الربو .. ضوء في نهاية النفق

الربو .. ضوء في نهاية النفق

إذا أردنا التحدث بلغة الأرقام، فإن أفضل التقديرات دقة تشير إلى أن نسبة الإصابة بمرض الربو بين سكان العالم تبلغ 7.2% من مجموع السكان، أي أن هناك حوالي مائة مليون مصاب بالربو في العالم. ومع أن هذا المرض غير مميت عادة فإن وفياته تقدرب 40 ألف سنويا على أقل تقدير، وقد يبدو من المذهل أن نعلم أنه في بلدان كأستراليا تبلغ نسبة الإصابة بالربو بين الأطفال 30%، أي أن حوالي ثلث الأطفال في أي وقت مصابون بهذا المرض. وقبل الاسترسال في الحديث عن هذا المرض أحب أن أعرفه بشكل مبسط للقارئ العادي، فالربو هو حالة مرضية تتجلى غالبا بنوبات من ضيق النفس تنجم عن تضيق في لمعة الطرق الهوائية.

ومع أن هذا المرض ليس في خطورة السرطان مثلا على حياة المريض فإن المشكلة الكبيرة الناجمة عنه تتأتى من الإعاقة الدائمة والتأثير على نوعية الحياة التي يمكن أن يسببها للمريض بسبب الطابع المزمن لهذا الداء.

بعكس باقي الأمراض المزمنة التي تميل نسب حدوثها والوفيات الناجمة عنها بشكل عام إلى التناقض بتطور فهمنا لآلياتها وبتطور العلاجات المتوافرة لها، فإن الربو يتفاقم على كلا الصعيدين، مما يضعه في موقع فريد بين الأمراض التي تصيب الإنسان، فما المشكلة؟

الالتهاب مقابل التشنج مع أن حدوث الربو يتعلق بمزيج من العوامل البيئية والوراثية، وأن بعض الزيادة في معدلات حدوث الربو تتعلق بزيادة تعرفنا وتشخيصنا لهذا المرض، فإن زيادة الوفيات الناجمة عنه تعكس بلا شك قصورا في فهمنا وبالتالي علاجنا له.

حتى وقت قريب مضى تركز فهمنا للربو على مفهوم فرط استجابة شعب القصبة الهوائية، والذي يعني عمليا بأن هذه الشعب تكون استثارتها "تقلصها وتضيقها" بواسطة عوامل مختلفة كالدخان أو الهواء البارد أو الجهد، أسهل عند المصابين بالربو منه عند الأشخاص العاديين. وبالرغم من ترافق معظم حالات الربو بهذه الظاهرة فإن التركيز عليها أدى إلى تشتيت انتباهنا عن العامل الأهم المؤدي إلى حدوث الأعراض وحدوث فرط استجابة الشجرة القصبية على السواء وهو التفاعل الالتهابي، أو التهاب باطن القصبات. يتجلى هذا التفاعل، الالتهابي بصفات الالتهاب الكلاسيكية من احتقان وتوذم، كما يتميز بمظاهرخاصة كتوسف الطبقة السطحية والارتشاح بالحمضات " خلايا دموية تضطلع عادة بمهام مضادة للطفيليات وتكثر في حالات الحساسية".

تلعب الحساسية لبعض العوامل الخارجية كطلع النباتات وغبار المنزل والفطور الدقيقة Molds دورا مهما في إحداث هذا التفاعل الالتهابي، وفي حالات أخرى يكون الإنتان الفيروسي هو المحرض، ويصعب في بعض الأحيان تحديد العامل المثير لهذا الالتهاب.

ومهما يكن من أمر العوامل المحرضة فإن النتيجة واحدة وهي الصورة التي ذكرت سابقا من احتقان وارتشاح بالخلايا الالتهابية في جدر الشجرة القصبية، والذي يؤدي من ضمن ما يؤديه إلى فرط تشنج الطبقة العضلية التي تسبب هذا التضيق النوبي في لمعة القصبات.

ولكن لنعد إلى مناقشتنا الأساسية، أي ما هو سبب استفحال هذا المرض على الرغم من التطور الكبير الذي شهدته علاجاته؟

إن الطابع النوبي لمرض الربو وما عرف منذ البداية عن المشاركة الفعالة لتقلص الطبقة العضلية للقصبات في إحداث هذه النوب من ضيق النفس، أدى إلى تركز الجهود العلاجية على محاولة عكس هذا التشنج عن طريق استعمال المركبات المختلفة التي تؤثر على تقلصية عضلية الشجرة القصبية "موسعات القصبات"، كاستعمال مركبات الثيوفيللين والسالبوتامول ومشتقات الأتروبين وغيرها. إلا أنه نتج عن ذلك أن السبب الرئيسي المؤدي إلى خلل في تقلصية الطبقة العضلية وإلى حدوث التضيق في اللمعة التنفسية، أي التفاعل الإلتهابي ترك من دون علاج. ليس هذا فحسب بل إن استعمال هذه المركبات قد أدى عند الكثيرين إلى شعور مؤقت وغالبا كاذب بالراحة مما أدى إلى تأخير استعمال المركبات المضادة للالتهاب وبالتالي إلى تفاقم المرض.

تعددت الأسباب والعلاج واحد

و على الرغم من ظهور بعض مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية أخيراً، كمضادات الليكوترايين، والتي تفيد في معالجة الربو، فإن الستيروئيدات القشرية مشتقات هرمون الكورتيزون الذي تفرزه غدة فوق الكلية أو الكظر تبقى مضادات الالتهاب الأقوى والأهم في معالجة الربو القصيبي. وقد عرف ولوقت طويل تأثير الستيروئيدات الإيجابي القوي على الربو، فما الذي حد من استخدامها الواسع؟ تكمن المشكلة في أنه على الرغم من الاقتناع الكلي بفعالية هذه المركبات في الربو فإن آلية تأثيرها في هذا المرض لم تكن واضحة، كما أن التأثيرات الجانبية التي ترافق استعمالها الطويل أدت إلى تخوف الوسط الطبي وبالتالي المرضي من استعمالها المديد. إلا أنه حصل في الفترة الأخيرة تطوران أساسيان مهمان، أولهما ظهور الستيروئيدات القشرية بشكل استنشاقي موضع "بخاخ" مما يخفض إلى حد كبير من التأثيرات الجانبية المعممة الناجمة عن استعمالها بالطريق العام "عن طريق الفم أو حقنا". وثانيا يشير الكم الهائل من الدلائل التجريبية إلى تثبيط هذه المركبات لكل مراحل التفاعل الالتهابي وذلك بتثبيطها للجينات المولدة للعوامل الالتهابية "وأهمها السيتوكينات وهي وسائط فعالة تطلقها الخلايا الالتهابية". كما بدأت بالتراكم في السنتين الأخيرتين البيانات الدالة على أن الاستعمال المتزايد للستيروئيدات الاستنشاقية على حساب التناقض في استعمال موسعات القصبات، أدى وللمرة الأولى منذ سنين عديدة إلى بدء التناقص في وفيات الربو، كما لوحظ في إنجلترا الدولة التي شهدت إحدى أسوأ صور هذا "الوباء" في العقدين الماضيين.

إلا أنه بقيت بعض المشاكل المتعلقة باستعمال البخاخات، وخاصة بخاخات الجيل الأول، وتلخصت في صعوبة استعمالها من قبل بعض القطاعات كالأطفال والمسنين، كما دلت الدراسات على أن القسم الأكبر من الدواء المعطى عن طريق البخاخ يتوضع في جوف الفم والقسم الأعلى من الجهاز التنفسي ولا يصل إلى الرئة، وهو مكان تأثيره الدوائي في الربو.

ولمعالجة هذه الصعوبات أخذت شركات الأدوية بتطوير أشكال أسهل استعمالا، كالبخاخات المفعلة بالتنفس والتي تعطي المادة الدوائية تلقائيا نتيجة لضغط الهواء السالب الناجم عن استنشاق الهواء الطبيعي خلال عملية التنفس، وإدخال القطع الحجمية على البخاخات. كما أدخل الكثير من التعديلات على سرعة وحجم الجزيئات الدوائية المنطلقة من البخاخ مما أدى إلى زيادة توضع المادة الدوائية في الطرق التنفسية السفلى، مكان تأثيرها المفضل.

المؤسفات الكبرى

1- من المؤسف أن سرعة واتساع تجاوب المجتمع الطبي لهذه التغيرات المهمة كانا محدودين، فلا تزال الممارسات القديمة في معالجة الربو سائدة إلى حد بعيد. كما أن تخوف الرأي العام من الستروئيدات القشرية والتي لعب فيها الوسط الطبي دورا فاعلاً، أدى إلى صعوبة تمييز الإنسان غير المختص للفرق بين استعمال هذه المركبات بشكل استنشاقي موضع، والذي يترافق بتأثيرات جانبية محدودة جدا، من استعمالها بالطريق العام الذي يمكن أن يترافق بتأثيرات جانبية خطيرة في حال الاستعمال المديد. لذلك فالمجتمع الطبي مطالب اليوم بالمساهمة في إزالة مخاوف العامة من هذه الزمرة من الأدوية بنفس الفعالية التي مارس فيها ترهيبهم في السابق.

2- إن العديد من هذه الأدوية الجديدة وخاصة البخاخات غير متوافرة في البلدان النامية، أوأن ثمنها مرتفع في حالة توافرها، وهنا فإن تعاضد المجتمع الطبي مع التنظيمات الأهلية من أجل الضغط لتوفير هذه الأدوية ودعم أسعارها مطلوب جدا، فالأمر لا يتعلق بمرض نادر يصيب القلة، بل بمرض هائل الشيوع يؤثر سلبا على قطاع واسع من المجتمع.

3- إن الطابع المزمن للمرة، وعدم تفهم الكثيرين لمعنى المرض المزمن وفكرة المعالجة المستمرة لفترات تطول حتى سنين عديدة فتح المجال على مصراعيه لدخول المشعوذين في هذه الدائرة ، الذين استفادوا من يأس المرضى الناجم عن عدم شرح الأطباء الكافي لماهية الربو، فأخذوا يبيعون المرضى ما هب ودب من آمال كاذبة ووعود بمعالجات نهائيات تقضي على المرض كليا. فمن حقن لإزالة الحساسية إلى معالجة بالأعشاب، إلى حقن سرية الصيغة تقضي على المرض نهائيا، إلى معالجة بالإبر الصينية إلخ. ولا حاجة بي هنا إلى التنويه بأن إعطاء وعد قاطع بشفاء مرض الربو بغض النظر عن الوسيلة العلاجية المستعملة هو عمل غير أخلاقي، لأنه لا يستند إلى أي أساس علمي، وأن أغلب هذه المعالجات مضرة وبعضها قد يكون مميتا خاصة في يد جاهلة.

إن الربو هو مرض مزمن يصيب قطاعات واسعة من الناس. وعلى الرغم من أن هناك حالات من الربو يمكن أن تشفي نهائيا، كبعض حالات ربو الطفولة والربو الناجم عن عامل محسس ممكن الاستبعاد "كالتحسس التنفسي للقطط"، إلا أن الإزمان هو الطابع المميز للمرض، كما يصعب بحسب معارفنا الحالية إعطاء تنبؤ دقيق حول أي المرضى يمكن أن يتجاوز المرض وأيهم لا؟.

إن تطور فهمنا للدور التفاعل الالتهابي في هذا المرض، إضافة إلى تزايد استعمالنا للستيروئيدات وتطور أشكالها الاستنشاقية، يحمل ولأول مرة منذ سنين عديدة أملا حقيقيا بالسيطرة على الطابع الوبائي للربو والذي نشهده في الآونة الأخيرة.

ومع العلم بأن المرض مزمن غالبا وأن الكثير من المرضى بحاجة للمعالجة المستمرة، فإن العلاجات المتاحة اليوم قليلة الضرر حتى لدى استعمالها لسنين عديدة، كما أنه بتدبير طبي مناسب للمرض وبتثقيف جيد للمريض حول المرض ومحرضاته وأعراضه المنذرة، يستطيع معظم المرضى العيش حياة عادية، مستمتعين بجميع الفعاليات التي يقوم بها غير المرضى، وليس من المستغرب أن نجد أن اثنين ممن فازوا بالميداليات الذهبية في السباحة، وهي الرياضة التي تتطلب أقصى لياقة للجهاز التنفسي، في أولمبياد أتلانتا هم من المصابين بالربو.

 

 

وسيم مزيك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




توم دولان الفائز بالميدالية الذهبية في سباق 400 متنوع في أولمبيادأتلانتا وهو أحد المصابين بالربو، ويبدو في الصورة وهو يستعمل إحدى البخاخات المضادة للربو