العولمة والهوية الوطنية

العولمة والهوية الوطنية

هل يهيمن منطق الحقيقة الواحدة التي تفرضها العولمة ويصاب الأفراد بالتردد بين قيمهم المرجعية القديمة وضرورة الانتماء إلى عالم جديد؟

إن التداخل المتسارع للاقتصاديات، والزحف المكثف للوسائل الاتصالية ، وظهور الطرق السيارة للمعلومات، غمرت جميع البلدان وسط محيط متعدد الثقافات ، وفي الوقت الذي يخيل إلينا أن العالم يتجه نحو التوحد، تبرز بوضوح العديد من اختلافاته القومية، والإثنية، والدينية والعنصرية، وتطفو على سطحه مقولة "الصدام" تبررها نظرية ثنائية متضاربة جملة وتفصيلا: رؤية شمولية، وقيم عقلانية، وحقوق إنسانية ومرجعية ثقافية متحررة، من جهة وخصوصيات رجعية وظلامية جديدة رهيمنة الحقيقة الواحدة والمطلقة من جهة أخرى. هذا الوضع المتضارب من شأنه أن يعرقل التوجه نحو عالم تسوده المبادئ الإنسانية الرفيعة، ويجعل الأفراد في تردد بين القيم المرجعية والعادات الانتمائية، وترمي بهم في متاهات الضياع، آفات التمزق.

إن كان الرأي السائد يقر بأن العولمة مرتبطة أساسا بمنطق السوق وآلياته، وأنها لم تتوصل إلى إدماج بقية الميادين الحيوية الأخرى وبنفس الدرجة من الأهمية فإن الضرورة المعرفية تحتم معالجة التأثيرات الثقافية لهذه العولمة، ومدى قدرة الثقافة على التأقلم مع أنماطها الجديدة، وكيفية ردود فعل الثقافات المحلية. ولقد تعددت فى هذا السياق المقولات واختلفت أشكال ومضامين الخطاب المطروح طبقا لاتجاهات وغايات واضعيه، وإذا ما حاولنا الوقوف عند أهم الطروحات، نجدها ترتكز أساسا على خطابين اثنين، الأول سابق للثاني نسبياً ، وصادر عن المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية الكبرى، ويحاول الإقناع بأن النجاح الاقتصادي ومايسبقه من نقلة تمهيدية، لايمر عبر التأقلم مع قيم الثقافة المحلية ، بل من خلال تجاوزها وإلغائها ووضعها بين قوسين، هامشا لا أهمية له ولاجدوى. فالثقافة، من هذا المنظور الإقصائي، هي حاجز أمام الانطلاقة التنموية، تعرقلها وتبطئ مسارها، لذلك يدعو أصحاب هذا الخطاب المجتمعات إلى التخلي عن قيمها الثقافية الخصوصية، وتعويضها بأخرى مستمدة من محيط غير محيطها، بدعوى اتباع النموذج الناجح، كما يطالبها بتطبيق نمط تنموي محدد أكد فاعليته وآخر تقليعاته اتباع نموذج بلدان جنب شرق آسيا الزاحفة اقتصاديا. ويقترح، تبعا لذلك أن تصبح الدول النامية، "دول الحد الأدنى" فتتخلى عن بعض مشمولاتها وتذوب وسط هيكلة إقليمية وتحاول أن تغذي السوق العالمية بصادراتها، في حين أن الواقع يؤكد خلاف ذلك، فالبلدان الزاحفة حاليا ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة لم تتخل عن النمط الموجه في اقتصادها، وأدارت الظهر كما يقولون لمحيطها الجغرافي، وسعت أساسا إلى تدعيم أسواقها الداخلية وإجراء إصلاحات اجتماعية كبرى قبل أن تنطلق لغزو الأسواق الخارجية.

بين الحرب والصدام

أما الخطاب الثاني فقد تبلورت عناصره بعد سقوط حائط برلين وانهيار الشيوعية واندلاع حرب الخليج، وهو خطاب جاء معلنا عن "حرب الثقافات" و"صدام الحضارات" ، جاعلا من الأفراد والجماعات سجناء هوياتهم الثقافية، ومن التناقض الذي يصل إلى حد العداء والمواجهة أساس الحضارات، وهو خطاب يفنده التاريخ وتلغيه الحقائق، إذ من غير المعقول تصور الحضارات تنمو وتتطور في عزلة ودون حوار خصب فيما بينها، فالحضارة الإسلامية أثرت مضامينها وحققت انطلاقتها وشموليتها بتلاقحها مع الحضارات الأخرى السابقة والمعاصرة لها، كالحضارات الفارسية والبيزنطية والرومانية وغيرها، كما أن حضارة الغرب استفادت كثيرا من الحضارة العربية الإسلامية وأخذت عنها ما وفر لها مستلزمات التطور والنهوض.

فهذه النظرية تحمل مفارقة غريبة، إذ هي تربط بين ضرورة العولمة الاقتصادية، وحتمية صدام، الحضارات وما ينجز عنه من ردود فعل حمائية، كالغزو والهيمنة من جهة والتمركز المعكوس من جهة أخرى. فهو منطق لعولمة تقصي عوض أن تدمج، وتفرق عوض أن توحد، وتقوض عوض أن تبني. فيصبح الإنسان المعاصر، تحت تأثير الصدمات المتتالية التي أتت على المراجع التقليدية فنسفتها، يعتقد أن مايحدث خارج محيطه الخارجي ، وهو شر لابد من اتقائه ، ويجب توفير كل مستلزمات الإعداد لمواجهته، فينجز عن ذلك مايمكن تسميته ب "الحمائية الوهمية" التي عادة ما تختفي وراءها الحركات والمواقف الأصولية فى حين أن المناعة الحقيقية تتجسم عبرالتفتح على الآخر والتفاعل معه من خلال جدلية الأخذ والعطاء والإضافة المشتركة للحضارة الإنسانية.

رؤية جديدة للعولمة

إن هذين الخطابين يجردان "العولمة" من أبعادها الشمولية والإنسانية ، ويجعلانهـا سجينة منطق اقتصادي خاضع لآليات السوق ، غير عابئ بالقيم المشتركة، والاختلاف المثري، والتكامل الممهد للسلم العالمي. لذلك لابد من إشاعة رؤية جديدة "للعولمة" ترمي بالمنطق "السوقي" ونزعة "الحمائية الوهمية" عرض الحائط، فتمنع الصراع الأعمي بين الثقافات، وتضع حدا لتمزق المجتمعات وتقلص من الفوارق بين الشعوب المحظوظة والمندمجة والأخرى المحرومة والمقصية، وهذا المسعي يتطلب سياسات جديدة قادرة على مواكبة التحولات العالمية والتأقلم مع مستجداتها وتأهيل مؤسسات مجتمعاتها ومواردها البشرية، فبعد نهاية الحرب الباردة وزوال الاستقطاب التقليدي بين معسكرين تقاسما النفوذ، تشكل نظام عالمي جديد لا بقاء فيه إلا للأقدر والأجدر والأكثر وعيا بمتطلبات المرحلة، يلعب فيه الاندماج الإقليمي دوراً أساسيا، إذ غدت الدول غير قادرة على رفع التحديات خارج نسق التعاون والشراكة مع محيطها، فالولايات المتحدة الأمريكية حريصة على إعطاء الأولوية في تعاملها مع فضائها الجغرافي الأقرب، ككندا والمكسيك وبقية بلدان أمريكا اللاتيتية وجنوب آسيا، وتسعى روسيا إلى إيجاد فضاء لها تؤثر فيه وتكثف التعامل معه، خاصة في أوربا الشرقية وبعض البلدان الآسيوية المتاخمة لها، وإن كانت أوربا قد اهتدت إلى طريقها بالعمل على تجسيم وحدتها وتوسيع دائرة علاقاتها الأساسية مع أوربا الشرقية وبلدان جنوب المتوسط، فإن آسيا برغم النجاح الاقتصادي الهائل الذي حققته بعض بلدان جنوبها الشرقي مازالت تبحث عن هويتها السياسية والاستراتيجية. ويبقى التساؤل الذي يخامرنا جميعا مطروحا، أين العالم العربي في كل هذه التحولات؟

واقع عربي مشترك

للإجابة، نؤكد أن حلولا عديدة تم طرحها، واختيارات متنوعة دخل بعضها طور التجسيم وإن كان السعي إلى استكمالها النهائي لا يزال متواصلا، كمجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي ، ولقد راهنت بلادنا من موقع إيمانها بدقة الوضع العالمي الجديد وأهمية التضامن العربي لمواجهة التحديات ، على التعاون العربي المشترك، في إطار شامل أو إقليمي، وساهمت بجدية وفاعلية في إرساء اتحاد المغرب العربي وبعث العديد من مؤسساته والمحافظة على ما تحقق من مكاسب وزيادة دعمها، دون أن تغفل عن المكونات الأخرى لمحيطها الجغرافي والطبيعي كالانتماء المتوسطي والإفريقي فأبرمت اتفاقية شراكة مع المجموعة الأوربية، ودعمت علاقاتها مع العديد من البلدان الإفريقية وشهدت منظمة الوحدة الإفريقية في ظل الرئاسة التونسية دفعا وحدويا لم تشهده من قبل .

إن العولمة، والهوية لايجب أن تحتضنهما دائرة الصراع، بل قدرهما التكامل، فاختلاف الهويات هو أساس العولمة، وبقدر ما تكون هويات الشعوب مدعمة ومرتبطة بمرجعياتها الثقافية، تكون العولمة أكثر خصوبة ونفعا، فالإثراء المشترك من منطلق الخصوصية من شأنه أن يعطي لمفهوم العولمة بعده الإنساني العميق، ولقد راهنت تونس- كنموذج عربي- على قدرات أبنائها وثراء رصيدها لاحتلال موقع فعال في الساحة العالمية ، والانخراط في مسيرة العصر، فبادرت بتدعيم هويتها وتثبيت عناصر انتمائها وإثراء خصوصيتها ، وجعلت من الثقافة الأداة المثلى لتحقيق هذه الغاية وشد الإنسان التونسي إلى مرجعيته الأساسية، وتجسيم تواصله مع فترات النور في تاريخه، بغرض تهيئته سلوكياً ونفسانيا وحضاريا لاقتحام الواقع الجديد بكل ضمانات النجاح.

 

عبدالباقى الهرماسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات