قصص على الهواء

قصص على الهواء

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
------------------------------

«حلم ليلة شتاء» لـ منى فوزي خطاب، تتميز هذه القصة بأسلوب شاعري رومنطيقي جذّاب. إنها تصوّر حالة مراهقة ببساطة منعشة، لاتثقلها الألفاظ الطنّانة التي غالبًا ما يقع في شراكها الشباب المبتدئون. فبلا ادّعاء حاولت الكاتبة تصوير وحدتها في ليلة ماطرة، مع أحلامها البسيطة مجذوبة بغناء جميل وبدعوة إلى أحلام الحب التي ترسم وتمحو في الوقت نفسه. واختارت الكاتبة لذلك عنصرين: خيالات الشمعة «مضافة إلى بخار كوب الشاي»، في ليل انقطعت فيه الكهرباء، أي عنصر الوضوح والواقع، ومعاني الأغنية نفسها التي تنشد الحب، وتبشّر بأوهامها القريبة الماثلة! النهاية جميلة ببساطتها، وهي تأتي طبيعية متناسقة مع عناصر السرد. كل عناصر هذه القصة متناسق ومنسجم وهي تشبه بقصرها أغنية عاطفية لطيفة، جيّاشة المشاعر من دون ثرثرة أو مصطلحات، كما أنها تكاد تخلو من الأخطاء اللغوية.

*****

«شلال للبراءة تجوبه الملائكة» لـ شريفة الحداد، اخترتُ هذه القصة لأسباب عدة أولها موضوعها الجميل والعميق في بساطتته. إنها تتجنب الوعظ والخطابية وتنصرف إلى متابعة سرد واقعي ترقى به مشاعر حنونة. والقصة تحمل في أسلوبها شيئًا من السذاجة لكنها سذاجة محببة لا تضير بالتعامل مع واقع اجتماعي مقرون بوعي أهم مشاكل مجتمعنا العربي، وهي أوضاع الطفل، وبخاصة الفقر والحرمان من أهم الحقوق: المدرسة! نجحت الكاتبة في شدّنا عاطفيًا إلى الطفل عيسى المهدد بترك المدرسة نتيجة موت الأب المعيل، وشدّتنا عبر تفاصيل قليلة، وعبر انغماس الرواية بقضية عيسى شخصيًا ومتابعتها عملية التوزيع في مقرّ الجمعية. ما لفتني أيضًا هو أن القصة أفردت للأولاد الذين لم يشملهم التوزيع والإحسان وبقوا عند الباب لا يجرأون على دخول المكان إذ فات على من بلغ عمرهم أوان التعلّم أو نسيته شفقة المحسنين على الأيتام، واللافت في هذا التفصيل هو فرح هؤلاء بالصغار الذين لن يُحرموا مثلهم نعمة المدرسة. حقيبة عيسى جعلت الشمس تشرق في أكواخ الفقر، وتبعد ولو لوهلة شبح التخلّف، هذا التخلف الذي هو الأساس في العديد من أمراض مجتمعنا.

*****

«خمسة قروش - العدل أساس الملك» لـ محمد سحيم، ليت الكاتب كان أكثر بساطة في أسلوبه السردي المثقل أحيانًا بما لا يلزم، مثل اللجوء المتكرر إلى «الصوت الداخلي». بالرغم من ذلك فإن رصد حركة الشارع المتوتّرة وربطها بحركة جسد «البطل» المتهالك تستحق التقدير، وفيها الكثير من التفاصيل اللافتة. فاللباس يوحي بفقر صاحبه المدقع دون استرسال في التركيز على هذا الملمح، وهو لاشك في عمر تحصى المرارات والخيبات سنواته الكثيرة. الجميل أيضًا هو أن هذه القصة تنحصر بلمحة وبوقت قصير تتمثل فقط بمحاولة إنسان قطع الشارع، هذا الإنسان المستوحش والوحيد في شارع مزدحم، مجنون ولا يلقي بالاً لأحد خارج حركته المقفلة. إن عناصر التناقض الشديد تضيف إلى هذا النص قوة وتماسكًا وتأثيرًا، والكاتب يتابعها من أول النص إلى آخره مستعملاً في ذلك عناصر مختلفة ومتعددة. النهاية أيضًا جميلة، وفيها شيء من المفاجأة، والخلاصة الأمثولة غير مزعجة، ولو أنها لزوم مالا يلزم، فالإشارة إلى انتفاء العدل في عالمنا هذا، ربما تكون تركيزًا من الكاتب على الجانب الاجتماعي لمعاناة بطله.

*****

«ياسمين» لـ محمد بروحو، أول ما لفتني في قصة «ياسمين» هو اختيار الكاتب الرجل لضمير المتكلم المؤنث: «أنا ياسمين...» وفي هذا لعبة أدبية مثيرة للاهتمام. وبالرغم من بعض الركاكة ركّز الكاتب على قضية مهمة هي قضية المنفى وعلاقتنا بالوطن، والقضية تزداد أهمية اليوم مع ازدياد نسبة المهاجرين من بلداننا العربية وارتباك هويتهم بين إرادة الإقامة بكرامة في أرض الوطن وأحلام السفر والهجرة وما عليها من إحباطات. ويتناول الكاتب قضية الحنين إلى الوطن بما يرافقها من مشاعر جميلة سرعان ما تنتهي إلى أوهام بعد العودة، إذ إن واقع العلاقات الاجتماعية يتبدّل في اتجاه مجتمعاتنا العربية إلى الاستهلاك وإلى المزيد من معاناة للطبقات الوسطى، في غياب سياسات تنموية، كل هذا يلمّح إليه الكاتب دون مباشرة. وتشير «ياسمين» بحساسية عالية، ودون وعظ أو ادّعاء إلى حال التشرذم التي تصيب العائلة العربية جغرافيًا واجتماعيًا مقابل الموت البطيء للجانب الجميل في تراثنا من العادات والتقاليد.

-------------------------------

«حلم ليلة شتاء»
د. منى فوزي خطاب (مصر)

لم يكن العمل مرهقا اليوم، لا شيء يدفعنى للنوم مبكرا أمسكت بكتاب واستلقيت بفراشى لعلى أعثر على النوم بين ثنايا السطور، مر الوقت بطيئا ولكن النوم ظل ضائعا منى. قمت ونظرت خلال النافذة، الشارع خال، لاشىء مثير يدفع عنى الملل الزاحف عليّ، أبدل الكتاب بآخر عله يفعل ما لم يفعله السابق، لكن دون جدوى. لا يوجد أحد أتحدث اليه؛ كل من بالبيت ذهبوا للنوم تجنبا للبرد الذى يعض أطرافهم. نظرت مرة أخرى من زجاج النافذة، كانت السماء قد خلعت ثوبها المرصع بالنجوم وارتدت آخر قاتما، ما لبثت أن انتشت بالبكاء مطرا غزيرا.

صنعت كوبا من الشاى وأدرت المذياع بصوت خفيض ثم جلست بجوار النافذة، أراقب زجاحها المنقوش بخطوط المطر. يشف الزجاج عن طرقات لامعة خالية والظلام ينشر غلالته على المنازل حيث اكتست هى الأخرى بالكآبة الخرساء. انقطع التيار الكهربى فسكت المذياع، فأشعلت شمعة، وضعتها بجوار الكوب الساخن. أخذ البخار المتصاعد عنه يلف حول الشمعة ويغريها وفي النهاية طوّق ذراعا البخار الشمعة ليرقصا على عزف الريح للحنها الشجى «يسمعنى حين يراقصنى كلمات ليست كالكلمات.. يأخذنى من تحت ذراعي يزرعنى في إحدى الغيمات، والمطر الاسود في عينى يتساقط زخات زخات» انبعثت كلمات «نزار » بصوت «ماجدة الرومى» عندما عاد التيار. أطفأت المصباح وتركت الشمعة مشتعلة لتهنأ برقصتها، قدماى خفيفتان ويداي ترفرفان في فضاء الغرفة تكبران وتصغران علي الجدران اقترابا وابتعادا من الضوء الراقص، لم أتعلم الرقص قط لكنى أشعر بخفة السنونوات أعلو وأهبط على نغمات الأغنية وذراعاى جناحان ينبسطان وينقبضان ليمسكا بآخرين، لم أعد أرقص وحدى وأصبحنا زوجين من الراقصين في حفلة يسودها المرح ويفيض على أرجاء المكان الذى ازداد اتساعا وإشراقا. كالموج نعلو نعلو ثم نهبط. «وأعود أعود لطاولتى. فجأة طرقات على الباب فإذا بأخى يفرك عينيه بيديه، ماذا تفعلين ولماذا تجلسين فى الظلام؟ ها! هدأت عاصفة حركتى تماما وظل الصمت برهة، وصدرى يرتفع وينخفض، دقات قلبى متسارعة. نظرت الى مراقصى على الحائط فإذا به يقف مثلى فى ذهول. التفتت الى الراقصين الآخرين، اختفيا. اختفى كل شيء لم يعد هناك سوى كوب الشاي البارد والشمعة تضاءلت غارقة في دموعها ترثى رفيقها. «لا شىء معى الا كلمات» فأجبت لا شىء لا شىء...!

شلالٌ للبراءة
شريفة الحدّاد (اليمن)

قابلتها في طريق عودتي لبيت جدي، وكان المرحوم زوجها -الذي خطفه الموت في عمر الشباب قريبا لوالدي - قد مرت شهور على وفاته، قبلتها بمودة وغيرت وجهة سيري لأذهب معها لبيت أهل زوجها فقد كانت ذاهبة لزيارتهم في ذلك اليوم.

أحسستُ بنظرات بؤس وحزن تفترش بساط عينيها الجميلتين، أخذت أسألها عن أحوالهم وعن أبنائها الخمسة الصغار، اشتكت من قسوة الحياة وضيق الحال، وعلى الرغم من كل ذلك ظلت الابتسامة لاتفارق محياها، كانت تضحك وتُضحك من حولها، أحسست بأنها تدفن أحزانها ومواجعها في داخلها.

ينقطع صوت ضحكتها بصوت ابنها عيسى? ابن السنوات الست - يبكي، فسألتها مابه؟ قالت إنه يريد الذهاب للمدرسة ولكنه يريد حقيبة وأدوات مدرسية وملابس جديدة مثل بقية الأطفال، ثم أخذت تصرخ. سأشتري لك، اسكت. التفتت إلي وهي تقول:

من أين اشتري له، غدا ستعطي جمعية خيرية حقائب وأدوات مدرسية للأطفال، وقد سجلت أسماء أبنائي عندهم.

في اليوم التالي لحضور احتفال هذه الجمعية الخيرية، وكان من المقرر أن توزع الحقائب للأيتام، دخلنا لبيت قديم تفوح من جدرانه رائحة السنين, وجلسنا على حصيرة بسيطة ووجدنا الكثير من النساء والأطفال يفترشون الأرض، بين الجموع وجدت الابن عيسى يجلس في المقدمة، كحبيب في شوق للقاء حبيبته، كان قد جاء قبل موعد اللقاء ينتظرها ليحضنها لصدره الصغير بقوة

بدأ الاحتفال، وجاء شيخ يتكلم فأطال في كلامه، كنت أتمنى أن يمر الوقت سريعا لأرى فرحة عيسى بلقاء حبيبته «الحقيبة المدرسية»، نظرت حينها للسماء وتضرعت لله لو كنت أمتلك مالا لاشتريت حقائب أقوى وأجمل وأشياء كثيرة لهؤلاء الأطفال الذين أعياهم طول الانتظار، بدأ تحضير أسماء الأطفال لتسلم حقائبهم كانت العملية تسير ببطء شديد، كانوا يريدون التحقق من أن حامل الاسم هو الشخص نفسه.

كنت في مؤخرة الصفوف فأخذت أتطاول برقبتي لأرى «عيسى»، أحاول أطمئنه أن اللقاء قريب، أحسست بأنني أنا أيضا اتحرق شوقا مثله لأسمع اسمه، كان هناك أطفال أكبر سنا، يقفون عند الباب الخارجي، يعلو وجوههم فرحا ممزوج بخجل يمنعهم من الولوج للمكان.. فإحساسهم يختلف عن إحساس أولئك الصغار الذين لايفقهون شيئا، وأخيرا ذكر اسمه قام يجري على الرغم من وجوده في الصف الأول ليتسلم يد حبيبته، رأيت في عينيه شلالا للبراءة تجوبه الملائكة بأجنحتها فإذا بفرحته الكبيرة تلمع في عينيه كأشعة الشمس الذهبية، احتضن حبيبته بقوة بعد طول

انتظار، لم أحس بنفسي إلا وأنا اخترق الجموع باسطة يدي للأخذ من تلك القطرات لأغسل بها روحي لتزداد طهرا وبراءة ونقاء، أفيق ويدي على حقيبته وهو يبعدها عني خوفا عليها، ومازالت بقايا قطرات الفرحة الملائكية تتأرجح بين أهداب عينيه الواسعتين.

«خمسة قروش - العدل أساس الملك»
محمد سحيم (ليبيا)

يقف مقوس الظهر عند حافة الطريق، الشمس تلفح وجهه، تنعكس على جبينه، تُذيبه أو تعتصره عرقا، تصبغه بالسُمرة، يظل واقفا عند حافة الطريق بمحاذاة الرصيف يرمي ببصره ضفة الشارع الأخرى.

يغطي جِذع جسده ثوب بسيط ومختصر، مجرد قطعة من القماش، حار صيفا بارد ممزق شتاء. يسير ببطء وتثاقل، يمر أمام متجر للثياب النسائية، تصطف خلف زجاج واجهته حسناوات الأصنام، قوالب جامدة ترتدي ثيابا من حرير، يقف قبالة زجاج العرض، يطالع الحسناء الصنم ورفيقاتها المتيبسات، يكاد أو يوشِك أن يبتسم، غير أنه لاحظ من خلف الزجاج انزعاج صاحب المتجر وتجهمه.

مر بجانبه ولدان، توقفا عند باب أحد المتاجر، رميا زجاج الواجهة بحجر ثم وليا مسرعين، خرج صاحب المتجر تعالت صرخاته، قال لنفسه:

يجب أن أعبر الشارع، لقد تأخرت كثيرا.

ظل واقفا بمحاذاة الرصيف، يهُّم بالانطلاق، يحذر أن تفتك به إحدى المركبات،، تحسس فاصلا للعبور، همَ بالتحرك عَاجَله سائق متأخر زاد من سرعة مركبته، سلبه فرصة عبور الشارع، تراجع بسرعة، بدا شكله مضحكا وهو يتراجع بسرعة.

نظر عن يساره، على ذات الرصيف تقف فتاة، كانت مثله تنوي بلوغ ضفة الشارع الأخرى، فور أن لمست رِجلها أرضية الشارع تكومت عن يمينها كل المركبات، عبَرت الفتاة بخفة وأنفة دون أن تكافئ أي سائق بنظرة على حسن توقفه، حاول أن يستغل شهامة السائقين وينفُذ هو أيضا إلى الجهة المقابلة، لكن سوء حظه وسرعة عبور الفتاة، جعلت مَسيرة المركبات تعود للتواصل والإسراع مجددا، عاد متراجعا بذات الهيئة المضحكة وبمشيته التي تشبه سير الحافي على الجمر.

رمق الجهة الأخرى بنظرة متعبة، حاول اقتناص بعض الفرص، لكن المحركات الحديثة كانت كفيلة بسد أي منفذ، أحس بالإرهاق، حاول التقدم بعد أن رفع يده اليمنى ملوحا في الهواء، كادت تصدمه سيارة مسرعة، صرخ به أحد السائقين قائلا: ابتعد عن الطريق أيها المجنون.

ابتعد عن الطريق، توقف عند حافة الرصيف استعاد أنفاسه من جديد، هدأت نفسه، عاودته فكرة العبور من جديد، التفت عن يمينه وعن شماله، أطرق رأسه، عاد ورفعها من جديد، تراجع خطواتٍ إلى الوراء، بدا وكأنه ثور غاضب ينوي مهاجمة أحد، ثم اندفع إلى الأمام بشكل سريع وعند حافة الرصيف، تراجع عن فكرته.

كان الخوف من الدهس قد استوقفه عند حافة الرصيف، لايزال حتى هذه اللحظة يخاف على حياته، أصابه الإعياء، نالت منه الشمس، أيضا محاولات العبور الفاشلة، أتعبه الوقوف، شعر بأنه في أسوأ حالاته،

دارت به الدنيا، تراجع عن حافة الطريق، جلس على الرصيف، لم يجلس بل وقع جالسا، أحس بأنه لا يقوى على النهوض، كان الرصيف المقابل يدور حوله من اليمين إلى اليسار بعد أن كان قبالة وجهه،، أحس بألم وصداع شديدين.

اقترب منه أحد المارة، انحنى باتجاهه حيث يجلس، رمى في حجره قطعة نقود معدنية، ثم أكمل مسيره وعبر الشارع، انتبه إلى وقوع ذاك الشيء في حجره، نظر باتجاه تلك العملة، حدّق بها، التقطها وابتسم، ابتسم ثم ضحك.

ضحك بصوتٍ عال وتعالت قهقهته، قرّب تلك القطعة النقدية من عينه، تفحصها، قلّبها، دقق في نقشها وسبكها، أدارها حول نفسها عشرات المرات، ثم أقامها بين السبابة والإبهام، قرأ عبارة نقشت على أحد وجهي العملة.

قرأها بصوت عالٍ. خمسة قروش... العدلُ أساس الملك.

ياسمين
محمد بروحو / (المغرب)

سأعود حتما إلى المغرب، إلى مدينتي الجملية، مدينة البوغاز.. المطلة ببهاء بياضها، على مرافئ الضفة الأخرى، أعلم يقينا بأني سأكون سعيدة هناك، كل شيء بالنسبة لي قد انتهى، هنا في نيويورك، المدينة اللاهية، مسقط رأسي..

أنا ياسمين.. ذات الثلاثة والعشرين ربيعا، سوف لن يربطني بهذه الأرض، غير ذكريات الصبا، وأيام الدراسة، والأصحاب والسهرات، قررت إذن أن أودع هذه المدينة الأمريكية الصاخبة بعماراتها العالية، وشوارعها الواسعة واللامتناهية.. لم أعد الآن أطيق العيش فيها أكثر ولو ليوم واحد آخر.

لا أنكر كرم زوجي معي.. كم كان سخيا وكريما، وطائعا، وكم كانت فرحتي كبيرة وأنا أسمع منه قبوله ورضاه بذهابي للعيش في المغرب.

لا أنكر أن نقاشا حادا دار بيننا، حول هذه المسألة. وكاد هذا النقاش أن يفجر أزمة عنيفة تعصف بكيان علاقتنا. وتؤدي بنا إلى الافتراق. كان ما طلبه وعليه استقر اختياره، أن أذهب للعيش في لبنان مسقط رأسه، لكنني لطالما ذكرته بما آلت إليه حال عائلته. القصف الذي يترصد أهالي البلدة.. الذي أسقط أمه وأخوه وخالته وأبناءها موتى واستشهد الجميع، عدا أبيه الذي كان مسافرا في مهمة خارج البلدة..

حلقت الطائرة في سماء مطار كيندي بنيويورك، وتخطت خط السحاب، وغابت في بياضه.. فعدت أحس وكأني ولدت من جديد، أن أعيش في صفاء الهواء، وبساطة الحياة. أن أفتح عيني على زرقة البحر، وأن أرى خالتي وأولادها كل صباح أمامي، أصبح عليهم وأمسي. أنادي أسماءهم وينادون اسمي.

بعد قضاء أكثر من عشر ساعات من الطيران، حطت الطائرة بنا فوق مدرج مطار «بوخالف» ظللت أرنو إلى شساعة البحر، واندفاع أمواجه المتلاطمة على وجوه الصخور الثابتة علىالشاطئ.

من شرفة المطار ظلت يد خالتي تلوح لي، ومازالت كذلك إلى أن ضمتني لصدرها الحنون.. كم كانت فرحتي كبيرة ونسيم البحر أراه يداعب خصائل شعر ابنتي جميلة. يصل خياشيمي. أشتمه فيملأ صدري. ويبلل وجهي بملوحته الصافية. فينتابني شعور بالانتعاش، ويهزني شعور اللقاء والحنين.

بعد ساعة من الزمن، وصلنا بيت خالتي.

يمر على استقراري به أسبوع واحد وتتغير الأحوال، وتبدأ المساومة، إن أردت أن أبقى في البيت أنا وابنتي جميلة ذات السنتين ونصف السنة علي أن أؤدي مبلغا محترما من المال. لم يكن لي اختيار غيره. وأذعنت للأمر الواقع وبدأت أنفذ ما تطلبه مني خالتي، طائعة، مكرهة، لا قدرة لي على المقاومة. أن أشتري كل متطلبات البيت، وألبي كل احتياجات أفراده، خالتي وابنها وزوجته وابنتيه. وفعلت كل ذلك على مضض، وانتهى الأسبوع الأول والثاني ثم الثالث فالرابع، وتسلمت قدرا من المال الذي كان زوجي يرسله لي في آخر كل شهر كما اتفق.. وأدركت لهف عائلتي وطمعها في مالي. وأن وجودي بينهم بلا مال هو من ضروب المستحيل. وخاب ظني في أهلي، وبدأت أعيش رعبا قاسيا وخوفا قاتلا من مستقبل غامض أراه في ثنايا ألأيام يزحف نحوي..

حتى ذلك اليوم الذي وجدت فيه نفسي مفلسة، لاأملك ولو درهما واحدا، رباه ماذا سيكون مصيري ومصير ابنتي!؟.. وحدث ما توقعت، لقد تركوا ابنتي تتضور جوعا، في يوم ممطر قارس البرودة.. ومنعوا عنها الأكل وطلبوا مني أن أتدبر أمري، ووجدت نفسي مرة أخرى في دوامة التيه، أضيع في متاهات الزمن، لست أنا.. ولكن هذه البريئة الصغيرة ما ذنبها؟

بعد مرور الأشهر الستة، حضر زوجي ليطمئن على حالي وحال ابنتي، وحكيت له قصتي ومعاناتي، اكترى لي زوجي بيتا، استقررت به أنا وابنتي.

حتى ذلك الصباح.. وكنت على موعد مع الفراق.. فراق زوجي الذي عاد الى أمريكا،، ظللت أرنو إلى الطائرة بنظرات شاردة وبنفس حزينة، كنت مشوشة البال أفكر في مصير زوجي الذي منعوا عنه أوراق الإقامة في الولايات المتحدة، والذي كنت أعلم أنه هو الآخر الآن يفكر في مصير أرضه وأرض أبيه التي سلبها منه المستعمر بالقوة واستولى عليها منذ زمن سحيق.

 

هدى بركات