علاجات التنمية

علاجات التنمية

منذ سنوات عديدة يطرح المفكرون العرب مسألة التنمية وكأنها أمر قابل للإنجاز أو التحقيق بعد اتخاذ القرارات المناسبة، وهناك وهم كبير بأن التنمية تقتصر على الإنجاز في الإطار الاقتصادي مثل تحقيق معدلات نمو عالية، أو زيادة أعداد العاملين في مختلف القطاعات، أو زيادة فعالية قطاعات اقتصادية محددة. ولم يفكر هؤلاء التنمويون بالقضايا الأخرى التي تتعلق بالتنمية مثل المواقف المجتمعية والتطور في التقاليد ، أو معدلات النمو السكانية، أو تطور الفكر السياسي وأساليب الحكم .. إلخ ، ونتيجة للقصور في الرؤية بشأن شروط التنمية فإن العديد من المشاريع التي طرحت لدفع عجلة التنمية لم تنجح.

لقد مضى وقت طويل على هذا التفكير التنموي والذي لم يتطرق لمسائل المشاركة السياسية بشكل عقلاني، حيث إن عنصر المشاركة السياسية لم يطرأ على بال واضعي السياسات الاقتصادية، إما خوفا من السلطات السياسية، أو استخفافا بدور المستفيدين من التنمية وعدم الحرص على مشاركتهم في صناعة القرار الاقتصادي، ولذلك فإن العديد من المشاريع تمت صياغتها دون مراعاة لرأي المستفيدين منها، وأنجزت على عجل وبتكاليف مالية عالية، وهكذا فبدلا من أن تصبح تلك المشاريع أداة لتحسين ظروف المجتمع وترفع من كفاءته فقد أضحت عبئا على الخزائن العامة، وربما رفعت، في بعض الأحيان، من معاناة الشعوب.

إن التركيز على الجانب الاقتصادي وعدم التطرق للمسائل الأخرى خلق أوهاماً ماكان يمكن أن تكون نتائجها سوى خيبة الأمل، فلم تمكن الكثير من الدول العربية الوصول إلى الأهداف المنشودة سواء كانت معدلات نمو أو تحسنا في قيمة الناتج المحلي الإجمالي، أو تنويع القاعدة الاقتصادية ، أو تحسنا في أداء القطاعات الاقتصادية المختلفة، ولاشك أن رسم خطط مجردة، دون الاعتناء بالعوامل الاجتماعية والسكانية ومستوى التطور الحضري، لايكفي للوصول إلى مثل تلك الأهداف الطموح. فهل يعقل أن تتحقق نتائج اقتصادية متميزة، إذا كانت الإمكانات البشرية غير مستثمرة استثمارا جيدا حيث يتعطل دور المرأة وتمنع من العمل في مهن ووظائف عديدة؟، وهل يمكن أن تساهم القوى العاملة المتوافرة في تطوير الأداء الاقتصادي من خلال آليات وتقنيات حديثة إذا كان جزء كبير من هذه القوى العاملة معدوم التعليم والتدريب؟ ولا شك أن مسألة التعليم والتدريب المهني من أهم معوقات التنمية في الدول العربية ، حيث ارتكزت أنظمة التعليم على تخريج عناصر تهدف إلى التوظف في مهن إشرافية أو وظائف في مؤسسات القطاع العام ، ولم تتمكن، حتى الآن، العديد من الدول العربية عن تطوير أنظمة وبرامج التعليم لتواكب الاحتياجات الفعلية لسوق العمل ، ولذلك فإن العديد من المهنيين وأصحاب الحرف يتعلمون من خلال الممارسة العملية، والتي قد تكون في أغلب الأحيان دون المستوى التقني المطلوب لبناء اقتصاد يعتمد على المهارات العالية ، وهكذا فإن العنصر البشري المتعلم والمؤهل غير موجود لكي يقوم بأداء الأعمال التي تتطلبها الاحتياجات الناشئة عن التوسع في أعمال مختلف القطاعات الاقتصادية.

إن من الأمور الأساسية في قضية التنمية قدرة المجتمعات على صياغة أهدافها بشكل يتوافق مع قيم العصر، فهل يمكن أن تقوم المجتمعات العربية، في ظل ظروفها الراهنة، على مثل هذه الصياغة لبرامج التنمية؟ لقد مضت سنوات وعقود طويلة من الزمن بعد استقلال العديد من الدول العربية دون أن تتضح ملامح التنمية في أي من هذه البلدان. من الطبيعي أن العديد من الخطط الاقتصادية وأفكار التنمية الاجتماعية قد برزت في أدبيات العديد من الأنظمة الحاكمة ، وكذلك في أطروحات الأحزاب الحاكمة والأحزاب الأخرى خارج الحكم، لكن ما لم يحدث هو أن العديد من تلك الأطروحات الاقتصادية والاجتماعية لم تتم بلورتها من خلال مناقشات وحوارات ديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار جميع التوجهات الفكرية. يضاف إلى ذلك أن أهداف التنمية ووسائل تحقيقها لم تتم مراجعتها على ضوء تجارب عملية للاستفادة من دروس تلك التجارب والتحقق من مدى واقعية الأهداف والخطط التي تحويها.

لقد سعى العديد من الدول العربية منذ بداية عقد الستينيات من هذا القرن إلى تحقيق نظام اقتصادي موجه، أو ما أطلق عليه بعض المفكرين الاقتصاديين الذين التزموا المنهج الاشتراكي في التنمية الاقتصادية، "طريق التطور اللارأسمالي" وقد اعتمد ذلك المنهج على تحميل القطاع العام أعباء التنمية بشكل رئيسي، وأنيط بذلك القطاع ملكية القطاعات الاقتصادية الرئيسية وتوفير الأموال اللازمة للمشاريع الجديدة ومشاريع التجديد والتطوير للأصول القائمة، وقد اتبعت سياسات اقتصادية وسياسية أدت إلى تحجيم دور القطاع الخاص وتهميشه، وفي كثير من الأحيان مصادرة أمواله وأصوله في العديد من القطاعات الاقتصادية ، وقد نتج عن هذا الاختيار السياسي والاقتصادي أن أصبحت هذه البلدان رهينة البيروقراطية الحكومية، وتعزز دور مؤسسات الحكم نتيجة للسطوة الاقتصادية. وأكثر من ذلك أصبح الجهاز الحكومي ومؤسسات القطاع العام هي أوعية التوظيف، وبات هم المواطن بعد تلقي العلم والتدريب البحث عن وظيفة في إحدى تلك المؤسسات.

ولقد نتج عن هذا التطور ، وهو تزايد هيمنة القطاع العام على مختلف الأنشطة الاقتصادية، تكريس ظواهر الاتكالية بين المواطنين وتزايد اعتمادهم على المخصصات المالية التي تحددها الدولة للإنفاق على كل شيء تقريبا ، وأصبح الدعم المالي الحكومي من أهم مصادر الرزق لجميع فئات المجتمع في مختلف الدول العربية. أبعد من ذلك أن تكوين الثروات في الدول العربية أصبح يعتمد على التعامل مع أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولم يعد المجهود والبذل والعطاء من الوسائل التي تساعد أصحابها للوصول إلى مستوى، الثراء، بل إن الفساد والرشوة والانتفاع، في أحسن الأحوال، من أهم وسائل تكوين الثروة، ولقد بات من الأمور الطبيعية أن يستغل كل من يستطيع مواقعه الوظيفية لتحسين أحواله المعيشية وزيادة ثروته، وقد نتج عن ذلك أن أصبح القطاع الخاص، وأفراده المالكون للأموال منذ زمن بعيد، غير أساسي أو مهم في زيادة المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، أو في تطوير المنشآت أو إقامتها في مختلف القطاعات الاقتصادية، ولذلك فإن القطاع الخاص لم يعد يتمتع بالمكانة المناسبة في إطار صناعة القرارات السياسية والاقتصادية .

كيف يمكن تطوير مجتمعات منتجة بعد هذا التراكم في تراث الاتكالية والاعتماد على الحكومة وإمكاناتها المالية؟ ونضيف هنا أن القطاع الحاص أخذ يعتمد على الحكومة وإنفاقها ، وذلك من خلال تقديمه الخدمات أو جلب السلع التي تحتاج إليها المؤسسات الحكومية ، ولم يسع أصحاب هذه المؤسسات الخاصة للتحرر من هيمنة القطاع العام والتوجه إلى خلق أنشطة بعيدة عن النشاط الذي تولد عن الإنفاق العام.

معايير للتنمية

إن التنمية تعني أشياء كثيرة من أهمها تحسين دخل الأفراد والأسر وتمكين هؤلاء من زيادة الاستهلاك ، وتحسين نوعية الحياة، وتطوير بيئة صحية جيدة، وتحسين قدرات البشر للتعامل مع العلم والمعرفة وتقنيات العصر. ولقد تغيرت أمور كثيرة خلال هذا القرن حيث تبدلت العادات والتقاليد والقيم في المجتمعات العصرية في البلدان المتقدمة، وأصبح من الأمور الطييعية أن تصبح الأسرة صغيرة الحجم قليلة الأفراد نتيجة للتحكم في عدد الأبناء. ومن الطبيعي أن يتواكب تحسن الدخل، فى حالة وجود نمو معتدل، مع انخفاض معدل النمو السكاني في البلاد، ولم يعد من الأمور الاقتصادية الإيجابية ارتفاع معدلات الإنجاب وتزايد السكان بشكل سريع، فقد ولى عهد الإقطاع الزراعي الذي كان يستوجب تزايد عدد الأفراد لتحسين الإنتاج وأصبح الاقتصاد الزراعي يعتمد على تقنيات عالية لاتستوجب وجود سوى أفراد معدودين على الأصابع في حقول تبلغ مساحتها آلاف الهكتارات، ومن المؤسف أن الدول العربية لم تستوعب هذه الدروس ومازالت القيم الريفية تهيمن على ذهنيات أرباب الأسر وتفرض عليهم سلوكيات غير عصرية .

ولذلك فإن التنمية العصرية تتطلب نموا سكانيا معتدلا وأسراً محدودة العدد وذات كفاءة عالية نتيجة لتحصيل أفرادها العلمي. وفي إطار التعليم والتحصيل العلمي يمكن أن يزعم المرء بأن أنظمة التعليم في الدول العربية، كما أشرنا آنفا، لاتزال بعيدة عن متطلبات الاقتصاد، وإذا أريد للتعليم أن يصبح مفيدا ونافعا فيجب ألا تكتظ المدارس ومؤسسات التعليم بأعداد كييرة نتيجة للتزايد السكاني السريع، بل إن المطلوب هو أعداد محدودة ومقدور على تدريسها وتأتي من بيئات اجتماعية واعية. ولابد من الإقرار بأن التحصيل العلمي للأبناء أصبح اليوم وأكثر من الأزمان السابقة، يعتمد على توافر عائلات تتكون من آباء متعلمين قادرين على مساعدة أبنائهم في التعليم. إن توافر بيئة اجتماعية متعلمة أصبح من أهم العوامل المساعدة في التنمية، حيث إن ذلك يؤهل أكثر للتحصيل العلمي والتزود بالمعرفة من قبل الطلبة الصغار السن ، وكلما زادت نسبة المتعلمات بين النساء أصبح بمقدور الأمهات من مساعدة أبنائهن على مواجهة التزامات التعليم ، حيث إن الأمهات يبذلن جهودا أكثر من الآباء في مساعدة الأبناء.

بعد ذلك لابد من الإشارة إلى أهمية الحياة السياسية المستقرة والتي تعتمد على الحوار والتفاهم والمناقشة لمختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ولايعقل أن تقر سياسات اقتصادية أو خطط إنمائية دون الرجوع للمستفيدين منها والحوار معهم حولها. ولقد فشلت الكثير من برامج التنمية نتيجة لافتراض النخب الحاكمة بأنهم مؤهلون للتفكير بالنيابة عن الشعوب ولم يبذلوا جهدا لشرح هذه الأهداف وتلقي ملاحظات وأفكار قادة الرأي والمتخصصين ورجال الأعمال والنقابات وبقية منظمات المجتمع المدني. ولقد بينت نتائج التطبيقات العديدة للتجارب التنموية أن الخطط قد تمت على أسس من التطورات النظرية أو نتيجة لرغبات ذاتية للقائفين على السلطة في العديد من الدول النامية، ولم تؤخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحقيقية للبشر ، كما لم تؤخذ بعين الاعتبار الوقائع الديمغرافية والإمكانات البشرية والمالية في الدول التي طبقت فيها تلك التجارب التنموية، ولذلك فإن أي تجربة لا تراعى فيها حقائق الأوضاع الوطنية أو احتياجات سكان البلاد لابد أن يكون مآلها الفشل الذريع.

اهتمامات مستجدة

إن من الأمور المهمة في عملية التنمية في عصرنا هذا هو تطوير أوضاع بيئية سليمة تحمي الإنسان والنبات والحيوان من الأمراض وأضرار الحياة العصرية الناتجة من النفايات والغازات الصناعية والضجيج وغير ذلك من مؤثرات سلبية على البيئة. ويعني الاهتمام بالبيئة تعزيز التوجهات الإيجابية الهادفة لتحسين نوعية الحياة. ولاشك أن وجود بيئة صالحة ساعد على تخفيف التكاليف الاقتصادية المرتبطة بمعالجة الأمراض والأضرار التي قد تلحق بالتربة والنبات والمباني والمياه والتي تنتج عن أوضاع بيئية غير سليمة .

ويتضح مما سبق ذكره أن معايير التنمية أصبحت عديدة وواسعة وتتعلق بالعديد من الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكذثك تتعلق بأوضاع البيئة. ولذلك فإن صياغة برامج التنمية تتطلب وعياً بجميع هذه العناصر وما يرتبط بها. ومن الطبيعي أن الإلمام الدقيق بجميع هذه العناصر قد لايكون متاحا، ولكن الاجتهاد للاقتراب من التفاصيل يوفر الاجتهادات المعقولة والتي قد تقود إلى وضع منهج تنموي قويم.

 

عامر ذياب التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات