل الاجتماعي للأدب " كان ثمرة إقامتي في فرنسا ثلاث سنوات كاملة (من 1964- حتى 1967) حين كنت أقوم بدراساتي العليا في العلوم الاجتماعية والسياسية. كان لدي اهتمام قديم بالعلاقة بين الأدب والمجتمع، غير أنه لم يتح لي أن أعثر على مراجع تدرس الموضوع بطريقة منهجية. في فرنسا أتيحت لي هذه الفرصة، لأنه كان من حظي أن تثار في فرنسا في هذا الوقت المعركة الكبرى بين النقد الجديد الذي كان يمثله رولاند بارت، والنقد القديم أو الأكاديمي الذي كان يمثله ريموند بيكار. تتبعت هذه المعركة يوما بيوم، وقرأت كل ما كتب في أثنائها من تحليلات ودراسات، وقررت أن أنشر سلسلة مقالات في الموضوع، أصبحت هي الكتاب بعد ذلك، لتقديم نظرية ومناهج علم الاجتماع الأدبي للقارئ العربي، وكان هو أول كتاب في الموضوع باللغة العربية.

غير أنه شغلتني بعد ذلك دراساتي الاجتماعية والسياسية عن مواصلة البحث في الموضوع، وإن كنت نشرت أخيرًا دراسة مطولة عن " جمال الغيطاني: بين التجديد الشكلي والصدق المضموني" نشرت في أحد أعداد مجلة " المنار".

وهذا المنهج ما زال صالحا بطبيعة الأحوال، وقد تولى تطبيقه في مصر مجموعة من الباحثين الشبان، الذين قدموا رسائل للماجستير والدكتوراة تناولت أعمالا شتى، من أبرزهم الدكتور فتحي أبوالعينين الذي أعد رسالتيه: للماجستير في آداب عين شمس، والدكتوراة في ألمانيا في ميدان علم الاجتماع الأدبي، وهناك أيضا باحثون تقدموا برسائل إلى جامعة القاهرة، وامتدت البحوث إلى عديد من الجامعات الإقليمية.

ومعنى ذلك أن الباب الذي فتحناه بكتابنا، دخل منه باحثون متعددون، يطورون الآن الأفكار النظرية الخاصة بهذا العلم.

  • علماء الاجتماع يركزون دائمًا على الأعمال الأدبية، في تفسير الظواهر وعكس الدلالات، ولتحليل وإثبات الكثير منها أو نفيه. أطرح تساؤلاً ملحًا: لماذا اتسعت الهوة بين علم الاجتماع والفن والأدب؟

- الأدب أحد المصادر الأساسية لعلم الاجتماع. بعبارة أخرى لا يستطيع أي عالم اجتماع حقيقي أن تجاهل الأعمال الأدبية، لأنها في أحسن حالاتها، تعد مصدراً بالغ الثراء لفهم بنية المجتمع وأنساق قيمه، واتجاهاته، وكذلك لتحليل التغير الاجتماعي عبر الزمن. أضف إلى ذلك النماذج الإنسانية المعبرة عن الشرائح الاجتماعية والطبقات، ومختلف البيئات. وكذلك الأدب، لا يمكن في نظري تقييمه تقييما شاملا بغير نظرة سوسيولوجية، فالأدب- بحسب التعريف- لا بد له أن يعبر عن مجتمع ما في مرحلة تاريخية محددة.

غير أنه إن كانت هناك إسهامات واضحة في الدراسة الاجتماعية للأدب، فإن الدراسة الاجتماعية للفن ما زالت في بداياتها، لأن الاقتراب العلمي من جانب الفن يتطلب إعدادا مناسبا، قد لا يتوافر لكثيرين من علماء الاجتماع.

لا خطر على الإطلاق

  • هناك رصد خارجي لإبعاد المجتمع العربي، حيث تشكل العيون الخارجية اليقظة والمفتوحة منهم على مجتمعاتنا العربية بعض الأخطار مما يدفعني للتساؤل: هل يمكن أن يكون علم الاجتماع السياسي خطيرًا، في وجود مؤسسات ووكالات غربية ضخمة تعمل للإفادة من نتائج أبحاثه واستغلال خلاصة دراساته وتوجيهها في غير صالح الوطن العربي؟

- موضوع الخطر الذي يمكن أن يتولد من دراسات علم الاجتماع السياسي، نظرا لوجود مؤسسات غربية قد تعمل للإفادة منه، مسألة غير واردة لأن معنى ذلك أن نتوقف كباحثين علميين عرب عن الإنتاج العلمي ونشره خوفا من استفادة أعدائنا منه لم يعد الآن أي مجتمع إنساني معاصر قادرًا على "التخندق" داخل حدوده، مختفيا عن الآخرين، وكأن لدينا جوهراً ثمينا نحرص على إخفائه، لأنه لو اكتشف لضعنا بين العالمين.

أنا ضد هذه التخوفات غير المبررة، والدليل أن الإنتاج العلمي المتميز للباحثين العرب في السنوات الأخيرة، يحمل بين طياته ليس فقط دراسات وأبحاثا موضوعية عن الوطن العربي، ولكن أيضا دراسات في النقد الذاتي.

وماذا يضيرنا حقا لو أدرك الغرب أننا كغيرنا من بلاد خلق الله، نكتب بالصدق عن أنفسنا، ونشخص مشاكلنا، وننقد ذواتنا؟ إن ذلك دليل تقدم حضاري مؤكد.

علم اجتماع عربي

  • بماذا تفسر قصور وسائل الإعلام ومنها الصحف والدوريات الأدبية وكسلها وعدم جديتها وإسهامها في تكون منهج نقدي عربي معاصر؟

- سؤالك عن المنهج النقدي العربي المعاصر يثير قضية أهم يطرحها الآن علماء الاجتماع العرب بحثا عن الأصالة العلمية أو الخصوصية تحت شعار "نحو علم اجتماع عربي" وهي دعوة- حتى الآن- أيديولوجية، بالمعنى السييء للكلمة.

فما هي صفة " العربي " هذه التي سيجتمع تحت عباءتها كل الباحثين العرب؟

ألا نعلم أن لدينا باحثين عربا ذوي اتجاه ماركسي، وآخرين ذوي اتجاه إسلامي، وفريقا ثالثا ذا اتجاه ليبرالي، ترى هل تغني كلمة "العربي" في وصف مناهج هؤلاء؟

نحن لا نستطيع أن نتنصل من التراث النظري العالمي في العلم الاجتماعي، بما في ذلك النقد الأدبي المعاصر. غاية ما نطلبه ألا يكون تطبيقنا لهذه المناهج السائدة تطبيقا ميكانيكيا فجا، وأن يتم تطويع هذه المناهج مع طبيعة الظواهر السائدة في الوطن العربي.

المسألة ليست مجرد مصطلح

  • الإسلام السياسي.. والإسلام الحضاري.. مصطلحان فرضا أنفسهما بشدة على ساحة أكثر من مشروع حضاري عربي جديد. ونحن نجابه تيارات وحركات اجتماعية متباينة ماذا ترى في هذا الصدد؟

- ليست القضية مفاضلة بين مصطلحات، فنقول مثلا الإسلام الحضاري بدلا من الإسلام السياسي! فنحن نجابه تيارات سياسية وحركات اجتماعية تنادي بتطبيق الإسلام في المجال السياسي. وهذه الدعوة غامضة في حد ذاتها، لأنه ليس هناك نظام سياسي إسلامي متفق عليه، إذا استبعدنا الأفكار البالغة العمومية عن اختيار الخليفة والشورى، وفي الوقت نفسه نجد تيارات أخرى تريد من الدين الإسلامي أن يكون مجرد مكون من مكونات مشروع حضاري عربي جديد، يتسم بالديمقراطية والحرية والعدالة والعصرية.

هي إذن رؤى مختلفة للعالم، ليس ضروريا أن تكون متضادة، وإن كان ينبغي أن يبذل الجهد لمحاولة التأليف الخلاق فيما بينها، وليس التلفيق المزيف.

أصداء ماركسية في الفكر الغربي

  • شهدت الساحة العالمية سقوط وانهيار الأسلوب الشمولي في شرق أوربا والاتحاد السوفييتي. ألا يعني ذلك سقوط الماركسية التقليدية وفشلها في مواجهة العالم؟

- ما سقط في شرق أوربا على سبيل التأكيد هو الشمولية، باعتبارها نظاما سياسيا يقوم على هيمنة الدولة على كل جنبات المجتمع المدني. أما سقوط الماركسية التقليدية كفكر، فمسألة فيها نظر، فالفكر ليس نظاما سياسيا يمكن التأريخ لسقوطه، مثلما يؤرخ لسقوط النظم السياسية. الأفكار والأيديولوجيات لها في العادة دورة حياة مختلفة تماما عن دورة حياة النظم السياسية. فالأفكار لديها قدرة فذة على المراوغة والمناورة، قد تختفي في مرحلة، ثم تظهر في ثوب جديد في مرحلة أخرى، بل قد تتسرب إلى أيديولوجية منافسة وتصبح جزءاً منها، تماما مثلما تسربت كثير من عناصر الماركسية إلى النظرية الاجتماعية الغربية عموما، وإلى الليبرالية خصوصا.

خذ مثلا فكرة الأيديولوجية الماركسية، التي أصبحت الآن الأساس المنهجي لعلم اجتماع المعرفة الغربي، راجع في ذلك كتاب كارل فانهايم: الأيديولوجيا واليوتوبيا، وراجع أيضا كتاب فيلسوف هارفارد جون رولز "نظرية في العدل" والذي يعد أكبر إنجاز معاصر في تاريخ النظرية الليبرالية الغربية، نجده يتحدث عن مبدأين للعدل: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية. ألم تكن العدالة الاجتماعية هي الشعار الأساسي للماركسية طيلة عشرات الأعوام؟!

  • ما هي العلاقة بين استراتيجيات التنمية والنظام السياسي؟ وما هي ملامح الحركة الجدلية بينهما؟

- هناك علاقة وثيقة بين النظم السياسية واستراتيجيات التنمية فعادة ما تعبر هذه الاستراتيجيات عن القيم الأساسية التي ينهض عليها النظام السياسي.

غير أنه في الوقت الراهن، وبعد التغييرات الكبرى في العالم، ليس من السهل الربط الميكانيكي بين استراتيجيات التنمية والنظم السياسية.

أصبحت استراتيجيات التنمية تأليفا بين قيم متعددة ومختلفة، قد تنتمي إلى نظم سياسية متباينة.

عن الطبقة ودور المثقف

  • إذن، ما هو دور الطبقة- بمفهومها الاجتماعي والتقليدي- في تحديث الوطن العربي وتوجيهه نحو متغيرات جديدة على طريق التقدم والتنمية؟

- مفهوم الطبقة بين المفاهيم التي تدور حولها في الوطن العربي علامات استفهام متعددة، فهل تشكلت لدينا طبقات متبلورة على النسق الأوربي؟ أم أن البنية التقليدية في الوطن العربي: العشيرة، والقبيلة، والجماعة ما زالت هي الحاسمة؟

من هنا قد نتحفظ على إقرار الحديث عن الطبقة بمفهومها الكلاسيكي باعتبارها تلعب الدور الأساسي في عملية تحديث الوطن العربي، وربما لو تحدثنا عن الشريحة الاجتماعية يكون حديثنا أقرب إلى الصواب. هذه الشريحة قد تكون جزءاً من طبقة، وقد تكون تأليفا بين عناصر طبقات متعددة، وقد تكون فئة عسكرية، أو مجموعة مثقفين. هذه مسألة ينبغي أن تخضع للفحص التاريخي، والدراسة الميدانية.

  • بناء على دراساتك.. هل يعني افتقاد دور المثقف الآن عدم فعاليته؟.

- ربما لم تفهم بعض دراساتي عن المثقفين العرب فهما كاملا. لقد تحدثت عن اضطرار بعض المثقفين العرب للمهادنة أو التبرير أو مجرد "الفرجة" على ما يحدث، تحت ضغوط القمع السائدة في الوطن العربي.

ولكن كان هناك دائما، وسيكون، مثقفون مناضلون لديهم القدرة على ممارسة النقد الاجتماعي بشجاعة وباستعدادهم للتضحية في سبيل حرية رأيهم.

لا.. لم تنته بعد صور الشجاعة الأدبية.