نهاية الهيمنة ودعاواها الزائفة.. د. أحمد أبوزيد
نهاية الهيمنة ودعاواها الزائفة.. د. أحمد أبوزيد
فى مقالنا عن «حروب الغد الثقافية» (مجلة العربى: ديسمبر 2007) ذكرنا أن المفكر الإيطالى الكبير أنطونيو جرامشي يذهب إلى أن الهيمنة نظام يقوم على فرض أسلوب معين للحياة والفكر ووجود تصور وحيد للحقيقة يسود المجتمع ككل ويمحو كل مظاهر الوجود البشرى من عادات وأخلاقيات ومبادئ دينية وسياسية. ولقد سيطرت مشكلة الهيمنة على جانب كبير من تفكيره، فهو الذى صاغ الكلمة والمفهوم الذى يعنى ضمنا سقوط وخضوع أى ثقافة لسيطرة وتأثير جماعة أو طبقة واحدة معينة، بحيث يتم توجيه كل الممارسات اليومية بل والمعتقدات والأفكار المشتركة لخدمة النظم والأنساق المعقدة التى تقتضيها الهيمنة. والواقع أن تحليل المفهوم الذى كان يقصد به فى أول الأمر تفسير الأسباب التى أدت إلى فشل الثورات الشمولية التى كان يتوقع نجاحها فى الدول الأوربية الصناعية وفشل الطبقة العاملة فى إسقاط الرأسمالية وإحلال الشيوعية محلها وردّ ذلك الفشل إلى نجاح الثقافة المهيمنة فى تلك الدول فى السيطرة على الأيديولوجيا التى يؤمن بها العمال وعلى تنظيماتهم، لدرجة أن جانبا كبيرا منهم اعتنق النظرة التى كانت تبشر بها الطبقة الحاكمة أو المهيمنة، التى سارعت إلى اتباع سياسات جديدة فى التعليم الإجبارى والإعلام الجماهيرى والثقافة الشعبية وغير ذلك من الإجراءات العملية التى ساعدت على فرض سياستها الثقافية المهيمنة. فالهيمنة فى أبسط صورها ومعانيها هى التحكم والسيطرة التى تمارسها دولة أو فئة اجتماعية على غيرها من الدول أو الفئات، وإن كان المفهوم يتضمن فى بعض أبعاده قدرة الجماعة التى توصف بأنها مهيمنة على (إقناع) غيرها بأن تتبنى وجهة نظرها إلى الأمور وتسلم بذلك بغير معارضة، مما يؤكد ويعزز سطوة تلك القوة المهيمنة. وهذا معناه أن الهيمنة تعنى بل وتتطلب وجود علاقات غير متساوية أو متوازنة بين طرفين أو أيديولوجيتين أو جماعتين اقتصاديتين أو سياسيتين. وكثيرا مانجد أن فئة صغيرة من الناس أو السكان تسيطر وتتحكم فى النظم والحياة الاقتصادية والسياسية وتتولى تشكيل أنماط السلوك والقيم التى ينبغى أن تسود فى المجتمع وتتبعها بقية الأعضاء. فالأيديولوجيا المهيمنة تقوم على أساس ضرورة الخضوع والتسليم بوجهة النظر التى تفرضها تلك الفئة الصغيرة على أغلبية السكان، وأن هذا الخضوع يحقق لجماعة الصفوة الصغيرة المهيمنة مصلحتها الخاصة التى كثيرا ما لا تتفق مع المصلحة العامة للجماعة الخاضعة، أو التابعة, كما أنه ليس من الضرورى أن تلجأ تلك الجماعة المهيمنة إلى القوة لفرض هيمنتها وذلك إذا أفلحت فى تسخير وسائل الإعلام ونظم ومناهج ومقررات التعليم ذاتها فى نشر تلك الآراء ووجهات النظر وتقبُلها بل وأحيانا التحمس لها والدفاع عنها من دون إدراك لأبعادها الحقيقية.. وهذا لايمنع بطبيعة الحال من إمكان اللجوء إلى القوة الفيزيقية لفرض الرأى إذا تطلب الأمر ذلك. ومع أن الفكرة ذاتها بدأت أصلا فى المجال الاقتصادى فإن المفهوم لم يلبث أن امتد إلى مختلف المجالات وشتى ملامح الحياة والنظم. فالمعايير الثقافية والاجتماعية ليست دائما معايير محايدة أو موضوعية تنطبق على كل أفراد أو فئات وقطاعات المجتمع بغير تفرقة أو تمييز، إذ كثيرا ما تراعى الفوارق بين الأفراد والجماعات حين يقتضى الأمر ذلك، ولذا فإن هذه المعايير تستخدم لفرض الرأى والسياسة والاتجاهات التى ترى بعض الهيئات ضرورة إملائها على الآخرين بحيث يستجيبون لها سواء عن قبول ورضا و«اقتناع» أو خضوعا لوسائل وأساليب القهر والقسر، وهذا يصدق على العلاقات داخل المجتمع الواحد مثلما يصدق على العلاقات بين الدول بكل ما قد ينجم عن ذلك من أوضاع تتراوح بين الإذعان والخضوع المطلق والتسليم بالأمر الواقع وبين التمرد والرفض والثورة وحركات التحرر. وفى هذا الصدد نجد جرامشي يؤكد بنوع خاص على دور المثقفين الذى يتفاوت من العمل على ترسيخ مفهوم الهيمنة إلى إيجاد مشروع مضاد للهيمنة القائمة بالفعل وصورة بديلة للقيادة السياسية والأخلاقية السائدة، وذلك على اعتبار أن الثورة لاتعنى فقط انتقال القوة أو السلطة السياسية والاقتصادية من يد ليد, بل تعنى أيضا خلق هيمنة أخرى بديلة من خلال أشكال جديدة من التجربة والوعى والإدراك. وبقول أبسط فإن الهيمنة ترتبط بسيطرة جماعة ما إما عن طريق منظومة من الوسائل والأساليب السياسية والأيديولوجية، وإما عن طريق استخدام القوة بمختلف أشكالها. ولكن المؤكد هو أن اللجوء إلى استخدام أساليب الإقناع لنشر المبادئ والتعاليم الأيديولوجية فى كسب الرضا، والموافقة من جانب الجماعات الخاضعة أو المقهورة قد يكون أكثر جدوى. وعلى أي حال فإنه يجب أن يكون هناك نوع من التوازن بين الإذعان والرضا, وأنه إذا كانت الدولة هى أداة القهر فإنه يمكن تحقيق الرضا من خلال آليات المجتمع المدنى التى يمكن أن تسهم بطريقة فعالة فى نشر تلك المبادئ وتذليل قبولها بل والتحمس لها. فالأمر يتوقف إلى حد كبير على مدى قدرة الجماعة التى تبغى الهيمنة على إقناع الجماعات الأخرى على قبول وجهة نظرها وقيمها ومعاييرها فى الحكم على الأشياء. فكلما ازدادت قوة وفاعلية المجتمع المدنى أمكن توطيد الهيمنة على أسس أيديولوجية وليست إجراءات فيزيقية تعسفية. أهداف الهيمنة ولقد أمكن تمويه أهداف الهيمنة لتسهيل قبولها والخضوع لها من خلال الادعاء والتظاهر بأن لها رسالة أخلاقية وإنسانية ترمى إلى تحقيقها فى المجتمعات المقهورة والمغلوبة على أمرها, وأن هذه الرسالة تمثل عبئا ثقيلا يتعين عليها أن تحمله وتتحمّله من أجل تحقيق الإصلاح ونشر ثقافة الديمقراطية التى تعتبر الركيزة القوية للتقدم، وأن ملايين البشر الذين قتلوا تحت نير الاستعمار أو الذين عانوا من الفقر والجوع والجهل والمرض والعبودية والسخرة إنما كانوا يدفعون بعض الثمن اللازم لتحقيق الديموقراطية وإقرار الحرية والعدالة, وهو ثمن بخس, بالرغم من فداحته, للانتقال من التخلف إلى مباهج الحضارة الغربية الحديثة بكل إنجازاتها الرائعة. فكأن الهيمنة تعمل على تحقيق أغراضها الحقيقية فى الوقت الحالى من خلال الادعاء بنشر بعض القيم الإنسانية الرفيعة والمبادئ الأخلاقية المتعلقة بالتسامح والحرية وحقوق الإنسان الفرد, التى تنادى بقيام مجتمع آمن يسوده السلام والحكم الرشيد وحرية الاختيار عن طريق إقرار القيم الغربية السامية. فهى تتخفى إذن وراء بعض الدعاوى الزائفة التى تخفى فى طياتها نزعات الاستغلال الاقتصادى لمجتمعات العالم الثالث الغنية بمواردها الطبيعية التى تنتظر من يستغلها والتى تتوافر فيها الأيدى العاملة الرخيصة والتى يمكن أن تكون هى ذاتها مجالا فسيحا للاستثمار عن طريق الشركات الكبرى. واستخدام أساليب الإقناع التى تعتمد فى المحل الأول على وسائل الإعلام والدعاية المرسومة بدقة والهادفة بدلا من الفرض بالقوة يدفع كثيرين إلى الحديث عما يسمونه بالهيمنة الثقافية التى تهدف إلى ترسيخ أيديولوجيا واحدة فقط. وكثيرا ماتأخذ الجهود والممارسات التى تساند هذه الهيمنة الثقافية شكل التطوع والتحمس، مما يؤيد فكرة أن الإقناع قد يكون أجدى من القهر والقسر فى تقبل هيمنة الآخر على ماذكرنا. ويفرق كثيرون فى هذا الصدد بين الهيمنة باستخدام أساليب القوة الناعمة soft power التى تحل محل القوة الصلبة العنيفة hard power على أساس أن تطور الأحداث كثيرا ما يستوجب اللجوء إلى التفاهم والتعاون لحل المشكلات التى قد تثور بين الجماعة المهيمنة والفئات الخاضعة أو المقهورة. وهذه دعاوى وأساليب قديمة مارسها الاستعمار منذ القرن التاسع عشر, وإن كان طرأعليها كثير من التطور والتجديد بفضل انتشار وسائل الإعلام الحديثة وقوة تأثيرها وفاعليتها وقدرتها على الإقناع عن طريق التسلل الناعم غير المحسوس إلى العقول. السخرية من الاستعمار ولقد سجل الشاعر الإنجليزى الشهير رديارد كبلنج Rudyard Kipling ذلك فى قصيدته الرائعة The White Man's Burden التى صاغها عام 1899 وجعل لها عنوانا فرعيا هو «الولايات المتحدة وجزر الفلبين» إشارة إلى غزو أمريكا للفلبين وبعض المستعمرات الإسبانية السابقة. وقد أثارت القصيدة كثيرا من السخط فى أمريكا لأن العنوان ذاته فيه سخرية من الاستعمار الذى يحاول تبرير عدوانه بأنه يحمل عبء توصيل رسالة نبيلة ومشروعة تتوخى الخير للآخرين. فالقصيدة تعكس الرؤية الأوربية للعالم وهى نظرة تقوم على أن الثقافات اللاغربية ثقافات ضحلة وسطحية، وأن الرجل الأبيض يقع عليه عبء الاضطلاع بمسئولية الارتقاء بتلك الثقافات والتحكم فى تلك الشعوب حتى يمكن قيادتها نحو التقدم وتخليصها من هوة التخلف والجمود التى تتخبط فى قاعها. إنها تعبر عن التعصب العرقى والنظرة المتعالية التى تدفع الغرب على أسس أخلاقية مزعومة إلى الهيمنة على شئون الآخرين للأخذ بأيديهم بصرف النظر عن رأيهم هم أنفسهم، وقد تكون للقصيدة قراءات أخرى مغايرة ترى أنها تحمل بعض النوايا الطيبة والمعانى الإنسانية الرفيعة بشأن مساعدة الآخرين. لكن فى مقال عن - The New White Man's Burden «نشره آنتونى أرنوف» Anthony Arnov فى مجلة Third World Traveler (عدد مايو/يونيو 2006) يقول إن الدول المهيمنة تتخفى وراء أسباب إنسانية تقوم على فرض الديمقراطية ونشر الحضارة الغربية وتزعم أن الدافع ليس هو الطمع فى ثروات الآخرين، ولكنها هي المصلحة العامة المشتركة التي تفرض عليها اللجوء عند اللزوم إلى استخدام القوة وتوقيع العقوبات لدعم الاستقرار، وأن الولايات المتحدة تعتبر من هذه الناحية قوة هيمنة خيّرة حتى وإن رأى الآخرون غير ذلك - وهو يسخر هنا بطبيعة الحال. فأسطورة الأخلاقيات تكمن وراء الهيمنة بالقوة والرغبة فى فرض السيطرة والاحتكار بمختلف أشكاله. على الجانب الآخر نجد مفكرا مثل ميكائيل إجناتييف Michael Ignatiev - أحد المدافعين عن الإمبريالية الجديدة وما تحمله من هيمنة على الآخرين بالرغم من أنه مدير لمركز سياسة حقوق الإنسان بجامعة هارفارد - يكتب فى مجلة نيويورك تايمز بتاريخ 28 يوليو 2002 يقول إن استخدام كلمة «عبء الرجل الأبيض» لوصف الإمبريالية أضفى عليها سمعة سيئة لامبرر لها، لأنها رغم مساوئها فإنها مسألة ضرورية تماما، إذ كثيرا ماتفشل بعض الأمم لدرجة لايجدى معها سوى التدخل الخارجى. فالهدف هو الإصلاح وإعادة الأمور إلى المسار القويم العام. ولكنه يعترف فى الوقت ذاته بأن الإمبريالية تحافظ على مصالح القوى المهيمنة التى ترفض قبول السياسات التى لاتتفق مع تلك المصالح كما هو شأن الولايات المتحدة فى رفضها التصديق على بروتوكول كيوتو عن التغيرات المناخية. وواضح - كما يقول آنتونى أرنوف - أن هذه الأقوال الصادرة عن إجناتييف ليست إلا ترديدا بشكل أو بآخرلآراء كبلنج فى عام 1899. سلطة كونية ومع ذلك فالملاحظ هو أنه لأول مرة ربما فى تاريخ المجتمع البشرى وتاريخ بناء النظام السياسى على مستوى العالم تصبح دولة واحدة -هى الولايات المتحدة - سلطة مهيمنة كونية وحيدة. وإذا كان العالم شهد قبل ذلك بعض المحاولات لقيام مثل هذه القوة المتفردة فى القدرة والرغبة فى الهيمنة فإنه كانت تنشأ فى الحال حركات مضادة من تحالف عدد من الدول الرافضة لتلك الهيمنة، وكثيرا ماكانت تدخل فى حروب طويلة تؤدى إلى إبادة ملايين البشر وإلحاق الخراب والدمار بالدول المتحاربة ذاتها كما حدث فى القرنين التاسع عشر والعشرين ضد نابليون والإمبراطور فيلهلم الثانى وهتلر. وليس أدل على ذلك من أن بريطانيا التى كانت تصف نفسها بالعظمى لم تكن فى أوج مجدها الدولة المهيمنة الوحيدة على أمور العالم بالشكل الذى تمثله أمريكا فى الوقت الحالى، خاصة أن الهيمنة الأمريكية ليست هيمنة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية فقط،بل هى أيضا هيمنة ثقافية طاغية بكل معانى الكلمة وتساندها القوة الفيزيقية الضارية مما يهدد بتراجع بل وانزواء كل مايقال عن التعددية الثقافية التى تعتبر من أبرز شعارات العصر، وهو الأمر الذى يثير القلق والانزعاج لدى كثيرين. والواقع أن بعض الدول الغربية التى تنظر بعين الارتياب إلى الهيمنة الثقافية الأمريكية بدأت تتنكر أخيرا للشعارات التى كانت ترفعها عن التعددية الثقافية وتحارب الثقافات الأجنبية التى يأتى بها الوافدون المهاجرون من مجتمعات أجنبية. ففى مقال بمجلة نيوستيتسمان البريطانية بتاريخ 27 مايو 2002عن «نهاية التعددية الثقافية» يقول الكاتب جون لويد John Lloyd: «بدأ الغرب يشعر بأن هناك حدودا للتسامح مع الأقليات التى تتعارض معتقداتها بعنف مع قوانين وتقاليد الأغلبية» وأن النظرة الليبرالية فى بريطانيا التى كانت أساس السياسة العامة لسنوات طويلة والتى كانت تسمح بالتعددية الثقافية والتسامح المتبادل تلقى الآن كثيرا من الرفض والهجوم والنقد من أنصارها أنفسهم الذين بدأوا يرون فيها إثارة للنعرات العرقية، لأن كل فريق يتمسك ويتعصب بشدة لثقافته ضد الثقافات الأخرى. ولقد تراجعت الفكرة المتفائلة عن إمكان قيام «ما بعد الدولة/الأمة» التى تسودها تعددية ثقافية، وأصبحت هذه الفكرة أمنية خيالية ووعدا زائفا وخاليا من المضمون، ومن الواضح أن هذا الموقف فيه نزعة مستترة إلى قيام ثقافة واحدة مهيمنة تتوارى أمامها الثقافات المحلية والعرقية الفرعية أو الأجنبية الوافدة، أى أن فيه تكريسا للهيمنة على نطاق ضيق ومحدود نسبيا. وأيا ما يكون الأمر فالسائد فى كثير من الأوساط الثقافية وبين كثير من المفكرين هو أن عهد الإمبراطوريات المهيمنة على مساحات هائلة من العالم تضم مئات الملايين من البشر قد انقضى وأنه إذا كانت الولايات المتحدة تعيد إلى الأذهان النظام الإمبراطورى القديم وربماعلى نطاق أوسع فإن التطورات المنتظر حدوثها سوف تنهى هذا الوضع، لأنه لا الولايات المتحدة، ولا أى سلطة أخرى قاهرة وغاشمة، سوف تتمكن من السيطرة الكاملة على شئون العالم كله فى ظل التكتلات الكبيرة التى تنشأ الآن، والتى تعمل ضد محاولات فرض هيمنة قوة واحدة على أقدار ومصائر الشعوب والأمم، مما يعنى ضمنا أن عصر العولمة نفسه - بالمعنى السائد الآن - قد يكون فى طريقه هو أيضا إلى الزوال. ولكن هذا يثير السؤال الشائك الذى قد لايجد له إجابة شافية فى الوقت الحالى على الأقل: ماذا يحدث حين تفقد القوة المهيمنة، التى تتمثل الآن فى الولايات المتحدة، هيمنتها، سواء أكانت هى هيمنة سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم غير ذلك؟ الواقع أن مثل هذا السؤال قلما يثور إلا إذا كانت هناك قوة أخرى يمكن - أو يحتمل - أن تحل محلها وذلك على الرغم من أن شواهد التاريخ تدل على أنه لم تستطع أى قوة مهيمنة أن تحافظ على هيمنتها إلى الأبد، وأن انهيار القوة المهيمنة قد يكون انهيارا كاملا ومطلقا كما حدث (فى بعض الآراء) بالنسبة للاتحاد السوفييتى، أو انهيارا وسقوطا نسبيا بمعنى أن تستمر قوة الدولة المهيمنة وسطوتها قائمة وفاعلة، بل وقد تكون آخذة فى النمو ولكن ليس بنفس الدرجة أو السرعة التى تنمو بها هيمنة قوى أخرى منافسة، كما هو الشأن بالنسبة لبريطانيا التى لم تفقد هيمنتها تماما على مستعمراتها السابقة ولكن مكانتها تضاءلت وتقلصت بشكل ملموس منذ الحرب العالمية الثانية أمام شراسة هجوم الهيمنة الأمريكية. من أجل تعددية ثقافية كل هذا قد يكشف عن أن عصر الهيمنة قد انقضى على الرغم من الاتجاهات التى تطفو على السطح من حين لآخر، والتي تدعو إلى العودة إلى ممارسة بعض أساليبها الفوقية لمحاربة التيارات التحررية التى تؤازر التعددية الثقافية، مثلما تعارض الدعوات التى ترى أنه ليس ثمة مايمنع من قيام ثقافة واحدة monoculture تسود كوكب الأرض وتوحد بين شعوبه فكريا ووجدانيا. وكما هو الشأن فى كل مايتعلق باستشراف المستقبل تتضارب الأراء وتتباين تباينا شديدا ولكنها كلها تكشف عن حيرة العقل البشرى إزاء تعقد الحياة والتغيرات السريعة التى يصعب التحكم فيها والتى تنعكس بالضرورة على شتى العلاقات ومختلف أنشطة الحياة، بحيث يصعب الوصول إلى تصورات على درجة معقولة من اليقين. وقد يكون فى موقف ولرستاين Wellerstein وأتباعه مايعبر بصدق عن هذا الوضع الذى يكتنفه الغموض. فهو يرى أننا نعيش فى فترة انتقال من النظام العالمى قد تنبئ عن نهاية العالم الذى نعرفه، وأن الأمور تنذر بقيام شكل من الهيمنة التى لاتستند إلى وجود قوة مهيمنة ملموسة واحدة بحيث يجد العالم نفسه إزاء نوع من الفوضى المنظمة التى تنذر بمستقبل غير واضح المعالم يتميز بوجود دول كثيرة ضعيفة أو مستضعفة، وبغياب بدائل عن القوى المهيمنة التقليدية التى تحجرت وتجمدت أو تيبست والتى تجاوزتها بالفعل وقائع الحياة.
|