بكائية للزمن القديم

بكائية للزمن القديم

حين عدت من المدرسة، كانت أمي قد أغلقت حقيبة جلدية صغيرة، على ما خمّنت أنه ثياب لها. وضعت الحقيبة على كتفها، وأمسكت بيد أختي الصغيرة.

قالت:

- ستصحبني حنان إلى دمنهور، يومين ونعود.

قلت في صوت هامس:

- أروح معاك.

- لا تترك أباك بمفرده. قد يحتاج إليك.

ثم وهي تربت على كتفي:

- كن ولدًا طيبًا، ولا تضايق أباك!

بدت الفكرة مخيفة.

هل أظل مع أبي في البيت بمفردنا؟ هل أعود من المدرسة، ويعود أبي من الدكان، فأواجه القامة الطويلة، الممتلئة، والصوت المرتفع، والعينين النفاذتين، والأصابع التي تكر حبات المسبحة، والأوامر، والنظرات المؤنبة؟

كان خوفي من أبي يغلب ما عداه من مشاعر، أوامره وسحنته الغاضبة ونظراته، تجعل الخوف في داخلي شعورًا وحيدًا. لا أناقش حبي له، وما يعلو به صوته من ملاحظات وأوامر لا تنتهي.

أعرف - كما تهمس أمي متعصبة - أنه يتعب من أجلنا. لم تكن أمي تخفي اعتزازها بأن أبي يغنيها عما قد يشغلها، هو وحده يفكر، ويأخذ القرار، ويعنى بالتنفيذ والمتابعة.

تقول لي:

- أين أبوك الآن من الرجل الذي كان يخافه الجميع؟!

تروي - بكلمات هامسة، متفاخرة، عن اعتزال أبي مهنة الفتونة، فرض. سيطرته على المنطقة ما بين سراي رأس التين وانحناءة الترام إلى شارع التتويج. اختار التقاعد في الموعد الذي حدده، ظل يعتز - إلى ما بعد اعتزاله - أنه مارس الفتونة للقوة التي وهبها الله له، ولتأكيد المكانة. ابتعد عن السرقة والبلطجة وفرض الإتاوات وخوض الخناقات لحساب الغير. أحكم إغلاق نفسه، فلا تتأثر بما يدور في الحي من خناقات،أهمل التعلق بالدنيا، وعني بالصلاة والصوم والذكر والدعاء والتسابيح وتلاوة القرآن.

تهمس أمي:

- لم تتبدل أحواله إلا بعد أن تقدم لأبي.

يشي همسها بنبرة متفاخرة:

- اشترط عليه - كي يقبل زواجنا - أن يعتزل الفتونة!

صداقات أبي الجيدة، ورغبته في حياة جديدة لا يتأذى منها أحد، أتاحت له أن يفتح دكان البقالة المطل على ميدان أبو العباس. الحاجز الخشبي،فوقه رخامة تحتل معظم مساحة الواجهة، عدا منفذ صغير، سدّ بباب ذي مفصلات، يفضي إلى الداخل.

انسحب من ميادين بحري وساحاتها وشوارعها، وما يدور فيها من خناقات. غابت دنيا السيوف والسنج والخناجر والمطاوي والنشيج ونثارات الدم والأشلاء. لم يعد الناس يشاهدونه في الأسواق، ولا في الخلاء، أو على القهاوي، أو داخل المساجد والزوايا. تحددت خطواته بين البيت وقهوة فاروق والدكان وجامع علي تمراز. حتى حلقة السمك لم يعد يتردد عليها، اقتصر تنقله بين البيت والدكان والقهوة والجامع.

بعد رفع أذان الظهر من جامع علي تمراز المجاور، نتهيأ لترامي وقع قدميه. كان يغلق الدكان المطل على شارع رأس التين. يؤدي الصلاة في الجامع، ويتجه إلى البيت لتناول الغداء وقضاء القيلولة.

يتحول أبي وأمي من أحاديث المردة والجان والعفاريت والأشباح والأرواح والأطياف، إلى ظروف تجارة أبي، وأحوال مذاكرتنا.

يحل في الشقة صمت متوتر، لا يزول إلا بعودته إلى الدكان. يظل فيه إلى صلاة العشاء، ثم يمضي إلى جلسة أصدقائه في قهوة فاروق. أطل على القهوة في النهار. أتخيل جلسته داخل القهوة أو خارجها، وما إذا كان يكتفي باحتساء القهوة، ويدخن الشيشة، ويدخل في مناقشات، أم يلعب الطاولة، كما يحدث في القهاوي التي أمر عليها في طريق العودة من المدرسة.

أمي وحدها كانت تنتظر عودة أبي آخر الليل. تحذرنا من غضبه إن لم نذهب إلى النوم قبل مجيئه.

أترك للتخيل صورة غضبه إذا كلمته أمي عن تصرفات لنا لا ترضيها، يداخلني القلق والتوقع.

قد أصحو في الليل على نثار كلمات تتناهى من حجرتهما المغلقة. تتداخل الأسئلة والملاحظات.

لم أعد أدخل حجرة أمي وأبي لأي سبب. حتى لو اتجهت لنداء. أكتفي بالوقفة أمام الباب. في بالي ضحكة أبي المنفعلة ينزلني من السرير. جريت - خائفًا - من حلم لا أذكر. توسطت السرير بينهما. لكزني بقبضة مترفقة:

- صرت بغلاً.. عد إلى سريرك!

أدس رأسي تحت الغطاء، يشغلني الفرار من الأشباح والأطياف والمخلوقات التي تنفث النار من عيونها.

جعل اشتداد المرض أبي على غير ما ألفناه.

كان يحظر على أمي أن تطل من النافذة، أو تنزل الطريق، دون أن يرافقها أحدنا، أو يعلو صوتها، فيترامى خارج الشقة. يحدد ساعات جلوسنا أمام التلفزيون حتى نخلو إلى المذاكرة، أو نذهب إلى النوم. لا يأذن لنا بقراءة ما يخالف الكتب الدراسية.

لم يهددنا - ذات يوم - بالعقاب. كان يكتفي بالنظرة المؤنبة، وبالإيماءة، أو التلميح.

وكنت أحرص على ألا أنظر في عينيه مباشرة. أتجه بنظراتي إلى الأرض، أو إلى الناحية المقابلة.

كانت أمي توافق بلا أسئلة ولا مناقشة. أكتفي أنا وحنان بتحديق الاستغاثة الصامتة في عيني أمي، ونحن نخلي موضعنا أمام التلفزيون، ثم نمضي - بخطوات متباطئة - إلى حجرتنا.

تحرص أمي - عند عودتي - ليلاً - من اللعب مع الأولاد في الشارع الخلفي - على أن تقف - لطمأنتي - في أعلى السلم، أو ترافقني، تسبقني أو تلحق بي، في صعودي إلى الشقة، تتمتم بالفاتحة والمعوذتين لطرد الشياطين والأشباح التي تختبئ في الأركان وحنايا السلم.

كانت تحضنني - كل ليلة - حتى يغلبني النوم. أستعيد حكايات المردة والعفاريت والأشباح، أستزيدها وأنا أدس رأسي - بالخوف - في صدر أمي.

أروح في النوم، وذهني مملوء بحكايات الأرواح والأشباح والجان والعفاريت، والأذى الذي أتوقع حدوثه في لحظة ما.

اعتدت صحو أبي في أوقات الليل، يتجه - بخطواته الزاحفة - إلى دورة المياه،ويعود، يكتفي - حتى لا يوقظننا - باللمبة السهارى في الطرقة.

أصيخ السمع لسيره بين حجرة نومه والحمام، لا وقع أقدام، القدمان تندفعان، ولا ترتفعان عن الأرض. يترامى ما يشبه الزحف على بلاط الطرقة، كالكحت أو الهسيس.

قال الرجل في نبرة شامتة:

- زمانك انتهى.

لم يكن قد تردد على الدكان، ولا رآه أبي في شوارع بحري من قبل. تأمل قامته الهائلة، ورأسه الأصلع إلا من شعيرات وراء رأسه،

رمقه أبي بنظرة مستغربة:

- ما شأن زماني بالبيع والشراء؟!

- لم تعد تفرض على الناس ما يشترونه.

علا صوت أبي بالغضب:

- التجارة مهنتي القريبة. قبلها كنت سيدًا لأمثالك.

- كنت تمارس البلطجة باسم الفتونة.

تحسس أبي موضع المطواة بعفوية الزمن القديم، رفع يده الخالية في وجه الشاب. لم يتدبر وقع الصفعة على وجهه. كان أبي قد عاهد نفسه أن يسكت عما يضايقه، وإن حدث فلا يترتب عليه رد فعل من أي نوع.

رفع الشاب سكينًا. بدا أنه أعد نفسه لتطورات قاسية. أصابت الطعنة كتف أبي. تأوه وهو يميل إلى الأرض. انشغل الشاب - في اللحظة التالية - بتكسير ما وصلت إليه يداه وقدماه، كل ما على الرخامة في واجهة الدكان، وما على الأرفف من بضائع، كأنه قدم للفعل، ربما للثأر من حادثة قديمة منسية. فعل الشاب ما فعله، ومضى.

قال أبي:

- خطأ عمري أني أهملت الاحتفاظ بالمطواة منذ اعتزال الفتونة.

لاحظ أبي بطء حركته، وضعف استجابة قوته البدنية للمعارك التي كان يخوضها. هو يصفع، يسدد اللكمات والركلات، يهوي بالعصا، يقذف بالمطواة، لكن القيود يحسها ولا يراها، لا تتيح له المعنى الذي يريده.

هل ينتظر حتى يفاجئه ما لم يكن أعد له نفسه؟!

أصر أبي أن يزوره الطبيب في البيت. إذا ذاع ما حدث في بحري، فهو الموت بعينه، لن يقوى على النزول من البيت، ولا الجلوس في الدكان، ولا التردد على المقهى، تخذله عيناه في مواجهة النظرات المتسائلة، والشامتة.

وافق أبي - في حزنه - على أن تسافر أمي إلى أهلها في دمنهور، تأتي بما يعيد الدكان إلى ما كان عليه.

لاحظ أبي ما أعانيه، ترددي في التوجه إلى حجرة نومي. هذه هي المرة الأولى التي أنام فيها بمفردي. لا حكايات حتى يغلبني النوم.

الضوء الخافت المتسرب من زيق الباب، يضفي على الحجرة ضبابية شاحبة، يعمق شعوري بالخوف قطع الأثاث التي لا تبين عن تكوينات محددة، أشكال حيوان، وطير، ووحوش خرافية، وعفاريت، ومردة، كتلك التي كانت أمي تروي لي حواديتها.

قال أبي:

- لن تنام وحدك هذه الليلة.

واحتضني بعينين باسمتين:

- سأنام بالقرب منك!

زاد من تهيئتي للخوف. أعرف أن أبي لا ينام على السرير، ولا يصعد فوقه لأي سبب. يغفو وهو جالس على كرسي، ويسند ذقنه إلى كرسي أمامه. تلك هي صورة نومه من زمن لا أذكره، وعيت على جلسة أبي النائمة، غطيطه الهادئ، سعاله المفاجئ، حركة يديه في تعاطي الدواء. جلس أبي على طرف السرير المواجه لسريري.

غطى كتفيه وظهره بعباءة صوفية. أسلم جبهته إلى أعلى ظهر الكرسي. جال بعينيه في ما حوله، كأنه يتعرف إلى الحجرة للمرة الأولى. يحاول تبين المرئيات في الظلمة الشفيفة، الضوء الخافت المتسرب من الطرقة، النافذة المغلقة، السرير النحاسي الذي أتمدد عليه، تكوينات الظلال في السقف والجدران وقطع الأثاث.

قال:

- أطفئ النور.

وأردف للتردد في ملامحي:

- سأقضي الليل معك.

ضغت زر النور. حلت ظلمة، اكتست بالشحوب، من ضوء اللمبة السهارى في الصالة.

أعرف أن صوته سيعلو بالشخير في الدقائق المتقطعة التي يغفو فيها.

تغطيت إلى العنق.

دسست وجهي تحت الوسادة. أنتظر الصباح الذي يقترب ظهوره بدقات ساعة الصالة.

دقات بالعدد أول كل ساعة، أحذف ما بقي، وأتوقع الساعات التالية. ما يشغلني وأتوق إليه، أن يأتي الصباح، فلا يبدو أبي مخيفًا في جلسته المتكومة. اختفت الملامح، لا رأس، لاعين، لا أنف، ولا شفتان. تحركت الكتلة السوداء، تماوجت، تداخلت البطانية المسدلة على جسد أبي في قطع الأثاث، تحورت، تباينت أشكالها، تقافز أمامي جان وعفاريت ومخلوقات لم أتبينها، تسلقت الجدران، والتصقت بالسقف، وأطلت من خصاص النافذة المطلة على الخرابة الخلفية، وتسللت ما بين الحجرة والصالة. لم أستطع طرد التصور بأن أبي قد تحول إلى كائن من التي تناولتها حكاياته لأمي، وحكايات أمي له، ولنا. ننصت، ونتخيل، ونجسد تصورات لا تنتهي.

لا أعرف الوقت الذي اجتذبني فيه النوم، لكنني صحوت - فزعًا - على صوت ارتطام ثقيل.

جريت - باللهفة - خارج الحجرة، ناحية مصدر السقطة. حبسة البول توقظه - في أثناء الليل - مرات كثيرة. أتنبه على صرير الباب، تتبعه خطوات أبي في سيره نحو دورة المياه. أتابع هسيس خطواته ما بين حجرته ودورة المياه. يعقب توقف خطواته المكتومة، سؤال ترد عليه أمي من داخل الحجرة. يتسارع وقع قدميها، تلبية ما يريده. تتداخل الكلمات، وتشحب مفرداتها، ثم يختلط وقع الأقدام في عودتهما. أعرف أنه يتساند عليها.

ربما تناهى صرير باب دورة المياه. دقائق، ثم يقترب هسيس الخطوات، يتباعد حتى يختفي تمامًا. أدرك أن أبي عاد إلى حجرته.

هل غلبه النوم في إغفاءة مفاجئة، فسقط، أو أني سأواجه - وحدي - ما كنت أخشى حدوثه؟

كان يستند إلى الجدار متألمًا.

اتجهت بنظراتي ناحية نافذة المنور، فلا أراه في جلسته الساكنة، المستسلمة، ويده ممدودة تطلب مساعدتي.

يا عصـورَ المعلّـقاتِ ملَلنا
ومن الجسـم قد يملُّ الرداءُ
نصفُ أشعارنا نقوشٌ ومـاذا
ينفعُ النقشُ حين يهوي البناءُ؟
المقاماتُ لعبةٌ... والحـريريُّ
حشيشٌ.. والغولُ والعـنقاءُ
ذبحتنا الفسيفساءُ عصـوراً
والدُّمى والزخارفُ البلـهاءُ
نرفضُ الشعرَ كيمياءً وسحراً
قتلتنا القصيـدةُ الكيـمياءُ

نزار قباني

 

محمد جبريل