الثقافة ذلك السهل الممتنع

الثقافة ذلك السهل الممتنع

حديث الشهر

قبل أن نتحدث عن الثقافة دعونا نتخيل الحياة من دونها، وسوف يكون هذا الخيال قاصراً وغير صحيح، لأنه لاتوجد مرحلة في تاريخ البشرية لم تلعب فيها الثقافة دورها

يقول الشاعر الأمريكي والت ويتمان عن الحب إنه "كثيراً مانبحث عنه وقليلا مانلاقيه، ونادرا مانُبقيه" وبتغيير بسيط في هذه الكلمات يمكن أن ينطبق هذا القول على الثقافة التي نتحدث عنها كثيراً ونادراً ما نفهم ماذا تعني والأكثر ندرة أن نوظفها التوظيف الصحيح. ولن أخوض هنا في التعاريف المختلفة للثقافة، فبعض هذه التعاريف جعلها محدودة ويقصرها على فعل النخبة من الناس، وبعض التعاريف الأخرى تجعلها وعاء شاملا كل مايحيط بالمجتمعات البشرية، فهي تشمل كل مايوجد في المجتمع من تراث ورموز وتقاليد ومعارف وغايتها هي اكتساب هذه المعارف من أجل تهذيب الحس النقدي للفرد والثقافة والارتقاء بالذوق وتنمية القدرة على الحكم، مع تلخيص شامل لكل مايكتسبه الفرد من معتقدات وتقاليد كي يصبح عضواً فى المجتمع الذي يعيش فيه.

ولعل هذه التعاريف الملتبسة تزداد وضوحاً إذا بحثنا عن جانبها الوظيفي وإذا أعدنا صياغة كل هذه العلاقات في صورة سؤال محدد: ماهي الثقافة وماهي أهميتها للمجتمع؟

إن دراسة الثقافة- مهما كان تعريفها- تبرز بذاتها حقيقة تفردها، فهي تتنوع بتنوع الأمم، والجماعات العرقية، والجماعات المصلحية، والنوادي، والشركات، وسائر التجمعات الرابطة بين الأفراد وتجعلها تفكر بطريقة مختلفة قليلا أوكثيرا عن بقية المجتمع.

ولست أتحدث هنا عن الثقافة بشكلها المباشر، ولكني أسأل القارئ الذي خطر بباله السؤال عن أهمية الثقافة للمجتمع، بسؤال آخر هو: ماهي أسباب وجود الإنسان على الأرض؟ هل وجوده فقط ليأكل ويشرب ويعمل ويأتي بالبنين والبنات ويتعبد؟

قد تكون الإجابة بنعم، ولكن هل من الضروري مثلا أن يتريض الإنسان؟، أقصد أن يمشي لفترة في يومه أو يسبح أو يقوم بممارسة بعض النشاطات الرياضية؟ هل ذلك لازم؟

البعض يقول إنه لكي يقوم الإنسان بكل ماتتطلب منه الحياة كما وصفناها وبنجاح معقول فإن عليه أن يقوم ببعض الرياضة، لأن جسمه لو لم يقم بهذه الرياضة فسوف يتجمد وتتكاثر عليه الأمراض والعلل، ويهرم بل يموت سريعا.

وقد اقتنعت بعض الثقافات بأن التريض جزء أساسي من حياة الإنسان، وجب أن يقول به بكل جدية واستمرار، تماما مثلما يقوم بعمله، أي أنه يتوجب أن يكون للتريض برنامج واضح في حياته اليومية، لأنه إن لم يقم به، أثر ذلك على نشاطه الآخر وربما بالسلب.

ونتيجة لمثل هذه الأفكار التي جربت مليا، ووجد أنها صحيحة علميا، وجدنا أن هناك انتشاراً كبيراً وعناية دقيقة لأماكن الرياضة، أو مايسمى (النوادي الصحية)، وهي ظاهرة آخذة في الاتساع في مجتمعات عديدة، ولا أقصد هنا العناية بالرياضة في نوادي كرة القدم أو بالألعاب المشهورة ككرة السلة والكرة الأرضية إلى ما هنالك من ألعاب "جماهيرية، وعامة" ولكني أقصد نوادي الرياضة الصحية التي تنتشر في المراكز الحضرية العربية والعالمية. هذه الأهمية لذلك النوع من التريض نراها واضحة، بل قسرية في الحياة الاقتصادية اليابانية التي تفرض فترة رياضية عامة في المصانع قبل أن يقوم العمال بعملهم اليومي المعتاد.

ذلك الانتشار هو الدليل على مايضيفه مثل هذا النوع من الرياضة على حياة الإنسان وإنتاجه وحركته بشكل عام، أي أنها (القيمة المضافة) على حد تعبير الاقتصاديين، فالإنسان ذو الصحة والعافية يستطيع أن ينتج أفضل، ويتعامل مع مجتمعه بشكل أفضل، ويتعبد بشكل أفضل.

ومع وضوح الأهمية النسبية للتريض كما أوضحنا، فلا يزال البعض في مجتمعنا العربي لايعرف قيمة هذا النوع من التمارين والرياضة لحياته وحياة مجتمعه، ويعتبرها ذلك البعض مضيعة للوقت والجهد والمال، وقد وصل إلى هذه النتيجة لأن الإنسان هو دائما عدو ما جهل.

وما دفعني إلى هذا الحديث بالتفصيل هو رؤيتي للتطابق والأهمية بين النشاط الرياضي والنشاط الثقافي، فالثقافة هي أيضا (قيمة مضافة) للمجتمع، برغم أن البعض يعتبر أن ما يصرف على الثقافة هو إسراف في غير محله، وأنها بأشكاله المختلفة غير ذات نفع مباشر للإنسان، بل يمكن الاستغناء عنها دون ضرر، ومتجاهل دور الثقافة كمتجاهل دور الرياضة فى المجتمع والإنسان ينطبق عليه القول المأثور "الناس أعداء ماجهلوا".

تلك النظرة قاصرة عن فهم دور الثقافة في حياة المجتمع، فهي في أبسط أشكالها تقدم الترفيه والإغناء والتسجيل والمعرفة للإنسان كما تضم لحمة الخيوط الدقيقة في تماسك النسيج الاجتماعي، فهي أولا أداة ضبط للمجتمع، لأنها القاعدة التي تتمحور حولها عناصر المجتمع المختلفة، وثانياً تقدم للمجتمع الفضائل التي يمكن أن يهدف إليها أفراده. ويبقى سؤال تفصيلي آخر مشتق من السؤال الأصلي: هل الإنسان الفرد أفضل بالثقافة أم من دونها؟ والتاريخ يجيب عن مثل هذا السؤال بأنه لم يوجد في تاريخ البشرية منذ كهوف الإنسان الأول وحتى ناطحات السحاب المعاصرة فترة خلت من النشاط الثقافي، لذلك لانعرف حقا كيف يمكن أن تكون حياة الإنسان الفرد دون تلك القيمة المضافة التي ندعوها ثقافة.

الثقافة وعلم الاجتماع

تلك الحالة من الوجود الثقافي المستمر مع تطور الجماعات البشرية قد أثارت علماء الاجتماع من مونتسكيو إلى سبنسر وغيرهما، حيث نظروا إلى المجتمع وحاولوا تفسيره واستنباط قواعد انضباطه، وقدروا أن الأفراد في أي مجتمع إذا ما أرادوا صياغة نمط حياة لهم، وجب عليهم أن يتفاهموا أو (يتفاوضوا) حول مجموعة القيم والمعتقدات القادرة على دعم ذلك النمط من الحياة الذي اختاروه، فهناك دائما في أي مجتمع ماهو عام ومشترك وجوهري في العلاقات البشرية من المفترض على كل فرد أن يعمل به أو بطرف واف منه، وليس (التفاوض) هنا بمعناه المباشر ولكنه أقرب إلى التفاهم والقبول والإذعان، لذلك نرى أن الأشخاص الغرباء عادة مايحاولون أن يدخلوا هذا المجتمع ويتعاملوا معه عن طريق الانسجام مع بعض، أو كل، القيم والمظاهر التي يقبلها ذاك المجتمع، كأن يتعلموا اللغة التي ينطقون بها أو يلبسوا نفس الملابس، أو حتى يؤمنوا ينفس المعتقدات.

إن الارتباط بين قابلية المجتمع للنماء والانسجام وقبوله للثقافة السائدة معادلة ثبت صحتها في أكثر من دراسة علمية، ففي كل مجتمع هناك قيم ثابتة جديرة بالثناء وأخرى غير مرغوبة، فالأولى تدعم العلاقات الاجتماعية والأخرى تعوقها، والثقافة بشكل عام هي نوع من تبني القيم التي تحث على النماء الاجتماعي وتُعلِّمها للناشئة ويتم القياس بها كمعيار لما هو مرغوب ومحبب، ولكن هذه الرغبة ليست ذاتية بل مقيدة بمتطلبات المجتمع، إلا أنه ليس كل فرد في المجتمع ينخرط بنفس الدرجة والمعيار في الحياة الاجتماعية ويقبل الثقافة السائدة، أو يمكن أن يستوعب بشكل صحيح القيم الثقافية المبثوثة في مجتمعه، أو حتى يفهم أهميتها للفرد والجماعة، فهناك تدرج في الفهم، ويمكن قياس ذلك الانخراط بدرجة الاندماج للفرد في المجتمع، وكلما كانت درجة الاندماج كثر خضع اختيار الفرد للقواعد المفروضة عليه من الجماعة أو المجتمع، وكلما كانت القواعد شاملة وملزمة تقلصت مساحة التفاوض المتاحة في حياة الفرد، وكلما ابتعد الفرد عن الانخراط في شئون الجماعة كلما انحسر عن الضبط الاجتماعي، وفي هذه البيئة الأخيرة تكون الحدود المرسومة مؤقتة وقابلة للتفاوض، أي أن الثقافة العامة للمجتمع غير ملزمة.

لهذا عندما درس علماء الاجتماع تأثير الثقافة على الفرد في المجتمع تحدثوا عن ثلاثة أنماط أساسية من التأثر هي التدرج والمساواتية والفردية.

ودرجات الاندماج الثقافي للفرد في المجتمع قد تقع في أحد تلك الأنماط، فالتدرج يقع عندما تتسم البيئة الاجتماعية للفرد بقوة حدود الجماعة وإلزامية قواعدها فإن المحصلة هي علاقات اجتماعية متدرجة، ويخضع الأفراد في هذه البيئة الاجتماعية لكل من ضبط الأعضاء الآخرين في الجماعة ومتطلبات الأدوار المفروضة عليهم اجتماعيا، فهي لديها ذخيرة من الحلول المختلفة للصراعات الداخلية، منها الترقي والتنحي والرفع أو الإنزال، أما المساواتية فإنه تنقصها أدوات حادة لضبط الأعضاء، أما الفردية فإن المرء هنا لاينخرط في جماعة فهو متحرر نسبيا من ضبط الغير، إنه خارج عن (ثقافة) المجتمع.

الحياة والثقافة

يبدأ تساؤلنا حول الحياة والثقافة ببحث صحة افتراض علماء الاقتصاد في أن الموارد والحاجات هي التي تضبط سلوك الناس في مجتمع ما نتيجة الحاجة إلى تدبير المعيشة ويقودنا التساؤل عما إذا كان هذا هو الافتراض الصحيح، أم أن افتراض علماء الاجتماع هو الصحيح وهو أن المفاهيم التي يتم تقديمها للناس حول الموارد والحاجات هي التي تمكنهم من تبرير نمط حياتهم؟

إذا أخذنا بالافتراض الثاني فإن القيود على السلوك الإنساني تكمن في (المفاهيم) التي تقدم للناس، أي تكمن في (الثّقافة العامة للمجتمع)، فإن غُيّر نمط الثقافة تغير المجتمع نفسه. وإن أخذنا بالافتراض الأول فيعني ذلك أن (الوضع المادي) للمجتمع هو الذي يفرض الثقافة السائدة.

بعض العلماء المحدثين يأخذون بالافتراضين معا، بمعنى أن الوضع المادي يقرر عناصر كثيرة في ثقافة المجتمع، كما أن ثقافة المجتمع تقرر عناصر كثيرة من الشكل المادي الذي يسود المجتمع. لا أريد أن أتحدث هنا عن الدجاجة أم البيضة بل أريد أن أقول إن الاثنين يؤثر كل منهما في الآخر، فالمجتمع الزراعي في مجمله أو الرعوي ينتج ثقافة معينة، كما أن هذه الثقافة الزراعية أو الرعوية على سبيل المثال تلزم بشكل إنتاج معين.

فالمجتمع الزراعي الذي يعتمد على الأمطار يوفق بين موارده وحاجاته بإشاعة نمط ثقافي يعتمد على الصبر والقناعة والنصيب، في الوقت الذي يقوم فيه المجتمع الصناعي مثلا على اعتماد قيم ثقافية لها علاقة بالتنافس وخلق حاجات جديدة ليتم إشباعها عن طريق إنتاج جديد.

المجتمع الزراعي أو الرعوي لاينمي حاجات ثقافية لاتستطيع الموارد المتاحة تلبيتها وإشباعها، فهو إذن قادر على إدارة الموارد دون الحاجات. والمجتمع الصناعي والخدمي يقوم بتنمية الحاجات بشكل متسارع تتغير فيه بتغير الموارد، فهو يدير الموارد والحاجات أيضا.

لذلك نرى أن (الثقافة) بمعناها العام حافز أو معوق للنمو في المجتمع، وترى بعض الدراسات أن الثقافات وليست الموارد هي المعوق الرئيسي للتقدم في المجتمعات بالمعنى الواسع للتقدم، حيث إن العناصر الثابتة التي يحملها المجتمع في ثقافته والتي هي جزء من عدم قدرته التاريخية على إدارة الموارد تعطل من احتمال قدرته على إدارة الموارد، حتى وإن توافرت، لأن تلك العناصر تشده إلى قيم أولية لاتتيح لها علاقة بالحاجات الأولية أكثر من علاقتها بحاجات الإعلاء.

ما علاقة الثقافة بالفنون؟

الفنون بأشكالها التي نعرفها اليوم نمت وتطورت من خلال "فائض في الموارد" ودون هذا الفائض لايهتم الناس بالموسيقى أو الرسم أو النحت أو التمثيل. هل رأيت جائعا يغني أو يرسم لوحة حتى ولو كان الخبز هو موضوعها الأساسي؟

ولقد نمت هذه الفنون في عصور التاريخ المختلفة، لأن المجتمع أصبح لديه فائض قيمة كما يقول الاقتصاديون، فائض القيمة هذا جعل الشخص الميسور على سبيل المثال لايقنع بالسكن في بيت يؤويه، بل يحب أن يكون هذا المأوى جميلا ومزخرفا يحوي من التحف والمقتنيات ماهو خاص به، أي أنه يروم التمايز بشراء نتاج عقل الآخر ومجهوده.

لذلك نمت الفنون الجميلة وترعرعت في أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لأنه أصبح في تلك البلاد طبقة وسطى لديها فائض قيمة تستطيع من خلاله توفير المبالغ اللازمة للاستمتاع بمختلف أنواع الفنون، كالموسيقى والرسم والنحت واقتناء التماثيل، بل أصبح لهذا الفن "سوق" يباع فيه الأفضل من هذا المنتج ويشترى، ومدارس لفهم هذا الفن وتذوقه والاستمتاع به، و (خبراء) لتقييمه، وهناك من يقول إنه لولا الطبقة الوسطى "البرجوازية" بمعنى علمي لما قامت أسواق للفنون التي نعرفها اليوم.

السوق الثقافية أو مانسميه اليوم بالاقتصاد الثقافي أو "اقتصادات الثقافة" أصبح شيئا معروفا ومتفقا عليه في العالم، وقد يتعجب القارئ إن قلت له: إن أكبر صادرات الولايات المتحدة إلى العالم اليوم ليس الطائرات ولا العتاد الحربي حتى ولا الملابس أو المنتج الزراعي الهائل، بل إنه المنتج الثقافي، مثل الموسيقى والكتب وأفلام السينما وبرامج الكمبيوتر، فقد صدرت الولايات المتحدة من هذا المنتح الثقافي إلى العالم في سنة 1996 مايقارب من مائة مليار دولار.

وقد انتبهت إلى الصناعة الثقافية الكثير من المجتمعات، في مرحلة من المراحل كانت صناعة السينما المصرية في الأربعينيات تدر على مصر دخلا أعلى مما يدره تصدير القطن المصري الشهير، وقد تراجع هذا الدخل بانهيار السينما التي عجز أصحابها عن إدارتها كما يجب بحيث تواصل تحقيق هذا المردود.

ولايعد المنتج الثقافي من الحاجات الثانوية بل هو من أهم الحاجات الأولية في الكثير من المجتمعات لما له من مردود مادي ومعنوي على المجتمع، ولأن الذائقة الفنية ليس لها مسطرة دقيقة يقاس بها فإن هناك مؤشرين يدلان على ذلك الأمر، وهما وجود حالة العرض والطلب لأنواع الفنون المختلفة، أي أنه أصبح هناك سوق استخدم فيه مفهوما الندرة والوفرة لتثمين أشكال من الفنون المختلفة، كما دخل "سوق" هذه الفنون نفسها هواة بسطاء، وأكاد أقول: متسولون سذج.

الثقافة والتاريخ

هل يصح أن نقول إن المجتمع بلا ثقافة هو مجتمع بلا تاريخ؟ قد لانكون بعدنا عن الحقيقة إن قلنا ذلك، فها هي ثقافة المصريين القديمة تطل علينا كي نتحقق من تاريخهم، فلولا أن الفنان المصري القديم سعى لكتابة أحداثه الكبرى على الجدران وزينها بالرسوم المختلفة ما استطعنا أن نعرف معالم هذا التاريخ، ولولا المعابد والأهرام والمدافن التي أقامها ما وصل إلينا شيء من معارفهم في فنون العمارة ولا طقوسهم للموت والميلاد، وهاهي المتاحف التي تحرص الدول والمجتمعات على إنشائها لحفظ التاريخ لذلك المجتمع، ولقد ضاع تاريخ العديد من المجتمعات لأنها أضاعت ثقافتها المحلية، فلم يبق شيء من تاريخ الجنود الحمر في أمريكا، لأن الثقافة الهندية تلك قد اضمحلت أو أريد لها ذلك، في حين أن مجتمعا كالمجتمع الإسرائيلي بعد أن اضمحلت، أو كادت، ثقافته القديمة عاود إحياءها، وبنى عليها (دولة).

في الكثير من الكتب والمراجع التاريخية نرى أن هناك حضارات سادت ثم بيدت ولم تخلف من العمران شيئا، لأنها فقط لم تخلف ثقافة يستفيد منها الإنسان، في حين بقيت ثقافات أخرى وإن ضعفت دولها أو مجتمعاتها، لأنها خلفت إرثا حضاريا وثقافيا مازال الإنسان يستفيد منه، فالثقافة تؤكد التاريخ وتدعمه، وحتى يستمر هذا التاريخ يجب أن تغرس قيم ومعتقدات في أنصاره، بأن يقبلوا أشياء ويقاوموا أخرى، يتنبهوا لبعض الأخطار ويغفلوا أخرى، وأن يلقوا اللوم على البعض وأن يغفروا لآخرين. كل ذلك تفعله الثقافة، إن الثقافة هي كسب أو خسارة الأنصار.

الثقافة والتغيير

هل الثقافة هي أداة تغيير في المجتمع أم استمرار له؟

هل تساعد الثقافة على التغيير وتدفع إليه أم أنها تساعد على البقاء في المكان، أي أنها وسيلة للاستقرار التنظيمي؟

تلك واحدة من إشكاليات الثقافة التي درست مرارا، وفي الحقيقة لاتوجد إجابة بنعم أو لا قاطعة عن هذا التساؤل، فإذا نظر المجتمع إلى نمط حياته على أنه النموذج الأوفى، وكان قادرا على تأمينه بالضرورات أصبحت الثقافة مدعمة في اتجاه البقاء وعدم التغيير. وتصبح في هذه الحالة وسيلة رئيسية يتم من خلالها تأمين استقرار المجتمع، ولكن من جهة أخرى فالثقافة نفسها يمكن أن تكون وسيلة رئيسية يتم من خلالها إحداث عمليات التغيير فإن اعتقد المجتمع أن هناك أنماطا أخرى جديدة يمكن أن تحقق له تأمين المقومات الضرورية التي يحتاج إليها تحول إليها، خذ مثلا في تاريخنا الإسلامي، لقد شعر الفرس والأتراك في مرحلة ما بأن اللغة العربية تؤمن لهم نمط معيشة مقبولا ضمن الثقافة الجديدة (الإسلامية) فتحولوا إلى اللغة العربية، بل أجادوا فيها وعبروا بها، وعندما فقدت هذه الثقافة مقوماتها بالنسبة للأتراك على الأقل واعتقدوا أن الحرف العربي يمكن أن يعيقهم عن اللحاق بالحضارة الغربية التي يطمحون إليها. نبذوا اللغة العربية والحرف العربي وتحولوا إلى الحرف اللاتيني برغم أنه كان، ومازال، لايتناسب مع تراث الثقافة التركية.

وعندما يعتقد أي مجتمع أن نمط العيش وشكل العلاقات التي يعيشها هما الأفضل من بين النماذج المتاحة تمسك بعدم التغيير، أي أن التغيير يحدث وفقا لمدى تجاوب النموذج الاجتماعي مع الواقع، فإن اختلف الواقع عن النموذج حصل التغيير القسري، والتربية والتعليم هي من أدوات التغيير الثقافي أو التثبيت الثقافي صعب الطريقة التي يستخدمها المجتمع، لذا نرى أن المجتمع فور أن يحدث التغيير، القسري أوالتدريجي، فيه. نراه يلتفت إلى مناهج التعليم فيغير فيها حسب مايريد النظام الجديد فيثبت أو يلغي، يزيد أو ينقص، يظهر أو يخفي، وكلما تباعد النموذج الذي رد تعتنقه المجتمعات عن الواقع أصبح شكله معيبا ومعوقا، وكلما انسجم مع الواقع استوعب ثقافة جديدة، وقد يخلط المجتمع بين الأسطورة الثقافية التي تجلب الأنصار والواقع بكل مايحمله من ثقافة، وذلك لأسباب سياسية واجتماعية، وتسير الأمور بشكل ناجح جزئيا، إلى وقت ما، ولكن لايستطيع مجتمع أن يلجأ إلى الأسطورة من أجل تجميع الأنصار ويتجاهل الواقع، بشكل ما، فالأسطورة لاتعيش إلا في أذهان خالقيها وهي ليست كافية لإقامة بناء على الواقع. وإذا كان أمامنا ذلك النموذج الذي خلقته الصهيونية من أسطورة (أرض الميعاد) فإن إسرائيل وليدة هذه الأسطورة لم يكن يمكنها الحياة دون الدعم المادي للغرب الأوربي الذي كان يرى فيها امتدادا له. وقد تحدث أحد دهاة الصهيونية الحديثة عن ذلك حين قال: "أؤمن بالتوراة وأضع ثقتى في الفانتوم".

إلا أن التغيير هو سنة الحياة ولايوجد شيء يبقى على حاله حتى في الثقافة، فالتغيير كلي الحدوث وداخلي وضروري للاستقرار، وليس أحادي الخط.

كلي الحدوث بمعنى أنه يحدث من حولنا دائما وربما دون أن يلحظه. فأنماط الحياة تتنافس، يندحر بعضها ويتدفق الأخر، وداخلي بمعنى حدوث الصراع بمختلف أشكاله (البعض يسميه المنافسة)، في داخل المجتمع وبين فتاته، كما أنه ضروري لإبقاء الحياة نفسها، فهنا الاستقرار يعني التغيير، ولكنه لايأخذ خطا واحدا، ولو كان كذلك لأصبحت البشرية غير ماهي عليه اليوم.

الثقافة والناس

نظرية الثقافة تتوجه في المقام الأول لدراسة العلاقات بين البشر، فأكثر مايهم الناس هو كيف يودون أن يرتبطوا بالآخرين، وكيف يود الآخرون أن يرتبطوا بهم، إنها تعكس نظرية الاقتصاديين القائلة: من يحصل على ماذا في المجتمع؟ نظرية الثقافة تقول من يريد ماذا ومتى في المجتمع؟

نظرية الثقافة تقول إن هناك أنماطا من الحياة تدعم أنماطا من القيم والمعتقدات والسلوك، إنها تفسر الصراعات في داخل المجتمعات وبين المجتمعات المختلفة وطريقة حل هذه الصراعات، إنها النسق الذي يربط المجتمع الواحد كما يربط المجتمعات المختلفة، إنها تبحث في العلاقات المنمطة والمركزة، الاختلاف والتشابه، القيم الحاثة على التماثل والقيم الحاثة على الاختلاف، ولأن المجتمع الواحد غير متماثل فإن هناك ثقافات فرعية في كل مجتمع، والمجتمع الذي يقول إن له ثقافة واحدة هو مجتمع لايرى الحقيقة، فدراسة الثقافة هي ليست دراسة التماثل بقدر ماهي دراسة الاختلاف، من أجل تقبله وفهمه والتعامل معه.

الثقافة السياسية

ارتبط مفهـوم الثقافة السياسية بالمجتع المدني وآلياته، فالتنظيم السياسي التعددي والديمقراطي يحتاج إليه المجتمع المدني، لأن هذا المجتمع تجمعه كي يستقر- القوانين التي تساوي بين الأفراد أكثر مما تجمعه الروابط التقليدية وهو يتصف باغتراب سياسي، لأنه لايحتاج إلى الكثير من النظم فالشبكة التقليدية تحمي الفرد من طغيان الدولة، أما في المجتمع المدني المكون من أفراد فإن الفرد يحتاج فيه إلى قوانين تطبق عليه كما تطبق على غيره بالتساوي، لذا فإن الديمقراطية هي حاجة مدنية أكثر منها حاجة اجتماعية بالمعنى المطلق للمجتمع، ولاهي حاجة للمجتمع الريفي أو القبلي.

في مجتمعاتنا العربية وغيرها تظهر الروابط التقليدية الطائفية والقبلية ولاتحتاج إلى كثير من الدفاع عن الديمقراطية بمعناها الغربي، لأنها ليست حاجة ملحة لاستقرار المجتمع في مرحلة ما قبل المدني، لهذا السبب نرى أن الكثير من التطبيقات الديمقراطية التي تنقصها الحاجة الاجتماعية أوما يمكن تسميته بالطلب الاجتماعي على المشاركة تتناقض فيهـا الممارسات نتيجة لضعف في الثقافة السياسية التي تنطلق أساسياتها في الديمقراطيات الحديثة من عنصرين هما الانخراط والالتزام، وتحتاج إلى شروط منها ظهور المجتمع المدني بمكوناته الحديثة.

الثقافة وتكنولوجيا المستقبل

الثقافة إذن وفق تعاريف كثيرة هي ذلك النشاط البشري الذي يسعى لإيجاد معادلات أو صيغ رمزية للأفكار والقيم والأهداف داخل أي مجتمع. وهي نتاج لكل مافي هذا المجتمع من معارف ومعتقدات وتقاليد وأخلاق، أيما باختصار كل الصفات التي تؤهله وتنقله من مرحلة الشخص الفرد إلى عضو الجماعة، والمعلومات التي يتلقاها هذا الفرد هي التي تتحكم في وضعه في هذا المحتمع، سواء كان طبقيا أو اقتصاديا.

ما هو مصير الثقافة إذن كرموز وكأنساق لغوية وكمعتقدات وصور جمالية إزاء تلك الثورة الهائلة التي سيشهدها مستقبلنا البشري القريب في مجال تكنولوجيا المعلومات وسرعة تقدمها؟ أو مايسميه البعض (هجوم العولمة) لقد قلنا في موضع آخر في هذا المقال إن مهمة الثقافة هي توجيه وعي الجماعة وتوحيدهم في مجتمع خاص فكيف تستطيع القيام بهذا الدور في ظل هندسة المعلومات وتوظيفها؟ ولعلني أشير في ذلك إلى أهمية الأفكار التي طرحها الدكتور "نبيل علي" في كتابه المتميز "العرب وعصر المعلومات" حين حاول مناقشة وضع الثقافة بشكل عام والثقافة العربية بشكل خاص في إطار ثورة المعلومات التى نواجهها.

لقد مرت الثقافة البشرية بثلاث مراحل أساسية، المرحلة الأولى هي الشفاهية حيث كان التواصل يحدث بشكل مباشر بين المتحدث والمستمع، وهو أمر تستخدم فيه الوسائل اللغوية ومايصاحبها من تأثيرات أخرى من لغة الجسم والإشارة والتأثير الحي. ثم كانت بعد ذلك مرحلة الكتابة التي تطورت في صورة لاحقة مع انتشار الطباعة وفيها تخلص القارئ من سطوة الوجود الحي لمحدثه ليختلي مع النص المطبوع المجرد يقرؤه كاملا أو يختار منه، يتفاعل معه أويتخلى عنه، أما المرحلة الثالثة والتي نعيش على أعتابها الآن فهي مرحلة التواصل الإلكتروني، وطرفه هو ذلك الذي يتحكم في جهاز الإرسال ويبث رسائل لاتنتهى إلى الجمهور المتلقي الذي ماعليه إلا أن يتلقى كل مايصوب نحوه من وسائل إعلامية ودعائية ، وبالتالي يملك (المرسل) القدرة على توجيه هذا الجمهور (المرسَل إليهَ) لكل مايصدر سواء كذبا، أو صدقا. إنها إحدى صور السطوة الإعلامية والثقافية التي يملكها الأقوى.

إن هذا الأمر يهدد الشخصية القومية في الثقافة ويلغي حدود الخصوصية والتمايز بين الثقافات ويخلق نمطا عالميا متشابها في كل مجالات المعرفة، وهو الأمر الذي علينا أن نستعد له ونواجهه من الآن، لأن المسألة الآن أصبح مجالها اللعب بالعقول، فإذا كانت الآلة البخارية قد حلت محل الجهاز العضلي في جسم الإنسان فإن أجهزة الكمبيوتر تستعد لتأخذ مكانها بدلا من عقله أو في داخله على الأقل.

إن علينا أن نتوقع صوراً جديدة في مختلف مجالات الثقافة، فسوف تكون تكنولوجيا المعلومات بمنزلة معول هدم لكثير من الحواجز الفاصلة بين فروع المعرفة المختلفة وسيترتب على ذلك ظهور توليفات علمية ومنهجية مستحدثة، وسوف يسارع هذا الأمر إلى علم الإنسانيات أيضا- وهو عالم ما زال حتى الآن يغلب عليه الطابع السردي والوصفي إلى أن يدخل مجال العلوم المنضبطة.

كما أننا مقبلون أيضا على قراءة مايسمى بالنص الفائق، وهو أسلوب يضع بين القارئ عدة وسائل عملية تجعله قادراً على تتبع مسارات العلاقات الداخلية بين ألفاظ النص وجمله وفقراته، وتجعله قادراً على الانتقال من أي موضع إلى آخر، بل تجعله قادراً على المشاركة في هذا النص بملاحظاته واستخلاصاته، كما سيتغير النص الروائي والشعري أيضا تبعا لهذه التطورات، وسوف نشهد ظهور الرواية الوثائقية وروايات الخيال العلمي التي تعتمد في بيئتها الأساسية على كل ماتوفره هذه التكنولوجيا من معلومات متدفقة، وسوف يؤثر هذا أيضا على أشكال الفنون التشكيلية والموسيقى، وقد بدا هذا التأثير واضحا الآن في السينما على وجه الخصوص.

إن كل هذه الأمور تحمل أشكالا مختلفة من الثقافات يمكن أن نرفضها مطلقين عليها تعبير "الغزو الثقافي" وندير ظهورنا لكل هذه التغيرات، وربما نحاول أن نجد موطئا لهذه التكنولوجيا ضمن إطارنا الثقافي العام، وأن نستخدم نظم المعلومات هذه لعمل مسح شامل للأوضاع الثقافية العربية الراهنة كأسس لوضع خططنا الدفاعيه ضد هذا الغزو الثقافي.

إننا في حاجة إلى بناء دوائر معلومات عربية. تلك الدوائر التي تخرج النص والصورة والصوت، وفي حاجة إلى استخدام أفضل للأقمار الصناعية العربية في مجال الثقافة، وفي حاجة إلى استخدام البرمجيات التعليمية ثنائية اللغة لتعليم أولادنا كيف يقتحمون العرض بلغته ، والأهم من ذلك كله أن ندرك أهمية الدور الذي تؤديه الثقافة فى حياتنا وأن نثق في ثقافتنا.

إنني أقدم هنا دعوة لكل المهتمين من أجل إعلاء الدور الثقافي مرة أخرى، وجعله يأخذ نصيبه اللائق به ضمن الأنشطة الإنسانية الأخرى، لأن من دونه لن يكون هناك أي معنى لبقية هذه الأنشطة.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات