أحمد أمين عاصم فنان مصري ينحت في دمشق

أحمد أمين عاصم فنان مصري ينحت في دمشق

لا يختلف اثنان، على أن هذا النحات العربي المصري هو الأب الروحي لفن النحت السوري المعاصر، الذي يعيش هذه الأيام، حالة لافتة من التطور والازدهار، بفضل طلبة هذا النحات الكبير الذي عشق دمشق، وعاش فيها سنوات طوالاً، قبل أن يعود إلى القاهرة، حيث توفي العام 1989.

بدأت علاقة النحات عاصم مع دمشق العام 1960، حيث كان في عداد الفنانين التشكيليين المصريين الأكاديميين الذين أوكلت إليهم مهمة تأسيس المعهد العالي للفنون الجميلة بدمشق، لمصلحة وزارة التربية، أيام الوحدة بين مصر وسورية.

قام النحات عاصم بتأسيس شعبة النحت في هذا المعهد، ورأسها لبضعة أشهر، عاد بعدها إلى القاهرة. في العام 1963، تحوّل «المعهد العالي» إلى «كلية» تتبع جامعة دمشق، وتاليًا وزارة التعليم العالي. وفي العام 1968، عاد هذا النحات الكبير إلى دمشق، ليرأس مرة ثانية، شعبة النحت في كلية الفنون الجميلة، وليبدأ مرحلة التأسيس الحقيقية، لمسيرة حركة النحت السوري الحديث، حيث مكث فيها نحو خمس سنوات، وخرّج خلالها مجموعة كبيرة من النحاتين السوريين المميزين، يُشكل معظمهم اليوم، الهيئة التدريسية لقسم النحت في كلية الفنون الجميلة، ويتوزع الآخرون، في نسيج الحياة التشكيلية السورية، الحي، الفاعل، والمنتج، وجميعهم يدينون بالفضل، لهذا النحات الذي كان لهم أبًا، ومرشدًا، ومعلمًا، زودهم بالمعارف العملية والنظرية لفن النحت، وحببهم به، وجذبهم إليه.

أواخر سبعينيات القرن الماضي، عاد النحات عاصم للمرة الثالثة إلى قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، لكنه لم يمكث فيه هذه المرة طويلا، وكأني به شعر بدنو أجله، ما دفعه إلى العودة إلى القاهرة، ليمضي بها سنوات عمره الأخيرة.

خص النحات عاصم سورية بحبه، وجهوده وعطائه وإخلاصه، ومع قدومه إليها، أخذت تتبلور، وبشكل واضح وسريع، ملامح حركة نحتية جديدة وناضجة، تمتلك شخصية فنية رائدة،تجمع بين الأصالة والحداثة، بكثير من التوافق والانسجام، فما الأسس التي اعتمدها هذا الرائد في تدريسه لفن النحت؟

نهضت نظرية النحات عاصم في هذا المجال، على جملة من الأسس والمفاهيم، كَوّنها من خبراته الخاصة، وتجاربه الناضجة، وممارسته الطويلة والخلاقة، لهذا الفن العريق، تدريسًا وإنتاجًا. من هذه الأسس والمفاهيم: التركيز على قيم التراث الفني العربي في النحت والعمارة، خلال الأحقاب الحضاريّة المختلفة، لاسيما الرافديّة والمصريّة القديمة، وعلى قيم الفن الإفريقي البدائي، وقيم الحضارات الكبيرة كالهندية والمكسيكية، والتأكيد على ضرورة الابتداء بالطبيعة وعدم الانتهاء بها، والتركيز على مفهوم الكتلة والفراغ والتوازن المعماري، والإحساس الداخلي بالتكعيب، والإضاءة الواسعة، وغيرها من المفاهيم والقيم الفنيّة الأصيلة التي هي خلاصة مسيرة فن النحت العالمي، منذ صيرورتها الأولى وحتى اليوم.

امتلك النحات العربي الكبير أحمد أمين عاصم، شخصيّة فنيّة مفعمة بالمحبة والوفاء والصدق، غنيّة شكلاً ومضمونًا، سعت بإخلاص كبير، إلى خلق حركة نحتيّة أصيلة وحديثة في سوريّة، فمن هي هذه الشخصية؟

أعمال إبداعية

ولد النحات أحمد أمين عاصم في الإسكندرية عام 1918 لأبوين يهتمان بالفن. فالوالد كان رسامًا، والوالدة موسيقيّة مشهورة، وعازفة بيانو معروفة.

في سني الدراسة الإعدادية الأولى، اتجه إلى ممارسة الرسم، وتفوق فيه، غير أن فن النحت سرعان ما أخذه منه لينتسب في العام 1938 إلى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ويتخرج في قسم النحت عام 1944 بدرجة امتياز شرف، وبمشروع دعاه «شهداء ثورة 36 ضد الاحتلال الإنجليزي». تفوقه الدراسي الأكاديمي هذا، مكّنه من الالتحاق بدراسة «البيئة المصرية» و«الفن المصري» في الأقصر لمدة سنتين. في العام 1947 سافر في بعثة فنيّة إلى باريس، حيث التقى «مارسي جيمون» تلميذ «رينوار» وكان نحاتًا ومصورًا وناقدًا فنيًا فذًا، فتتلمذ على يديه، ورافقه في معظم جلساته النقدية التي كان يقيمها أسبوعيًا.

عام 1951 سافر إلى «روما» التي وجدها مختلفة كليًا عن «باريس» لدرجة شعر بنفسه ينتقل من مدينة هي «باريس» إلى قرية هي «روما».

بعد انتهاء دراسته، عاد ليعمل مدرسًا لفن النحت في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ثم في دمشق.

وضع النحات أحمد أمين عاصم خلال حياته، مجموعة كبيرة من الأعمال النحتية الحجريّة الصغيرة، والنصبيّة الكبيرة، منها ثمانية عشر وجهًا لأشهر المخترعين العالميين، وتمثال وجهي للنحات الرائد «جمال السجيني» الموجود في متحف كلية الفنون الجميلة في القاهرة، وآخر للرسام الرائد «أحمد صبري» موجود في صالة الفن الحديث بالقاهرة، ولوحة «كفاح الشعب العربي بمصر» الموجودة في مجلس الشعب بالقاهرة، وهي بطول 9 × 5م ومنفذة بطريقة النحت الغائر. وهناك نصب تذكاري لشهداء معركة (بورسعيد) وآخر لشهداء الرياضة موجود في النادي الأهلي، ونحت بارز في «بور توفيق» على قناة السويس يحكي قصة حفر القناة وصولاً إلى تأميمها، كما أنجز النحات عاصم أثناء وجوده في دمشق، عدة أعمال منها: وجه جيفارا، وسلسلة من الحمائم، ودراسة نصبيّة لخولة بنت الأزور، وامرأة جالسة، وأخرى مستلقية.. وغيرها كثير.

النحت والعمارة

النحت كما يراه عاصم، كتلة وفراغ، وهو بذلك أساس معماري مرتبط بمفهوم البناء ونتيجته. لذلك عندما انفصل النحت عن العمارة، انهار إلى أبعد الحدود، وعندما عاد إليها، واعتمد أساسها، حقق ماهيته وأكدها.

بمعنى آخر، عندما انفصل النحت عن تعانقه مع العمارة، من حيث تأثره بقوانينها المعماريّة المجردة، ومن حيث اشتراكه معها في موضوعيتها الاجتماعية، تضاءلت قيمته الفنية الصرفة المجردة، ووصلت إلى أدنى مراحلها.

نرى ذلك بوضوح في تاريخ النحت عبر الحضارات الكبرى التي تركت لنا تفوقًا عاليًا في القيم الفنيّة الرفيعة، مثل الحضارات المصرية القديمة، والمكسيكيّة، والرافديّة، والهندية، والقوطية.. إلخ.

وبالمقارنة بين ما وصلت إليه الفنون التشكيلية، (خاصة فن النحت) في هذه العصور الكبرى، وبين عصر النهضة وما بعده، حيث انفصل النحت عن العمارة، واندفع يتخبط بين دوامة التجارب والاتجاهات المختلفة التي تخلت عن قيمه التجريديّة المعماريّة في وسائل بنائه، وعن دوره الاجتماعي الرائد، ما أدى إلى موته في المعابد والكنائس، وسطوة فردية الفنان بشكل كبير، على اتجاهات النحت الحديث التي اتجهت نحو وسائل وأبحاث تكنيكية خزفيّة، أضاعت قيمه النحتية الرفيعة، وفرغته من ماهيته الحقيقية، ليصبح بعدها أشبه بالطفل الذي فقد أمه، ولتصحيح هذا الوضع، كان لابد من عودة النحت ثانية إلى أمه العمارة!

من جانب اخر، أكد التاريخ أنه لا سبيل مطلقا، لتقدم وإحياء فن العمارة ذاته، إلا بتعانقه هو الآخر، مع الفنون التشكيلية من جديد، لتعود لها روحانيتها، ويقف المهندس على قيمها الحقيقية، وهذا ما دفع جميع المؤتمرات الدولية التي بحثت في وسائل النهوض بالفنون التشكيلية الحديثة ونشرها وإنعاشها اجتماعيا، للتوجيه بالاهتمام بالفنون التشكيليّة ضمن التصميمات المعمارية، وقد قامت في العصر الحديث، تجربة رائدة في هذا المجال، قادها المعماري «لوكوربوزيه» ظهرت نتائجها بشكل واضح في المكسيك والبرازيل، حيث حاولت هذه التجربة ضم عائلة الفنون الجميلة بعضها إلى بعض، بهدف خلق فن جديد كبير متكامل الأبعاد الفنية والدلالية، انطلاقًا من المفهوم السابق، ومن واقع تاريخ الفن وقيمه، ومن حقيقة أنه لا جديد ينشأ من الفراغ، ولا يمكن أن نبني أي تطور اجتماعي فيه، فالتطور لا يكون إلا بالبناء المكتسب من خبرة التراث الإنساني الذي يبقى هو الركيزة المؤكدة، لضمان صحة الخطوات الثابتة له.

لقد وجه النحات عاصم وبشكل دائم، إلى ضرورة الوعي الجيد لتلك التجارب الناجحة في تاريخ الفن الطويل، والتي هي على مستوى رفيع من الجودة الفنيّة، وذلك حتى لا تضيع أقدامنا عن طريق الخلود الدائم، فنجد أنفسنا في الفراغ ثانية.

وأكد أن النحت، كعنصر من عناصر الحركة الفنية الحديثة، بشتى اتجاهاتها،عليه الاستلهام من تلك الحضارات والاعتماد على قيمها، بالشكل الذي يلائم الإمكانات المتاحة في عصرنا الحديث، ومن دون هذا الأساس التاريخي المهم، فإنه سيصل حتمًا، إلى مرحلة التجريد، والتجريد المطلق، فيضيع عندها في الأبحاث التقانية الباردة، وينتهي إلى فن هزيل، لا يتناسب مطلقًا وعظمة التطور الحديث الذي وصل إليه عصرنا، سواء في إمكاناته التكنيكيّة المتاحة، أو في تطور علاقاته الإنسانية.

 

محمود شاهين 





الفنان أحمد أمين عاصم





حمائم - دمشق 1972 (جبس)





وجه جيفارا - دمشق 1971 (جبس)





امرأة مستلقية - دمشق 1970 (صلصال)





لوحة كفاح الشعب العربي المصري - مجلس الشعب المصري 1957 (نحت غائر)





رمز السلام - دمشق 1970 (فخار)





جمال السجيني القاهرة 1945





من اليمين: محمود حماد، أحمد أمين عاصم، أسعد عرابي، مخلص الصابوني - كلية الفنون الجميلة، دمشق 1971