تأملات في ترجمة الأدب العربي

تأملات في ترجمة الأدب العربي

محاضرة ألقاها: دنيس جونسون ديفز *
ترجمة: كامل يوسف حسين **

لا حصر للمرات التي وجّه إليّ فيها سؤال عن الوضعية الراهنة لحركة ترجمة الأدب العربي الحديث، سواء كان ذلك في حوارات صحفية أجريت معي، أو في لقاءات مع الجمهور، أو في جلسات مع الأصدقاء والأدباء والكتّاب والمعنيين بالأدب العربي الحديث .

في كل الأحوال، ومن دون استثناء واحد، لم تكن لديّ إجابة واحدة عن هذا السؤال يمكن تشبيهها بعصا سحرية، تزيل بحركة واحدة ما يكتنفه من غموض. مرد ذلك أن الإجابة متعلقة بأكثر من جانب واحد، وبالعديد من المتغيرات، فهناك - بالطبع - الأصل أو المنبع، أي الأعمال الأدبية العربية الصالحة للترجمة، التي يمكن أن يتحمس لها القارئ الأجنبي، وهناك أيضًا وجود المترجمين المؤهلين لإنجاز عمليات الترجمة بالمستوى المطلوب، وفضلاً عن ذلك لابد من توافر الظروف الموضوعية التي تجعل مثل هذا الجهد عملاً مؤثرًا، ويمكن أن يتحول إلى تغيير نوعي في الاهتمام بالأدب العربي، بما ينعكس بالإيجاب على هذا النوع من النشاط.

لابد من ملاحظة أنه على امتداد وقت ليس بالقصير حاول تيار استشراقي لا يفتقر إلى القوة ولا القدرة على التأثير إبقاء ترجمة الأدب العربي في إطار خزانة مغلقة على قلة محدودة، بحيث تتحول هذه الترجمة إلى نشاط مدرسي يقتصر على قلة محدودة من الدارسين والباحثين.

غير أن هذا الواقع ما كان يمكن أن يستمر إلى الأبد، وكان من المحتم أن يتم التمرد عليه، وإخراج ترجمة الأدب العربي من قبو الدراسة المتخصصة الضيقة إلى فضاء الإبداع الرحب.

وعلى الرغم من الوضعية الواعدة حاليًا لحركة ترجمة الأدب العربي الحديث، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا أن هذه الوضعية تظل في النهاية بعيدة عن أن تكون على مستوى ما نتمناه لها، أو ما نحلم به، أو ما ينبغي أن يكون. وفي اعتقادي أن هذه المناقشة لاتجاهات حركة ترجمة الأدب العربي الحديث ليست بعيدة عن حصولي على جائزة شخصية العام الثقافية، التي تعد أبرز الحقول التسعة المندرجة في جائزة المغفور له - بإذن الله تعالى - الشيخ زايدبن سلطان آل نهيان للكتاب.

اتجاهات في حركة الترجمة

لقد أتاح لي هذا الحدث الكبير في حياتي المجال للتأمل طويلاً في الاتجاهات التي تشقها حركة الترجمة هذه، التي أمضيت تحت آفاقها ستين عامًا من العمل والنشاط المتواصلين.

نعم، لقد ابتهجت أشد الابتهاج بحصولي على هذه الجائزة، لأنها اعتراف طال انتظاره بما كنت أحاول القيام به للأدب العربي الحديث على امتداد عقود طويلة من الزمن.

على امتداد سنوات طويلة، وصلت إلى مسامعي أنباء عن تكريم منتظر لي في هذه العاصمة العربية أو تلك، في ضوء حياتي العملية التي امتدت، كما أشرت، أكثر من ستين عامًا في تقديم الأدب العربي للعالم. لكن أيا من هذه الأنباء لم يترجم إلى واقع معيش.

في نهاية المطاف، وصلت الأمور بي إلى عدم التفاؤل في ما يتعلق بإمكانية تحقق هذا التكريم، أو فوزي بأي جائزة على الإطلاق. ودرجت زوجتي، باولا كروشياني، حرصًا منها على ألا أصاب بمشاعر خيبة الأمل، على أن تقول لي إنه يتعين عليّ نسيان كل ما يتعلق بهذا الجانب، وهو ما حدث بالفعل. غير أن هذه الجائزة التي ارتبطت باسم المغفور له - بإذن الله تعالى - الشيخ زايد بن سطان آل نهيان، الذي شرفت بلقائه قبل عقود طويلة، كانت هي التي غمرتني في نهاية المطاف بهذا التكريم النبيل، رفيع القدر، الذي أعتز به أشد الاعتزاز.

لقد أحسست، على امتداد زمن ليس بالقصير، أنه باستثناء قلة محدودة من أصدقائي في مصر وأجزاء أخرى من العالم العربي، أن العرب بصفة عامة ليسوا مهتمين بجعل أدبهم معروفًا في العالم الخارجي، وبالمقابل فإن هذا على وجه الدقة بدا بالنسبة لي أمرًا ذا أهمية فائقة، فهو يضع العرب وأدبهم على خارطة العالم.

بينما كان بعض الأفراد، وبصفة خاصة الكتّاب ومن يهتمون بالأدب، مدركين لأهمية ترجمة نماذج من الأدب العربي الحديث، إلى الإنجليزية ولغات أخرى، فإن المسئولين في العالم العربي، وتلك المؤسسات التي كان ينبغي عليها أن تهتم بالجهود التي أبذلها، لم يبدوا اهتمامًا يذكر بما كنت أقوم به.

من الغريب أن مبلغًا محدودًا للغاية من المال كان هو المطلوب لإنقاذ سلسلة الكتب المترجمة من العربية إلى الإنجليزية التي كنت قد أطلقتها مع الناشر الإنجليزي هاينمان، وقدمت عبرها أعمال الكتّاب العرب البارزين في ذلك الوقت - نجيب محفوظ، الطيب صالح، توفيق الحكيم، محمود درويش... إلخ - وعلى الرغم من ذلك فإن مثل هذا المبلغ لم يتأت الحصول عليه من العالم العربي.

لقد أوردت في كتابي «ذكريات في الترجمة» بعض الجهود التي بذلت لإنقاذ هذه السلسلة المهمة من المصير الذي انتهت إليه، وأشرت إلى مبادرة الشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور إلى التوقيع بصفته رئيسًا للهيئة المصرية للكتاب على طلب بشراء مئة نسخة من كتاب كان قد صدر عن السلسلة لأحد الكتّاب المصريين، ولكن هذه المبادرة النبيلة من الشاعر الإنسان كانت هي الاستثناء من القاعدة، التي درج عليها المسئولون العرب في المواقع المناظرة، ثم إن الهيئة المصرية العامة للكتاب على لسان رئيسها الذي خلف صلاح عبد الصبور بعد رحيله عن عالمنا رفضت الوفاء بالتزامها بشراء هذه النسخ المئة نفسها.

وما يمكن أن يقال في هذا الصدد كثير، ومرير، ولست أريد تكراره في هذا السياق، فمن شاء فليعد إليه في كتابي الصادر عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة باللغة الإنجليزية ودار اليربوع الدبوية باللغة العربية.

كتب لا تشترى

يمكن، بالطبع، أن يقال إن البلاد التي أنجبت الكتاب الذين كانت أعمالهم تترجم لم تكن غنية، بينما البلاد الأخرى التي أصبحت غنية بفضل النفط، لم يكن لديها مثل هؤلاء الكتّاب. غير أنني أتذكر أنه في إحدى المناسبات عندما كنت في زيارة لقطر هنأني عيسى الكواري، وزير الإعلام القطري آنذاك على العمل الذي كنت أنجزه، وطلب مني إعلامه عندما أكون على أهبة إصدار كتاب جديد لكي يتمكن من شراء 001 نسخة منه. وقد كان هذا أمرًا استثنائيًا للغاية، بحيث أنه بقى عالقًا بذهني.

أليس أمرًا محزنًا أنه عندما أصدرت دار نشر جامعة أكسفورد، وهي ناشر متميز، المجموعة الأولى ذاتها من القصص القصيرة من العالم العربي، لم تقم دولة أو مؤسسة عربية واحدة بشراء نسخة واحدة من الكتاب؟ لا عجب أنني عندما اتصلت، أخيرًا، بالمسئولين عنها لتقديم مجلد آخر من مثل هذه القصص، قيل لي إن مجلدات القصص القصيرة لا تجلب عائدًا (وذلك على الرغم من أنهم قدموا لتوّهم مجلدًا يضم قصصًا يابانية).

الحقيقة هي أن العالم العربي لا يبدي كبير اهتمام بنشر الكتب بصفة عامة، وعلى سبيل المثال، فإن بلجيكا تنتج من الكتب سنويًا مايزيد على ما ينتجه العالم العربي، وهناك اهتمام أقل بنشر الكتب المترجمة. أتذكر أنني عندما دعيت إلى العاصمة الأردنية، عمان، لزيارة مؤسسة عبدالحميد شومان الثقافية، ذكرت خلال المناقشة مع الجمهور أن الحكومات العربية ليست مهتمة بالمساعدة في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، فوقف أحد الحاضرين في صفوف الجمهور، وقال متسائلاً: لماذا ينبغي أن يساعد العرب في ترجمة أدبهم، بينما القارئ الإنجليزي هو الذي سيستفيد من توافر الكتب العربية بلغته! وقد وجدت أن من المتعذر أن أشير إلى أن الأدب العربي هو الذي سيستفيد من قراءته على امتداد العالم.

من المحزن أنه بينما ندين للمترجمين بمعرفتنا بالأعمال الكلاسيكية اللاتينية واليونانية العظيمة والأدب العالمي عمومًا، فإن قلة محدودة منا هي التي تدرك هذا الدين. فمن ذا الذي يعرف أسماء مترجمي أعمال تولستوي ودستويفسكي وبروست؟ هل كان يمكن لنجيب محفوظ أن يفوز بجائزة نوبل لو أن أعماله لم تترجم؟ من الذي يمكنه قراءة كلمة عربية واحدة من بين أعضاء اللجنة الملكية التي تحدد الفائز بالجائزة؟

إن الأمر يبدو كما لو أن هذه الترجمات قد أبدعتها ماكينة غامضة من نوع ما! ولقد تم تذكيري بالحقيقة المحزنة القائلة إن اسم مترجم كتاب ما لا يعلق بالذاكرة عندما أبلغتني إحدى السيدات أنني ينبغي حتمًا أن أقرأ رواية بالغة الروعة تحمل عنوان «موسم الهجرة إلى الشمال» أبدعها كاتب سوداني يدعى الطيب صالح. وعندما رأتني المرأة حائرًا لا أدري ماذا عساني أقول، أضافت: «أوه، هل قرأتها بالفعل؟». ترى أي رد كان يمكنني طرحه عدا القول: «طيب، لقد كنت أنا بالفعل مَن ترجم هذا الكتاب!».

بينما يدرك الناس أن بعض الكتّاب يكتبون بصورة جيدة، والبعض الآخر لايكتبون بالدرجة ذاتها من الجودة، فإن الشعور نفسه ليس موجودًا في ما يتعلق بالمترجمين، ولا يتم حقًا تقدير أن الترجمة فن، وليست علمًا، ومما له مغزاه أن المترجمين، بمن في ذلك مترجمو الأعمال الأدبية يدفع لهم أجرهم مقومًا بالكلمة.

سيشهد المستقبل القريب دفقًا من الأعمال المترجــــمة التي تعكــــس أفضــــل ما ينــــتجـــه الأدب العربي الــــحديث، خاصة مع تزايد الإدراك لأهمية العمل على هذا الجانب، وبدء شخصيات ومؤسسات عربية بارزة في دعم هذا العمل.

وبالنسبة لي، فإن العمل الذي يستقطب اهتمامي الآن هـــــو إنــــجاز مجلد من قصــــص أدباء الإمارات يـــضم ما يتراوح بين خـــمس عشرة وعشــــرين قصة لأبــــرز هــؤلاء الأدبــــاء مــع تعريف واف لكل منهــــم، حيث إنني ألاحظ أن معظم هــــؤلاء الأدبــــاء لايعرفـــهم القارئ الغربي، باستثناء أديب كبير مثل محمد المر الذي ترجم له مجلدان من قصصه، أولهما بعنوان «قصص دبوية» من ترجمة بيتر كلارك، والثاني بعنوان «غمزة الموناليزا» من ترجمة جاك بريجز.

وفي قائمة اهتماماتي أيضًا إصدار مجلد يمثل أبرز مسرحيات توفيق الحكيم مع كتابة مقدمة طويلة حول مسرحه، وستقوم دار نشر الجامعة الأمريكية بإصداره برعاية المجلس البريطاني، كما آمل أن تقوم دار النشر ذاتها بإصدار طبعة جديدة من كتاب هو من أول أعمالي المترجمة، كان قد صدر في عام 1947. وكم كان طريفًا بالنسبة لي أن أقرأ على غلاف نسخة من الطبعة الأصلية ما يفيد بأنها كانت تباع بعشرين قرشًا في ذلك الزمان. وقد فرغت لتوي من ترجمة رواية قصيرة للروائي محمد البساطي.
---------------------------
* مستشرق بريطاني مهتم بالأدب العربي وترجمته.
** مترجم من مصر.

أكلَ الحبُّ من حشاشةِ قلبي
والبقايا تقاسمتـها النسـاءُ
كلُّ أحبابي القدامى نسَـوني
لا نُوارُ تجيـبُ أو عفـراءُ
فالشفـاهُ المطيّبـاتُ رمادٌ
وخيامُ الهوى رماها الـهواءُ
سكنَ الحزنُ كالعصافيرِ قلبي
فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ
أنا جرحٌ يمشي على قدميهِ
وخيـولي قد هدَّها الإعياءُ
فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي
وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحزنُ من زمانٍ صديقي
وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ

نزار قباني





 





 





دنيس جونسون ديغز وكامل يوسف حسين خلال إطلاق «ذكريات في الترجمة»