تالبا

تالبا

ترجمها عن الإسبانية: محمد إبراهيم مبروك

تداعت ناتاليا بين ذراعي أمها وبكت هناك طويلا ثم أخذت تنتحب في صمت، لقد قاومت ذرف الدموع لأيام طويلة، محتفظة بها حتى رجوعنا إلى ثنثونتلا، وما إن رأت أمها حتى بدأت تحس بأنها تحتاج إلى من يواسيها.

بالرغم من أنها قبل ذلك، وفي قلب الأنباء المرهقة خلال الأيام القاسية، عندما كان لزاما علينا أن ندفن تانيلو في حفرة بأرض تالبا، دون مساعدة من أحد، عندما كنا هي وأنا، نحن الأثنان، وحدنا استجمعنا قوتنا وبدأنا نحفر القبر ونجرف التراب خارجه بأيدينا، آملين أن نواري تانيلو في الحفرة بأسرع ما يمكن حتى لا نثير خوف أحد من أنفاسه المثقلة برائحة الموت، حينذاك لم تكن تبكي.

وحتى بعد العودة، في سكة الرجوع، أثناء رحيلنا بالليل، ودون أن ننال أي قدر من الراحة، مضينا نتحسس بأقدامنا، كما لو كنا نسير ونحن نيام، فوق قبر تانيلو، بدت ناتاليا في ذلك الحين متماسكة وتحمل قلبا جامدا، محتملة كل ما يعصف بداخلها دون أن تنحدر من عينيها دمعة واحدة.

لقد أتت إلى هنا عند أمها لكي تنهار باكية، أتت إلى هنا لا لشي سوى أن تحزنها وتدعها تعرف أنها تقاسي، وفي الوقت نفسه تحزننا كلنا لأنني أحس ببكائها في داخلي، كما لو أن عليها أن تعتصر الدموع للتخلص مما بقي من ذنوبنا.

ذلك لأن الحقيقة هي أننا قتلنا تانيلو سانتوس فيما بيننا، ناتاليا وأنا، لقد مضينا به إلى تالبا لكي يموت، ولقد مات، كنا نعرف أنه لن يتحمل عناء طوال الطريق، ومع ذلك فقد أخذناه ودفعناه للذهاب فيما بيننا، نحن الاثنان، إذا فكرنا بأن علينا أن نتخلص منه للأبد، وذلك ما فعلناه.

فكرة الذهاب إلى تالبا جاءت من أخي تانيلو نفسه، وقبل أن تطرأ على ذهن شخص آخر، طرأت على ذهنه هو، وكان ذلك من سنين ، في صباح ذلك اليوم الذي صحا فيه على طفح بثور بنفسجية منتشرة بذراعيه وساقيه ثم انقلبت إلى قروح حيث صارت تفرز بدلا من الدم سوائل صفراء لزجة، منذ ذلك الوقت وأنا أتذكر جيدا أنه قال لنا، كم أنه يشعر بالخوف ألا يشفى من هذا المرض، لذلك فعنده أمل في أن يزور عذراء تالبا، فمشاهدتها كافية لأن تشفى تلكل القروح، وبالرغم من أنه يعرف كم أن تالبا بعيدة، وأن علينا أن نقطع الطريق بطوله سيرا على الأقدام تحت وقدة الشمس طوال النهار، وفي البرد طوال الليل في شهر مارس، فلقد اصر على أن نذهب ، فالعذراء الصغيرة سوف تقدم له العلاج الشافي من قروحه هذه التي لم تجف أبدا.

ولذلك انتهزنا الفرصة ، ناتاليا وأنا لنشجعه على الذهاب، وكان لابد من ذهابي معه ، لأنه أخي، وناتاليا لم يكن أمامها إلا أن ترافق تانيلو في هذه السفرة أيضاًن لأنها على أية حال زوجته، فلا بد أن تلازمه وتأخذ بيده لتكون سندا له في طريق الذهاب، وربما أيضا في طريق العودة فيستند إلى كتفيها راجيا تحقيق أمله.

كنت أدر بالفعل، ومن قبل ذلك، ما كان يدور في عقل ناتاليا، فأنا أعرف سرها، وأعرف مثلا منهما سخونة الأحجار تحت وقد الشمس الظهيرة، وكيف ظلا متروكين وحدهما لزمن طال، نعم أنا أعرف ذلك منها، لقد قضينا معا، بمفردنا ، أوقاتا طويلة، وحدث ذلك مرات عديدة، لكن دائما كان يحول بيننا شبح تانيلو، كنا نحس بيده المليئة بالقروح تحط بيننا وتحمل ناتاليا على مواصلة الاهتمام باموره، وأن ذلك سوف يستمر مادام على قيد الحياة.

أنا أدرك الآن أن ناتاليا يسيطر عليها الإحساس بالذنب والندم على ما جرى ، وأنا أيضا في الوضع نفسه، ولكن لا الإحساس بالذنب ولا الندم سيخلصنا من تأنيب الضمير أو يمنحنا السكينة أبدا، ولن يسهل علينا الأمر ، إننا كنا نعرف أن تانيلو في كل الأحوال كان مقضيا عليه بالموت، لأن أجله قد حان ن وأنه لن يفيده بشئ ذهابه إلى تالبا، مثلما لن يفيده لو ذهب لأبعد منها، لأنه من المؤكد كان سيموت هناك مثلما كان سيموت هنا، وربما طال عمره قليلا هنا عن هناك بسبب كل ما لقيه من عذاب السير والدم الغزير الذي نزفه وغيظه وكل ما صادفه، بما في ذلك كل تلك الأمور التي جرت وانهالت عليه مرة واحدة لتقتله على الفور، والأمر السيء الذي اقترفناه هو أن ناتاليا وأنا حملناه حملا على مواصلة السير في الوقت الذي بات لم يعد راغبا فيه، عندما أحس بأنه ما من فائدة يمكن أن تعود عليه من الاستمرار، واخذ يتوسل إلينا أن نعيده، وفي المرات التي كان يقع منا فيها ويتمدد على الأرض، كنا نرفعه ونحمله من فوق الأرض ليواصل السير غصبا عنه ونحن ننهره صارخين فيه بأن يستحيل علينا الآن أن نعود، " إننا الآن أقرب إلى تالبا من ثنثونتلا" هذا ما قلناه له، ولكن تالبا في ذلك الوقت كانت لم تزل بعيدة ، أبعد من أن نصلها قبل عدة أيام.

إنني أتذكر بوضوح تلك الليالي، في البداية كنا نستضيء بإشعال النار في أفرع من أشجار الصنوبر ، بعد ذلك كنا نترك الرماد يتراكم فتختنق ألسنة اللهب وتسود الظلمة ، بعدها نفتش ، ناتاليا وأنا ، عن ظل أي شي حتى نتوارى فيه من الأضواء الواهنة التي تعكسها المساء على الأرض.

وهكذا نلوذ ببقعة موحشة من الأرض المحيطة بنا، بعيدا عن عيني تانيلو ولا يمكن رؤيتها في ظلمة الليل، وفي تلك البقعة النائية تدفعنا الوحشة، ناتاليا وأنا ، كل واحد نحو الآخر، عن نفسي فإنني كنت أضم جسم ناتاليا بين ذراعي، ذلك كان يعزيها فتحس كما لو أنها تتخفف من متاعبها ، وكان عليها أن تطرح وراءها همومها التي لا حصر لها، بعدها يغلبها النعاس وتترك جسمها يغوص في راحة تغمرها.

كثيرا ما كانت الأرض التي كنا ننام عليها سخنة، ومع سخونة الأرض يسخن على الفور لحم جسم ناتاليا امرأة أخي تانيلو، عندها تستحيل تلك السخونة منهما معا إلى حريق يجعل الواحد يفيق من أحلامه، ولحظتها أشعر براحتي تزحفان وتروحان تتحسسان ظهرها: تروحان وتجيئان فوق بشرة تلك الأقرب لجمرة تحترق ببطء دون لهب مثلما كانت تفعل وهي تتنفس، في الأول بكل رقة، لكن فيما بعد تسرع يداي لتعتصر أنها بقوة ، كما لو كانتا تتشهيان أن تطفو من لحمها الدماء، وهكذا مرة فمردة ، وليلة إثر ليلة، حتى يبزغ الفجر، وتطفئ النسائم الباردة نيران جسدينا، ذلك ما كنا نفعله ناتاليا وأنا على جانب الطريق المتجه إلى تالبا، حينما ذهبنا بتانيلو حتى ترفع العذراء عنه البلاء الذي ابتلى به.

الآن كل الأمور قد أنتهت، بل إن تانيلو قد استراح من حياته نفسها، وبالفعل، فلم يعد باستطاعته تذكر أي شيء عن الأهوال التي تحملها ليدفع ثمن أن يبقى حيا، بجسمة الأقرب للتفسخ، وجلده ، المتورم بالصديد الضارب في جوانبه كلها ليسيل من كل جرح مفتوح بساقيه أو ذراعيه، محدثا قروحا هائلة تصل لدرجة التهتك فتتفتح ببطء شديد، وتنبعث من لحم أدركه الفساد، وذلك كله هو ما كان يصيبنا بالرعب.

ولكن بما أنه قد مات ، فالنظرة الآن إلى ذلك قد اختلفت فالآن ترى ناتاليا تبكي عليه، وربما لأنه يرى من المكان الذي يرقد فيه كل تأنيب الضمير الهائل الذي تنوء به روحها، فهي تتكلم عن أنها تشعر بوجه تانيلو مبتلا دائما بالعرق في الوقت الذي تخذله فيه قواه على تحمل آلامه، أنها تشعر به وهو يلوذ بها مقتربا من فمها، مخبئا نفسه في شعرها، متوسلا إليها بصوت لا يكاد يسمع أن تأخذ بيده ، تقول إنه يقول لها بأنه أخيرا قد شفى تماما في نهاية الأمر، وأنه لن تفزعه الآلام بعد ذلك " الآن أستطيع أن أحيا معك ياناتاليا، ساعديني لأحيا معك " هي تقول أنه قال لها ذلك.

كنا قد غادرنا تالبا على الفور، أول ما أودعناه هناك وأتممنا دفنه في تلك الحفرة الطولية التي حفرناها عميقة جدا لندفئه فيها.

ومن ساعتها نسيتني ناتاليا.

لقد تأخر عثورنا على الطريق الرئيسي المؤدي إلى تالبا عشرين يوما ، وحتى ذلك الوقت، كنا وحدنا نحن الثلاثة فقط إلى أن عثرنا على الطريق، ومن هنا بدأنا ننضم للناس التي كانت تهل وتتدفق مثلنا في مجرى ذلك الطريق الواسع فتبدو كتيار ذاخر في مجرى النهر، تيار يدفعنا بقة من كل ناحية للإسراع في السير للأمام، كانوا يحملوننا على المضي بينما تلفنا دوامات من التراب تتصاعد من الأرض مع حركة تدافعهان تراب أبيض كدقيق الذرة يرتفع عاليا جدا ثم يعود ليساقط ، إلا أن تدافع الأرجل وهي تسرع في مشيتها يثير التراب وراءها فيندفع عاليا من جديد، وهكذا طوال الساعات في ظل التراب يثور في دوامات فوقنا وتحتنا، وفوق الأرض، في الأعالي، كانت السماء خاوية، وما من غيمة بها، وليس سوى التراب، وسوى أنه لا يمنحنا أي ظل .

لم يحدث أبدا أن أحسست ببطء الحياة والقهر فيها مثلما أحسست بذلك ونحن نتخبط في سيرنا وسط حشد من الخلق، وكما لو كنا كومة هائجة من الديدان تتقلب وتتكوم تحت الشمس، نتلوى في حبسة التراب الذي حاصرنا وساقنا جميعا في الطريق نفسه، ومضى بنا كالأسرى ، تتابع عيوننا سحائب التراب ثم تحدق فيه كما لو أنها تواجه بشئ لا يمكن اختراقه، والشمس دائما رمادية، أقرب إلى لطخة رمادية ثقيلة تهبط علينا من فوق رءوسنا كلنا، لعدة مرات فقط حدث عندما كنا نعبر أحد الأنهار، أن كان التراب عاليا جدا وشفافا، فأخذنا نغطس رؤسنا الحرانة التي اسودت في المايه المخضرة ، وفي وقت قصير بدأ يتصاعد دخان أزرق منا كلنا، مثل البخار الذي يندفع فمك أيام البرد، لكن بعد فترة وجيزة تغطينا مرة أخرى بالتراب إذ دخلنا في دواماته غائصين فيه ونحن نتوارى ببعضنا البعض إتقاء لحرارة الشمس التي تنتصب فوق رأس كل واحد منا.

في وقت ما سيحل الليل، وعلينا أن نعمل حساب ذلك، الليل سيحل وعلينا أن نرتب أمورنا لنستريح،الآن نحول أن نقضي النهار، أن نجتازه كيفما كان وبأي شكل لنهرب من القيظ والشمس المتسلطة، بعد ذلك علينا أن نتوقف، ما علينا أن نوقف به حالا هو أن نبذل الجهد مضاعفا للمضي بسرعة خلف الكثيرين مثلنا وأمام كثيرين آخرين، هذا ما علينا أن نحاوله، ولسوف نحصل على راحتنا بشكل طيب ، وبشكل طيب أكثر حينما نصبح أمواتا.

لقد فكرنا في ذلك، ناتاليا وأنا، وربما أيضا تانيلو حينما بدأنا السير في الطريق الرئيسي إلى تالبا، خلال المسيرة، تمنينا أن نكون أول الناس الواصلين إلى العذراء، قبل أن تكون معجزتها قد تحققت وفاتتنا.

لكن وضع تانيلو بدأ يسوء، ووصل إلى النقطة التي لم يعد يرغب فيها مواصلة السير، فلقد تشقق لحم قدميه ومن خلال ذلك الشق الكبير بدأ دمه ينزف بغزارة ، أخذنا نعالجه حتى تحسنت حالته، ومع ذلك، ظل غير راغب في مواصلة السير. " سأقعد هنا يوما أو يومين، بعد ذلك سأرجع إلى ثنثونتلا " هذا ما قاله لنا.

لكن ناتاليا وأنا لم نكن نرغب في الرجوع ، شيء ما في داخلنا لم يترك أي فرصة للإحساس بالشفقة على واحد مثل تانيلو، لقد أردنا الذهاب به إلى تالبا لأنه، في الحالة التي كان عليها، بدا وكأن حياته تطول أكثر من اللازم، ولذلك فعندما كانت ناتاليا تغسل قدميه وتطهرهما بسكب قليل من زجاجة شراب العرق عليهما لكي يقل تورمهما بعثت في روحه الطمأنينة وهي تمنيه بأن عذراء تالبا فقط هي التي ستشفيه، وأنها الوحيدة التي بمقدورها أن تشفيه تماما، هي ولا نحتاج لأكثر منها على الرغم من وجود الكثيرات، لكن فقط عذراء تالبا هي أحسن واحدة فيهن، ذلك ما قالته له ناتاليا، عندئذ أخذ تانيلو في البكاء بدموع جرت خلال الطين الذي لوث وجه من دوامات التراب والعرق الذي ينثال بلا توقف، بعدها لعن تانيلو نفسه لأنه ضل عن الصواب. مسحت ناتاليا دموعه بطرحتها، وفيما بيننا أنهضناه من فوق الأرض حتى يمشي مرة أخرى أطول وقت ممكن قبل حلول الليل وهكذا ونحن نجره طوال الطريق وصلنا معا إلى تالبا.

ونحن أيضا كلنا قد تعبنا في الأيام الأخيرة ناتاليا وأنا، كنا نحس بأجسادنا وهي تنحني منا شيئا فشيئاً، كما لو كنا نحتفظ بسر ما، يلقى بحمله الثقيل فوق كاهلنان وكثيرا ما كان تانيلو ينكفئ ويقع منا على الارض، وكان علينا أن نرفعه ليواصل السير، وأحيانا لم يكن أمامنا إلا أن نحمله على أكتفانا، وربما بسبب ذلك صار حالنا ما صار إليه، بأجساد منهكة بلغ بها التعب أنها توقفت عن السير، لكن الناس التي كانت تسير من حولنا جعلتنا نواصل السير، بل ونسير بسرعة أكبر.

لقد دخلنا تالبا ونحن نترنم بأناشيد صلوات تسبيح الفجر.

كنا قد غادرنا ثنثونتلا في منتصف شهر فبراير ووصلنا إلى تالبا في الأيام الأخيرة من مارس، ويومها كان كثير من الخلق في طريق العودة، ويرجع كل ذلك إلى أن تانيلو اندفع في أداء شعائر التوبة أو إماتة النفس.

فما إن وجد نفسه محاطا بخلق يضع كل واحد منهم واحدة من أوراق نباتات الصبار متدلية على كتفه كوشاح الرهبان حتى فكر في أن ينضم إليهم هو أيضاً ويأخذ دوره بينهم ويعمل ما عملوه، فعمل رباطا يقيد كلا من قدميه بالأخرى، من أكمام قميصه، حتى يجعل مشيته، منكسرة أكثر، بعدها رغب في وضع إكليل الشوك على رأسه، ثم بعد وقت قصير ربط عصابة على عينيه، وفي نهاية كل ذلك ، في المسافة الأخيرة من الطريق ركع على الأرض، وعلى هذا النحو راح يتحرك زاحفا على صابونتي ركبتيه ملقيا بذراعيه المتقاطعتين خلف ظهره، هذا الشيء كان أخي تانيلو سانتوس، هذا الشيء المختفي تماما تحت الأربطة والضمادات وخيوط الدم المتجلطة القاتمة المكشوفة في الهواء والرائحة النفاذة، رائحة الصنان والتي تنبعث منه عند مروره كما لو كانت تنبعث من حيوان نافق.

وحيث لا نتوقع أن نراه أبدا، وجدنا ناتيلو وسط جماعة الذاكرين وبصعوبة تبينا ما حدث، إذ وقف هناك بـ " شخشيخة " في يده بينما كان يخبط الأرض في عنف بقدميه اللتين تغطيهما كدمات زرقاء ، مظهر حماسته كما لو كان يبذل أقصى جهوده حتى يبقى على قيد الحياة لأطول وقت ممكن.

هذه هي الحالة التي رأيناه عليها ناتاليا وأنا لبرهة، لكن بعدئذ رأيناه رافعا ذراعيه ثم أخذ يخبط جسده بالأرض، وما زالت " الشخشيخة" ترسل أصواتها متقطعة بين يديه الملطختين بالدم.

انتزعناه جرا، آملين أن نحميه من أن تدوسه اقدام الذاكرين المتوفزة وهي لاتني تدور فوق الرمل والحصى وتقفز وتسقط لتدك الأرض دون أن تعي أن شخصا ما قد سقط وسطها.

وصلنا به للكنيسة وهو منفرج الساقين كما لو كان مشلولا، دخلنا وجعلته ناتاليا يركع بجوارها أمام تلك الأيقونة( الصورة) الملونة، والتي كانت هي عذراء تالبا، وبدأ تانيلو يصلي وترك دموعا غزيرة تتساقط، صادرة عن اعمق أعماقه، مطفئة الشمعة التي كانت ناتاليا قد أعطتها له وجعلتها بين يديه، لكنه لم ينتبه لانطفائها بين يديه، فالنور ، الذي كان ينبعث ويشيع من هناك ، من تحت صورة العذراء، لم يجعله ينتبه للنور الذي خبا بين يديه، واصل صلاته بشمعه المطفأة، وأخذ يصبح صارخاً بصلواته كما لو كان يحدوه الأمل في أن يسمع صوت صلاته.

إلا أن كل هذه الصلوات الصارخة لم تنفعه بشيء، إذ إنه مع كل ذلك قد مات.

كان يمكن سماع جلبة الذاكرين خارج الكنيسة ، الدفوف، المزمار، وأصوات الأجراس حينئذ حان وقت الحزن الذي غمرنين والذي رأيت أكثر ما في الحياة ، ممتلئا بالحياة. ورايت العذراء هناك، أمامنا تماماً، تمنحنا بسمتها، ورأيت من ناحية أخرى تانيلو، كما لو كان حاجزا بيني وبينها، وهذا هو ما أحزنني.

لكننا ذهبنا به إلى هناك لكي يموت، وهذا ما لا يمكنني الآن كلانا في ثنثونتلا ، لقد عدنا من دونه، ولم تسألني أم ناتاليا عن أي شيء، لا ما قد فعلته مع أخي تانيلو، ولا أي شيء آخر، وانهارت ناتاليا باكية فوق كتفيها وحكت لها، بهذه الطريقة ، كل ما جرى.

وأنا أبدأ في الإحساس بأننا كما لو كنا لم نذهب إلى أي مكان، مثلما كنا نأتي إلى هنا فيما مضي، لنستريح، ثم نواصل السير بعد ذلك ، لا أعرف إلى أين، لكن علينا أن نواصل، لأننا هنا قريبان إلى أٌقصى حد من تأنيب ضميرنا وتذكر تانيلو.

ربما حتى أننا قد بدأنا نخاف ، كل منا من الآخر، كل تلك الأفعال التي لا تقول اي شيء، منذ خروجنا من تالبا، ربما تريد أن تفضح كل شيء، ربما لم يتركنا نحن الاثنان جسد تانيلو الملازم لنا ممدا وملفوفا بالحصيرة، تغطيها من الخارج والداخل أسراب الذباب الأزرق في اضطرابه الهائج بطنينه المنبعث من هناك وغطيط هادر يصاعد خارجا من فمه، من ذلك الفم الذي لم يكن بالإمكان قفله بالرغم من محاولاتنا ناتاليا وأنا، والذي بدا كما لو أنه بحاجة ورغبة في التنفس، لكنه لا يجد ما يتنفسها، أما عن تانيلو ذاك الذي لم يعد باستطاعه شيء أن يؤلمة، سوى أنه ما برح يتألم بذراعيه وساقيه التالفتين وعينيه المفتوحتين على اتساعهما كما لو كان يشاهد موته بنفسه، وقروحه المنتشرة هنا وهناك تنز ماء أصفر، وتنبعث منها تلك الرائحة التي تشيع في كل النواحي ، ويمكن الإحساس بها في الفم، كما لو كان الواحد يتذوق عسلا غليظ القوام ، والرائحة النفاذة تمتزج بالدم مع كل شهقة هواء.

ربما سيكون ذلك ما سنظل نذكره دائما : تانيلو ذلك الذي دفناه في مقابر تالبا ولأجله ظللنا ناتاليا وأنا نهيل الحصى والردم فوقه حتى لا تنبش قبره وتخرجه حيوانات التلال المتوحشة.

 

 

خوان رولفو

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات