القهوة العربية.. رائعة ماتيس المنسية يحيى سويلم

القهوة العربية.. رائعة ماتيس المنسية

ظلت بلاد المغرب العربي حقبة طويلة تثير خيال فناني فرنسا التشكيليين, وتأسر ألبابهم, ودفعهم هذا الشغف إلى شد الرحال نحوها, بحثًا عن مصادر مغايرة للغموض والأسرار, ومنابع إلهام أسطورية لأعمالهم الفنية.

نزح فنانون كثيرون من أوربا - وفرنسا خصوصًا - إلى بلاد المغرب, في زيارات متكررة في إقامة دائمة حينا, ومؤقتة أحيانًا, لكن هذه البلاد في كل الأحوال ظلت محتفظة في عيونهم بصورتها المفعمة بالغموض الأسطوري وقدرتها على إثارة خيالهم الفني وتفجير قدراتهم الإبداعية, لتفتح أمامهم آفاقا بعيدة ومساحات شاسعة (جديدة) من الخيال والفن.

ولم يكن هنري ماتيس إلا أحد هؤلاء الفنانين الفرنسيين الذين سحروا ببلاد المغرب, فرحل إليها لأول مرة عام 1906, مقتفيًا خطى سلفه أوجين ديلاكروا الذي سبق أن زارها عام 1832. وفي عام 1911 سافر ماتيس إلى مراكش على وجه التحديد, حيث مكث فيها فترة, ثم عاد إليها ثانية عام 1912.

وقد كانت للطبيعة والبيئة المغربية, ونمط الحياة اليومية هناك بما يكتنفها من طقوس وعادات أثر كبير عليه, فعاش سعادة الهدوء وضوء الشمس الساطعة وصوفية الوجود. وقد أولع بهذه البيئة الساحرة التي- كما يعبر عنها - (مكنته من تحقيق حلمه الفردوسي على الأرض).

أهم مراحل الإبداع

ولوحة القهوة العربية التي يطلق عليها البعض القهوة المغربية أو قهوة طنجة هي الأكبر حجمًا (176 * 210سم) والأهم في (مجموعة ماتيس المغربية), هذه المجموعة المفعمة بالحياة التي يقيمها الدارسون والنقاد باعتبارها أهم مراحل إبداعه الفني, كما تعتبر هذه اللوحة على وجه الخصوص نموذجًا للمدرسة التي عرفت بـ (الوحشية) التي تزعمها ماتيس والتي سادت لوحاته في الفترة من 1904 - 1917, والتي خرجت من تحت عباءتها معظم الحركات الفنية في القرن العشرين.

عرضت لوحة القهوة العربية لأول مرة في أبريل 1913 في باريس, ضمن أحد عشر عملا لماتيس نفذت جميعها بالألوان على القماش, ولم يتقدم أحد لشرائها على الرغم من أن ماتيس عرضها على التاجر الروسي إيفان موروزوف, وكان من المعجبين عادة بأعماله واضطر إلى إعادتها حتى قام شوكين, وهو أحد أثرياء الروس وكان من أشد المعجبين بفن ماتيس والسند الأول له فكان يدعمه ويشحذ همته.. بقوله له: (الجمهور لا يتقبلك ولكن المستقبل لك), وقد اقتنى شوكين اللوحة بعشرة آلاف فرنك عند زيارته لاستوديو الفنان في باريس.

ويكتب شوكين لماتيس بعد عودته إلى موسكو يخبره أن اللوحة وصلت بسلام وبحالة جيدة وأنه أحبها لدرجة أنها أصبحت العمل الأفضل لديه من أي عمل آخر, وقد كان يقتني مجموعة كبيرة من أعمال ماتيس تقدر الآن بـ 37 لوحة, وتابع شوكين في رسالته أنه يقضي على الأقل ساعة يوميًا في النظر إلى هذه اللوحة بحب وإعجاب.

وكان ماتيس يحمل غصة من بني وطنه فرنسا, لعدم إقبالهم على اقتناء أعماله, حتى أنه قال لأحد الصحافيين ذات مرة: (إنني أكرس أعمالي لروسيا وأمريكا وإنجلترا).

ويحظى ماتيس بتقدير وشعبية كبيرين في موسكو, وقد نُظمت احتفالات بيوبيله المئوي في الاتحاد السوفييتي (السابق) عام 1969.

وبالفعل يؤكد خبراء الفن ونقاده أن للروسيين شوكين وإيفان الفضل في أن تحتضن روسيا أفضل لوحات ماتيس وأهم أعماله خلال فترة ازدهار إبداعه.ولوحة (القهوة العربية), التي نتحدث عنها, تقع ضمن مجموعة اللوحات التي تنسب إلى التيارات الفنية الأوربية الحديثة, وقد ظلت محفوظة في خزائن المتاحف لفترة طويلة, ولم يشاهدها أحد بسبب الحرب العالمية وتنافيها ومبادئ الواقعية الاشتراكية التي ظلت مهيمنة على الحركة الثقافية في الاتحاد السوفييتي (السابق).

بعيدًا عن التوهم

وتختزل هذه اللوحة الكثير عن ماتيس: نظرته وإحساسه تجاه الفن, وتحوي اللوحة ستة أشخاص في حال هدوء واسترخاء تتلاشى فيها أحجام الأجساد لتصبح مساحات مسطحة تكشف في بساطة عن قوة الجسد الإنساني وحيويته.

ويرسم في مقدمة اللوحة شخصين لهما الدور الرئيسي في اللوحة, أحدهما جالس والآخر مستلق وبينهما دورق لسمكتين ذهبيتين وإناء للزهور, ثم يبدو الجالسون في الخلف بجوار عازف الموسيقى في الدور الثانوي. وقد أورد هربرت ريد في كتابه (معنى الفن) مقولة ماتيس (إن الترتيب الكلي للوحة من لوحاتي هو الذي يعبر, وكل شيء له نصيب من هذا, مثل المكان الذي تحتله الشخوص والمساحات والفراغ حولها, والتناسب فيما بينها جميعًا...كل شيء يلعب دوره...وما التكوين إلا فن تنظيم العناصر المختلفة في العمل الفني). ويجسد هذا العمل (القهوة العربية) أقصى حالات الوضوح التي كان يطمح إليها ماتيس, حيث يلجأ إلى التبسيط الأقصى حتى لا يترك أي مجال لإبراز المهارة أو البراعة, رافضًا الرسم المنظوري مضحيًا بالبعد الثالث, ومبقيًا على العرض والارتفاع والبعد عن إبراز الأحجام ليمنع أي توهم حول السطح المستوي للصورة, فعلى حد تعبيره (إننا نتحرك نحو الصفاء بتبسيط الأفكار والأساليب).

ويذكر من شاهد هذه اللوحة في طورها الأول (مارسيل سمبه) أنها اختلفت تمامًا عمّا هي عليه حاليًا, وعرفنا ذلك من رسالته التي بعث بها إلى برنيه جونس, حيث قال: (لو نظرت للوحة جيدًا وتفحصتها بدقة, لوجدت الأشخاص المستلقين على الأرض باللون الرمادي والوجوه ذات الشكل البيضاوي, باللون الصلصالي الأصفر, لم يكونوا من قبل بهذا الشكل, والشخص الواقع في أعلى يسار اللوحة, كان باللون الأحمر وصديقه الذي بجواره كان أزرق والتالي بالأصفر, وكان للوجه عينان وفم, كما أن الشخص الموجود في أعلى اللوحة كان يدخن الغليون, وفي أسفل اللوحة صفت نعال الجالسين فقام ماتيس بإلغائها...), هذه التغيرات الكثيرة والتحولات التي مرت بها اللوحة من حذف وطمس لتفاصيل الوجود في تراجع نحو البساطة عمدًا أو عن غير عمد, وفي كل مرة يريد تطوير شيء يتحول من المادي الملموس إلى المعنوي المدرك, وهذه إحدى خصوصيات ماتيس الفنية في إلغائه للتفاصيل الزائدة, وإعادة التلوين للوحة أكثر من مرة, فكان يقول (كل شيء لانفع له في الصورة مؤذٍ وكل تفصيل زائد يصرف عقل المشاهد عن تفصيل آخر جوهري).

وكما يظهر في اللوحة البعد عن التمثيل الحرفي للحركة للحصول على جمال أعظم وأكبر, نجد الشيء نفسه بالنسبة إلى اللون, فلا يهم تلاؤم الألوان, بل لابد أن تعبر وتترجم الإحساس الداخلي, ففي اللوحة اختزال شديد للون ودمج الأرضية بالحوائط, فلم يظهر الوصلات بينها, ويلجأ في تلوينها لتقنية قديمة, فقد حاول ماتيس في هذه اللوحة تحقيق طموحه في الوصول لإحساس التصوير الجداري القديم (الفرسكو) الذي استخدمه أساتذة عصر النهضة في جدارياتهم العظيمة, مستعينًا بألوان (ديستمبر) ذات الوسيط المائي, ليحقق بها غرضه.

من هو ماتيس?

ولد هنري ماتيس في نهاية ديسمبر عام 1869 في بلدة كانو - كامبريزيس في شمال فرنسا بالقرب من الحدود البلجيكية, وهو الابن الأكبر لوالده تاجر الحبوب بالجملة على خلاف مهنة عائلته التي عملت دائمًا في مجال النسيج.

وكان لنشأته الأولى في مركز تجارة المنسوجات الفرنسية الراقية المواكبة للموضة ذات الأصباغ والألوان المتألقة والتصميمات المبتكرة أثر في تنمية ذوقه مبكرًا.

درس القانون (1887-1889) على غير رغبته, وكان صندوق الألوان الذي أهدته إياه أمه عند مرضه في التاسعة من عمره سر تغير مجرى حياته وشغفه بحب الفن, محاولاً إقناع والده, وهو في سن الثانية والعشرين, بدراسة الفن في باريس وكان ذلك إيذانًا ببداية متاعبه وفشله مرات عدة في اجتياز امتحان القبول بمدرسة الفنون الجميلة, وكانت لوحاته جريئة وثورية لم تتعود مثلها الجماهير من قبل, فلم يقبل على شرائها أحد, وقد عانى في السنوات الخمس عشرة الأولى من حياته الفنية.

عرف عن ماتيس حبه للنظام, ويصفه ليوستن في كتابه بالوقار والاتزان والأناقة وطلاوة الحديث وحسن المعشر. كما عرف عن ماتيس تأثره الشديد بالفن العربي من حيث اللون, وتسطيح المساحات, وقد تناول بعض النقاد تأثر ماتيس بالفنون الشرقية والإسلامية عند تحليل لوحة (القهوة العربية).

فجلسة الأشخاص في اللوحة جاءت متأثرة برسوم ومنمنمات المخطوطات الفارسية التي شاهدها ماتيس في معرض ميونخ عام 1910 ومعرض باريس عام 1913. وكان تأثر ماتيس وانبهاره بفكر الشرق وحضارته وروحانياته كبيرين, وقد شغف بفنونه وأسسه الجمالية, وكان يحتفظ دائمًا في مرسمه بقطع فنية استهوته لمنتجات يدوية شرقية من نسيج وسجاد وأعمال للخشب والمعادن وأوان خزفية وقطع أثرية, إلى حد أنه صرح بمقولته الشهيرة (الحق أنني تلقيت الوحي من الشرق).

ومن عجائب القدر أن هذا الفنان الذي عرفت أعماله بالصفاء والتناغم, كما عرف بأنه الأكثر فرحًا والأكثر شبابًا, الملون الأعظم صاحب الأسلوب المتجدد والمتميز بين معاصريه, بالرغم من كل ذلك كانت حياته على الصعيد الشخصي والمهني وظروف بلده السياسية, تراجيدية مثيرة فلم يعرف السلام أو الهدوء إلا نادرًا.وظل المعلم ماتيس قديس الفن الحديث سائرًا على نهجه التجريبي, مواصلاً تفرّده الإبداعي وبقدرة عجيبة وحيوية متدفقة على التجديد طوال مسيرة حياته, ولم تقعده إصابته بمرض السرطان في عام 1942, وظل يعمل من فوق كرسيه المتحرك, وفراشه إلى أن توفي بالسكتة القلبية بين يدي ابنته في (نيس) في اليوم الثالث من نوفمبر 1954 عن عمر يناهز 85 عامًا, مخلفًا للإنسانية ثروة هائلة من الأعمال الفنية وضعته في صدارة أعظم رسامي العالم.

لاذُقْتُ يوماً راحة ً مِن عاذلٍ, إنْ كنتُ ملتُ لقيلهِ ولقالهِ
فوحقِّ طيبِ رضى الحبيبِ ووصلهِ ما ملَّ قلبي حبَّهُ لملالهِ


(ابن الفارض)

 

يحيى سويلم

 




 





رضا عباس الدرويش 1626 - أحد الرسوم الفارسية التي تأثر بها ماتيس





رسائل ماتيس الى إمبلي 1912 يعرض فيها أفكار اللوحة عليه