(دومييه) يواجه الفساد بالكاريكاتير! بندر عبدالحميد

(دومييه) يواجه الفساد بالكاريكاتير!

قال الشاعر الفرنسي شارل بودلير عن معاصره الفنان أنوريه دومييه (1808 - 1879): (إنه أحد أهم الرجال, ليس في مجال الكاريكاتير فحسب, بل في الفن الحديث كله..).

يشير هذا القول إلى التنوع والغنى والعمق, في أعمال دومييه وموضوعاتها التي تنبض بالحيوية, والتصدي للمشكلات الاجتماعية الساخنة, والمواجهة الضارية مع الفساد ورموزه, في مرحلة الاضطرابات والتحولات الكبرى التي توالت بعد قيام الثورة الفرنسية.

عاش دومييه سنوات طفولته الأولى في مرسيليا, ثم انتقلت عائلته إلى باريس, وكان أبوه يعمل في صناعة الزجاج ويطمح أن يكون شاعراً, فاضطر دومييه الابن إلى العمل مبكراً, إلى جانب تعلمه للرسم, حيث أتقن حرفية عالية في الرسم والحفر والطباعة إلى جانب موهبته وذكائه في التقاط موضوعاته الأثيرة, التي زاوج فيها بين اللوحة الفنية والكاريكاتير السياسي الحاد الذي قاده إلى السجن, وارتبطت أعماله بتاريخ المرحلة التي عاشها وصورها ببراعة, في نحو مئتي لوحة فنية وأربعة آلاف رسمة هزلية ساخرة, وعدد من التماثيل النصفية المنوعة.

تمثل لوحات دومييه عموماً مشاهد ساخنة من الحياة اليومية المتحركة, ومن تلك المشاهد ما كان ينقله من انعكاسات البؤس في وجوه الناس, في القصر العدلي, وفي عربات السفر, ومن حياة الفنانين في المسرح والسيرك, وفي هذه اللوحات يبرز تعاطف الفنان مع هذه النماذج من الناس الذين يعانون قسوة الحياة, وقد لا يعرفون طريقاً للخلاص سوى الهجرة إلى المدن الكبرى, حيث لا يجدون سكناً إلا في أكواخ مهلهلة, كما هي حال دومييه نفسه, الذي تشرد طويلاً, قبل أن يسكن في بيت مستقر ومتواضع, في أعوامه الأخيرة, منحه له صديقه الفنان (كورو).

إن أهمية أعمال دومييه تنبع من قدرتها على الجمع بين القيمة الفنية والقيمة الفكرية وفن الكاريكاتير الذي يستمد قوته من جماليات الخطوط والأفكار المبتكرة والالتزام الاجتماعي, أو الإنساني للفنان, كما تحمل تلك الأعمال قيمة الوثائق الحية عن زمانها. كانت أهم رسوم دومييه موزعة في سلاسل تحمل عناوين محددة, منها: الأقنعة, البوهيميون في باريس, السامريون الطيبون, روبير ماكيبار, المسيح والحواريون, مسافرو الدرجة الثالثة, ثم دون كيخوتة وسانشوبانزا, وهذه السلسة الأخيرة أخذت اهتماماً خاصاً من دومييه على مدى عشرين عاماً ونالت شهرة واسعة, حتى قيل: إن دومييه يرى نفسه في روح دون كيخوته, مزروعة في جسد سانشوبانزا ذي الحظ العاثر.

شخصيات مبتكرة

حينما صدرت صحيفة الكاريكاتير, في عهد لويس فيليب, انضم دومييه إلى رساميها البارزين, ومنهم ديفيريا ورافييه وغرافيل, وهم الذين اشتهروا برسومهم الساخرة التي تنتقد التقاليد البورجوازية والفساد في القضاء, وقلة الكفاءة والتخبط في الأداء الإداري, ونشر دومييه لوحته الساخرة الشهيرة (غيرغنتوا) عام 1831, مستعيراً اسم رواية الكاتب الكلاسيكي الفرنسي رابليه, من القرن السادس عشر, وهي تمثل شخصية لويس فيليب على شكل مخلوق خرافي جشع يشن الحروب, ويتنازل عن الوطن للأعداء, وهو في هذه اللوحة يجثم على كرسي عال, وبطنه منتفخة, بينما يمد لسانه الطويل ليسحب صرر الذهب المسلوبة من الناس المحتشدين أمامه. وكان هذا سبباً في إصدار حكم يقضي بسجن دومييه ستة أشهر, ومنع صحيفة الكاريكاتير من الصدور, لكن صاحبها أصدر صحيفة جديدة بعنوان (شاريفاري) - الغوغاء -, وبعد أن خرج دومييه من السجن بدأ برسم سلسلة (التاريخ القديم), واستلهم شخصيات من الحكايات الشعبية, ومنها شخصية روبير ماكيبار.

وابتكر دومييه شخصية (الفأر المخادع) في سلسلة رسوم عن الفساد الإداري, في محاولة للتهرب من القيود والعقوبات المفروضة على الصحافة, من خلال إسقاط الشخصيات التاريخية والشخصيات الكرتونية على الحاضر, كما رسم لوحة عن المذبحة التي دبرها الملك لويس فيليب ضد الاحتجاجات السلمية التي نظمها عامة المواطنين في مدينة ليون, راح ضحيتها عدد كبير من سكان شارع تراسنونان, وتعكس لوحة دومييه عن هذه المذبحة صورة عائلة مذبوحة في غرفة فقيرة, حيث تظهر لنا جثة رجل بملابس النوم وهو مذبوح فوق بركة من الدماء, وتحته جثة طفل, وإلى جانبه الأيمن رأس عجوز, وإلى يساره في الظل جثة طفل, وهو مشهد من مشاهد المذبحة الرهيبة التي ارتكبتها قوة القمع التي استدعيت لإخماد إحدى الانتفاضات المتعددة ضد النظام الفاسد الذي استمر نحو عشرين عاماً.

مشاهد الحياة اليومية

إن الاهتمامات المختلفة لدى دومييه دفعته إلى استخدام أدوات مختلفة, فإلى جانب رسومه ولوحاته أنجز منحوتات نصفية ساخرة عن نماذج من رجال الحاشية وأعضاء البرلمان, ومن أهم أعماله النحتية سلسلة متكاملة من ست وثلاثين قطعة من الصلصال الملون أنجزها في ثلاثة أعوام (32 - 1835) وكأنه خطط لإنجاز قطعة واحدة منها في كل شهر, وتتقاطع لوحاته الساخرة مع الشخصيات التي كتب عنها بلزاك في (الكوميديا الإنسانية) حيث الوجوه تطفح بالغباء والجشع والعجرفة, في مواجهة الوجوه البريئة البائسة, من الأغلبية الساحقة في المجتمع الفرنسي.

إن لوحة (الشغب) 1852 تحمل معها حداثة مبكرة وجاذبية واضحة, حيث نرى رجلاً يرفع يده احتجاجاً, وهو يقود مجموعة من الرجال لهم وجوه شبحية قاسية, وتعطي الأشكال المعتمة لهذا الحشد انطباعاً واضحاً بسيطرة القضاء والقدر على المصائر الغامضة لهؤلاء الناس, وحرص دومييه على رسم وجوههم بألوان الصلصال الذي استخدمه في صب تماثيله. أما سلسلة لوحات (المهاجرين) فإنها تمثل تنويعات إبداعية على مشكلة اجتماعية لها أسبابها القاهرة, من الجوع والخوف والإبعاد القسري, وفي إحدى تلك اللوحات تظهر سماء نارية قاتمة وموكب غير مميز المعالم من الرجال والنساء والأطفال والحيوانات, في حشد من الأجساد المضغوطة المنحنية الباحثة عن الأمان.

وفي سلسلة لوحات (عربات الدرجة الثالثة) 62 - 1866 - نشاهد في إحدى اللوحات أماً تحتضن طفلاً رضيعاً بيديها الخشنتين, وامرأة أخرى مهمومة تحتضن سلة وتنطوي على نفسها, يلفها عالمها الخاص الحزين, بينما ينام بجانبها صبي غارقاً في أحلامه التي لا تشبه هموم الكبار الذين يرافقونه في الرحلة, وفي الخلفية عدد من الركاب الذين تضيع تفاصيل ملامحهم في الألوان الخرساء. وفي لوحة أخرى, في عربة أخرى, نجد عجوزين, رجلاً وامرأة, يفصل بينهما جدار من الصمت, ينطوي الرجل على نفسه محني الرأس, بينما تتوقد عينا المرأة العجوز النحيفة بمرارة المعاناة والألم.

شهرة متأخرة

في عام 1860 اضطر دومييه إلى ترك العمل في صحيفة شاريفاري ولم يعد إليها إلا بعد أربع سنوات, حيث كان يعاني الإرهاق المتواصل, وضعف البصر الذي وصل إلى درجة العمى في آخر أيامه.

لم يكن دومييه منتمياً إلى مدرسة أو جماعة معينة محددة, لكن بعض النقاد وصفوه بأنه فنان طبيعي, وقال آخرون إنه فنان واقعي, ولكنه لم يحظَ بالشهرة التي تليق به, إلا في العام الأخير من حياته, فبعد أن رفضت قاعة (الصالون) الشهيرة عرض أعماله في أربعة مواسم, نظم فيكتور هيجو عرضاً خاصاً في قاعة فخمة, مصحوبة باهتمام واسع من المثقفين والنقاد والجمهور, وأطلق عليه أحد النقاد لقب (مايكل أنجلو الكاريكاتير).

تأثيرات دومييه

ترك دومييه تأثيراً واضحاً ومباشراً على أعلام الفن الحديث, من الجيل الذي جاء بعده في نهاية القرن التاسع, وأوائل القرن العشرين, إن لوحته (لاعبا الشطرنج) تذكرّنا بلوحة سيزان (لاعبا الورق) ولوحته الأخرى (الحوريات المطاردات) استلهمها بيكاسو في لوحته عن الموضوع نفسه, بينما وصلت إلينا إشارات واضحة من فان جوخ, في رسالة كتبها إلى أخيه ثيو, يؤكد فيها اكتشافه المتأخر لعظمة أعمال دومييه وقوته وتماسكه, وقد نجد في الأعمال المتأخرة لفان جوخ, مثل لوحته (آكلو البطاطا) تأثراً بموضوعات دومييه وخطوطه, وبرز هذا التأثر في اهتمام فان جوخ بمعاناة عمال مناجم الفحم البلجيكيين في منطقة البوريناخ, حيث أقام بينهم, واستلهم بؤسهم في الرسم والكتابة. وإذا كان دومييه لم يحظ بأي معرض فردي في حياته, سوى المعرض الذي أقيم قبل وفاته فإن أعماله قد جذبت أهم تجار اللوحات والأعمال الفنية, بعد وفاته مباشرة, حيث تقاطروا على زوجته, واشتروا ما يريدون من أعماله بأسعار بخسة, وحولوها إلى بضاعة ثمينة, بعد أن وضعه النقاد والكتاب في مستوى كبار الفنانين, مثل رامبرانت وروبنز وديلاكروا, وأخذت أعماله مكاناً بارزاً في أهم المتاحف في العالم. يقول الباحث الأمريكي سيدني فنكلشتين: (إن أسلوب دومييه واسع جداً ومتنوع, وقد يكون رسمه حاداً وصارماً عندما يصف اللاإنسانية, ويكون ناعماً ورقيقاً عندما يستلهم الإنسانية, وأسلوبه يشبه أسلوب رامبرانت ولكن ببساطة أعمق, وهو أسلوب يكشف في الناس الشيء الأكثر عمومية فيهم والذي يربطهم بالآخرين, وربما يستحيل جعل الفن أكثر بساطة من هذا).

قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي, روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ
لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيهِ أسى ً, ومِثلي مَن يَفي
ما لي سِوى روحي, وباذِلُ نفسِهِ, في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ
فَلَئنْ رَضيتَ بها, فقد أسْعَفْتَني; يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تسعفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ, ومانحي ثوبَ السِّقامِ بهِ ووجدي المتلفِ
عَطفاً على رمَقي, وما أبْقَيْتَ لي منْ جِسميَ المُضْنى, وقلبي المُدنَفِ
فالوَجْدُ باقٍ, والوِصالُ مُماطِلي, والصّبرُ فانٍ, واللّقاءُ مُسَوّفِ


(ابن الفارض)

 

بندر عبدالحميد