الذوبان في بحر الفيروز

الذوبان في بحر الفيروز

ما حدث جدير بجلال لحظة المخاض، انطلق من الجينة الأولى وتسلسل عبر أحقاب عديدة في رحلة أزلية تعاقبت عبر عشرات المراحل التاريخية.

الحديقة الغناء، وأقداح الشراب البارد، والنراجيل والطبيعة من حولك، مازالت كلها بصفائها الطفولي تصب ألحانها في كل لحظة بنغمة جديدة.

هبت نسمة باردة داعبت صفحة وجهك، احتوتك أشجار المانجو والتين والليمون التي كان يعبق برائحتها المكان الزاهر.

تراقصت الأغصان بالألحان، وعزفت الفرقة الموسيقية المؤلفة من مفردات الطبيعة أعذب الألحان وأشجاها وأنا بعد جهد عمر بأكمله وصلت إلى هنا لأجد نفسي قابعاً في بطن الطبيعة، في قلب جبل لا أحد يعرف أين بدايته وأين نهايته ومتى زرعت كل هذه الأشجار ولا متى نمت وترعرعت حتى ضاهى ارتفاع بعضها مجموع قامة عشرة رجال، ومتى تفجرت هذه العيون وجرت هذه الجداول.

نسيت كل شيء حيث تجسد الخيال كحقيقة مؤكدة غصت فيها فلم تستطع انتشال نفسك إلى بر الأمان للحظات وجدت كل شيء غامضا فأغمضت عينيك محاولا الهروب وتمنيت النوم وحاولت أن تتذكر تلك الليلة حين نام الجميع نوما عميقا وكأنهم قد أنهوا مهمتهم في الحياة فلجأوا إلى الغوص في بحر النعاس، في تلك الليلة، انتهت علاقتك بالحياة بعد عمر من الشقاء تمزقت فيه بين الطموح والعجز، بين الرغبة والكبت، بين الحلم بالنصر والخوف من الهزائم المريرة.

نهض من مرقده عند حافة الروض، حيث وصل منذ ليلة واحدة فقط والحقيقة أنه كثيراً ما كان قد سمع عن ذلك بعد كل ذلك العناء الذي عاناه في دنياه برغم قلبه المليء بالخير.

طالع جسده الفارع في صفحة الماء الرقراق. بهرته الطبيعة بطفولتها الأولى فتمنى أشياء كثيرة. ولانه لم يكن بالمكان أحد سواه فراح يتجول وحيداً من شجرة إلى شجرة، ومن نبع إلى نهير، ومن أرض لينة إلى أرض جافة، وقد ظللتها جميعا أشجار باسقة تصدح الطيور المختلفة فوق أغصانها وتتسلل أشعة الشمس حذرة خجولة من خلال أوراقها الخضراء.

تنهد بصفاء وراحة بال لم يعهدهما في حياته أخيراً وصل إلى الملاذ. حيث الأمان واللقاء والعودة إلى زمن البراءة.

بدت من خلف شجرة الليمون تنثال خصلة كبيرة من شعرها الذهبي على جبينها الوضاء. برقت عيناها الفيروزتان بلمعة جميلة محببة. تسمرت عيناه في نظرتها.

اقتربت منه. قالت في صوت ملائكي ناعم:

- أهلاً بالبطل حفيد جيل الشهداء العظام مندهشا سأل: أنا؟!.

- نعم آخر الشهداء الذين زرعوا الخير ولم يجنوا إلا الحصرم.

شدت على يده فاحتوى كفها في كفه ورفعها إلى شفتيه فلثمها برقة فسرى في جسده خدر غريب.

استرسلت: هذا يومك الأول بيننا، ولقد زدت الروض جمالاً على جماله!

بخجل ودهشة قال: الروض جميل بأهله!

قادته من يده إلى شجرة كبيرة وارفة الظل حيث كانت تتدلي ثمار البرتقال من غصون شجرة مزهرة مضيئة.

جلسا على مقعد حجري أسفل الشجرة. طرقعت الهواء بأصابعها، فظهر غلام صغير يحمل بين ذراعيه صينية مزدانة بحبات الثمار المختلفة وانتصبت في وسطها قارورة كبيرة من شراب فاخر يحيطها قدحان مذهبان.

ملأت قدحة بالشراب وهمست: أشرب يا مولانا.

سري أريج الشراب، وتخدرت الشعيرات والأغشية الخلايا فقبض على معصمها بأطراف يديه وراح يمطره بقبلاته ولثماته فامتلأ جسده بنار مشتعلة، همست:

- أشرب.

- انتشيت قبل أن يتذوق لساني قطرة واحدة.

- اشرب لتصل إلى القمة.

- أنا فوقها بالفعل.

ومد يده وتجرع الكأس الأولى، فاشتعل رأسه نارا.

- لو أني أعلم أن نهايتي بين ذراعيك لتمنيت الموت منذ زمن بعيد.

- كل شيء بأوانه.

- حدثيني عما يجري هنا.

- هنا

وسكتت هنيهة ريثما تتجرع كأسها ثم استطردت في الحديث:

- هنا حلم المخلصين ومأوى الشهداء ما عاش الأبرار حياتهم إلا من أجل الفوز بمثل ذلك.

- أشعر بعدم الانقطاع!

- إن روحك الخيرة هي هي .. وهذا سر شعورك بأن يومك الأول هنا مجرد استمرار لأمسك البعيد هناك.

حدق في عينيها برهة فبهرة صفاؤها الفيروزي حتى ثمل راسه بنشوة جنونية.. همس:

- وبعد؟!

- عليك أن تعلمنا أي اللذات تفضل؟

- لا أفهم.

عندئذ تناهي إلى أذنيه صداح عندليب يغني فوق شجرة عالية، وإذا كان صوته شجياً جميلا صمت ليمكنه سماعه بوضوح.

وإذ بدا المكان وكأنه غريق في أوركسترا سيمفوني عذب، ظهرت الفتيات الصغيرات من خلف الأشجار المتناثرة يرقصن رقصة شعبية محببة إلى نفسه، وانتهز الفرصة وركز عينيه في العيون الفيروزية فشدته إليها بصفائها.

همس: أرجوك لا أريد شيئا خلا أن تدوم هذه النظرة زمنا أطول أطول أطول. قالت: عليك فقط أن تعترف أنك لست في الدنيا.

- وما الفرق؟

- كبير، فأنت إذ تخلع على كل المفردات من حولك صفات دنيوية فإنك بذلك تبخسها حقها. انتهى العندليب من شدوه، فتوقفت الموسيقى، وتوقف الرقص، واختفت الفتيات وبقي هو يغوص في عينيها.

- هتف متسائلاً هل معقول أن تضم العيون كل هذا القدر الخرافي من الجمال؟

- هنا، كل المستحيلات معقولة لفت نظره أنه كان يجلس، هناك على حافة الجدول صديقه أبوالشوارب وبجواره فتاة حسناء طوية ذات شعر أسود ينسدل حتى أواسط خصرها.

- قال: هذا صديقي أبو الشوارب انقطعت أخباره عني منذ زمن.

- نعم: إنه هنا معنا منذ عدد من الشهور وبعد لحظة سألت: بماذا كنت تحلم هناك؟

- بالحب ولا شيء سواه.

- هل وجدته ها هنا؟

- نعم، هنا وجدته

وأشار على حدقتي العينين الواسعتين، فشعر كما لو أنه يغوص في بحر الجنون.

قالت: إذن، ابق فيهما.. ولكن ألا تمل النظر؟!

هتف : لا وألف لا!

- ولكن إذا تحقق هذا، فإنك ستفقد أي شيء جميل آخر هنا.

- لا يهم.

- ربما ينتابك الندم وتصبح نادما محسورا وتفقد الشراب والطبيعة والحور الحسان، وكل شيء كل شيء.

- لا يهم.. وسأجد في عينيك خير بديل.

- إذن، منذ هذه اللحظة أنت في عيني.

كان يعرف أن الملل هو طبيعة الإنسان، وأن أجمل الأشياء تتحول إلى أشياء عادية بمجرد اعتيادها وأن أقبح الأشياء تصبح باعتيادها شيئاً طبيعيا وعاديا.

ومع ذلك، فهو لم يعش حياته غلا متمنيا لحظة لقائه بهاتين العينين. والحقيقة أن جرب ملذات الدنيا وملها جميعا، وجرب الاشتعال والانطفاء، وجرب التأجج والخمود، ظفر بالنصر ومني بالهزيمة، وفي مرات عديدة متتالية، جرب أشياء ربما يصعب تذكرها، أما الغوص في العيون الفيروزية، فتلك أمنية قديمة اشتهاها وعاش من أجلها، ولو أنه عاش عمرا آخر، فلابد أنه سيحاول تحقيقها.. ولذا فقد قبل المجازفة وحذرته مرة ومرات أنه لن يستطيع النكوص في عهده، فإنه إن فعل ذلك سيفقد كل شيء.

ولم يجب.. فقد كان فعلا سبح في بحر الفيروز. ومنذ تلك اللحظة، لم تفارق عيناه عينيها، وتعلقت نظرته بنظرتها.

وشيئا فشيئا، بدأت الأشياء تختفي من حوله، بدأ ذلك باختفاء الأشجار الوارفة الظل والزهور المتفتحة والجداول الجارية، حيث حل محل كل هذا خلاء مترام بلا حدود، وبقيت الشمس التي تلهب ضحاياها بأشعتها الحارقة بلا رحمة. ومع ذلك، ظل يسبح في عينيها مستمتعا بذلك الخدر اللذيذ الذي أصبح لا يفارقه.

ومرت سنوات وسنوات وهو لا يتغير ولا يمل وعندما ذهب ذات مرة إلى حكيم للعيون يشكو التهابا خفيفا بإحدى عينيه، قال له الحكيم بعد أن أجرى الفحوص الواجبة على عينيه:

- كف بصرك منذ زمن طويل!!

صاح في وجهه مكذبا. ودخل في نقاش حاد مع الحكيم، معترضا على تشخيصه ومدعيا أنه يستطيع أن يرى كل شيء. ولما طلب منه الحكيم أن يصف ما حوله، لم يستطع في الحقيقة أن يصف في أي جهة نظر إليها إلا العينين الفيروزتين الجميلتين.

 

أحمد محمد السعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات