نعم.. نكتب ونقرأ التاريخ جديداً دائماً شوقي جلال

حول قضية إعادة كتابة التاريخ

إعادة كتابة التاريخ، والقراءة الجديدة له، شرطان لازمان لأمة عقدت عزمها على النهوض والحركة إلى الأمام، ولا يعزف عنهما - في رأي الكاتب- إلا من آثر الاحتماء بالماضي والارتماء فيه.

" الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ وقراءته على نحو جديد يراها الرافضون مقولة خاطئة وخطرة، وتشكيكا في تاريخ الأمة وتراثها، وإخلالا بمنطق العقل السليم. ثم بعد هذا، وعلى الرغم منه، يسمي الرافضون أنفسهم دعاة صحوة وتجديد.وابتداء نقول إن الدعوة إلى التجديد، أي قراءة جديدة وكتابة جديدة، للتاريخ والتراث ليست إنكار، لفضل أو دور القدماء سلفاً صالحاً أم طالحاً ولا تشكيكاً في إنجازات نحن أول من يفخر بها ونلتمس إضافة المزيد من عندنا وحياة الفكر والواقع ليست أبداً إما مع السلف أو ضده، ليست اتصالا خطياً نمطياً أو قطيعة بائنة، ولكنها جديلة من الفصل والوصل يفرضها منطق مميز لواقع متغير.

التاريخ والنهضة

والاهتمام بمبحث التاريخ تحديداً ليس ترفاً ولا تزيداً بل هو من صميم مسألة النهضة، والخروج من عثرتنا التي طال أمدها، ذلك أن التاريخ ليس الماضي بل المستقبل. وهذه ليست عبارة إنشائية. فإن الإنسان، من حيث هو إنسان، لم يسأل عن ماضيه، بل ولم يدرك أن له ماضياً، إلا من منطلق إدراكه الحركة نحو مستقبل ، حتى حين حاول أن يلتمس شجرة نسبه، الواقعية أو الأسطورية، فإنما فعل ذلك ليكون وعيه زاده نحو هدف يرمي إليه ، وينشد من هذا الوعي بالماضي ما يعزز سعيه. فكأنما الماضي أو التاريخ ليس خزانة معلومات، بل هو وعي موظف لغاية مستقبلية، يتحدد في ضوء هدف حياتي مرسوم، ولهذا تأثر التاريخ، أكثر من غيره من العلوم، على مدى الأحقاب والدهور بالأيديولوجيا المعبرة عن مصالح مجتمعية صيغت في توجهات دينية وسياسية أو غيرهما.

وكلما ضاق هامش الحرية واتسع نطاق السلطة الفردية أو الشمولية أو الاستبدادية ازداد خضوع التاريخ للأيديولوجية، وازداد انحرافه عن الموضوعية ونزع إلى الجمود. وتاريخنا معروف من هذه الزاوية. ثم إن هناك دائما أكثر من تاريخ، تاريخ ظاهر على السطح أو تاريخ رسمي، وتاريخ أو تواريخ باطنية، وجميعها فاعلة ومؤثرة وإن ظل المعروض او المفروض منها هو الرسمى دون سواه.

ولكن قراءة وكتابة التاريخ على نحو جديد ليس مبعثها هنا أيديولوجيا بحتاً لتغير أطر التفكير في قضايا حياتنا ومستقبلنا فقط، بل ثمة أسباب عديدة بعضها يتعلق بتطور علم التاريخ من حيث هو علم وعلاقته بالعلوم الأخرى، وبعضها الآخر وليد نظرة نقدية إلى منهج البحث التاريخى قديما مما أثر على مصداقية المأثور عن السلف من أخبار. وهذا النقد يفرضه تطور الفكر العلمي، ومن ثم فهو ليس وليد تناقض بين مصالح وتوجهات أيديولوجية، بل وليد تناقض بين العلم والأسطورة... أن يكون التاريخ علما أو لا علم. ثم بعد هذا العلاقة بين محتوى الوعي التاريخي والوعي بالتاريخ وبين حركة النهوض المتعثرة.

الرواية والواقع في المنهج التقليدي

المنهج التقليدي فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي، والذي تحدى في عناد محاولات التطوير على أيدي علماء أفذاذ من أمثال ابن خلدون، هو منهج الرواية والإسناد، دون الواقع والتحليل. وهذا هو مناط الأصالة والقصور في آن واحد. تتميز الكتابة التاريخية الإسلامية بضخامة الإنتاج وتنوع المجالات، وبرزت في ساحتها أسماء أعلام أمثال الطبري والمسعودي وابن حيان والسيرافي.

ولكن المؤرخ لا يعنى بالوقائع التاريخية في حد ذاتها، ولكن نقطة انطلاقه الرواية. ومهمة المؤرخ توثيق وتحقيق الرواية [ لا الواقعة ] بنقد الشهود وسلسلة الإسناد. وهو لا يعدو أن يكون مصنفا لشهادات شهود في قضية تعنيه.

ثم هناك بعد ذلك المفهم الثباتي للزمن. فالزمن أو التاريخ ليس عملية أو ضرورة أحداث متعاقبة مترابطة الأسباب والمسببات، بل أسباب الأحداث ووقائع التاريخ ليست كامنة في طبيعتها ولكن تتجاوزها متعالية عليها. ولهذا لا يتضمن مفهوم الزمان وحركة التاريخ أي دافع على التطور أو الحركة المستقبلية، إذ القوة الفاعلة والدافعة للأحداث تأتي من خارج أي مفارقة للحدث والإنسان. فقد أسقط المنهج التقليدي العلاقات السببية الأصيلة في الأحداث والوقائع، مثلما أسقط الفعالية الإنسانية المشروطة بتكوين الإنسان ووعيه وتاريخه وبيئته ومصالحه... إلخ.

ولم يكن غريباً، والحال كذلك، ان تخلط الرواية بين الحدث والمصلحة، وأن تمزج بين الواقع والأسطورة، ويمتد الموروث الأقدم في ثنايا الموروث القديم متصلاً إلى وعينا الحديث. وأضحى حال التاريخ الإسلامي المعتمد على الرواية شأن حال المنطق الأرسطي يعتمد على صدق الشكل دون صدق المضمون. وزخرت كتابات المؤرخين بروايات عششت في أذهان العامة والخاصة مثل قول المقريزي عن ضرب العملة، وهو قول موروث عن روايات: " أول من ضرب الدينار والدرهم آدم عليه السلام وقال لا تصلح المعيشة إلا بهما. رواه الحافظ بن عساكر في تاريخ دمشق ". وقوله في الصفحة نفسها: " أول من ضرب الدنانير والدراهم، وصاغ الحلى من الذهب والفضة، فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفشخد بن سام بن نوح عليه السلام " [ المقريزي- إغاثة الأمة بكشف الغمة- كتاب الهلال ع 472- أبريل 1990، ص 87. وهناك الكثير والكثير الذي يسود آلاف الصفحات والعقول ولم تبرأ منه أقدس المعطيات المروية.

ابن خلدون الغريب بين أهله

والعلامة، أو الفاصلة المضيئة التي ظلت بكل أسف بين قوسين ولم يطرد نموها، يمثلها رائد التاريخ الاجتماعى عبدالرحمن بن خلدون الذي اشترط معرفة العمران او الاجتماع البشري أساساً للنقد التاريخي. وأضفى ابن خلدون على مفهوم الزمان بعداً جديداً عندما درس تاريخ التجمعات البشرية من حيث نشأتها وتطورها واضمحلالها، وتأكيده على الأسباب الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للظواهر التي يدرسها. ولكن من أسف أن ذوى ابن خلدون عندنا، وغاب عن محيط فكرنا، وتلاشت نظرته الناقدة، وتلقفه الغرب إبان نهضته فكان رائداً هناك، وذكرى غائمة هنا. والاعتماد على الرواية دون تحقيقها وتحليلها، وإغفال الماضى، كل ماض، باعتباره جاهلية أو غير جدير بالبحث، وإسقاط كل قوى المعارضة، ورفض مفهوم دينامية التاريخ، كل هذا جعلنا نعيش في إطار فكري سكوني جامد لرواية محققة شكلا دون أي علاقة بالواقع.

ولهذا السبب لم يتطور التاريخ إلى ما يسمى فلسفة التاريخ أو التاريخ العلمي لخلق رؤية شاملة، وآثرنا العيش بغير تاريخ محقق، فضلاً عن أنه مقطع الأوصال، أو بغير تاريخ حقيقي. إذ أين الماضي؟ وما الأمر بالنسبة للحيثيين والكنعانيين والفينيقين والفراعنة وأهل بابل وفارس وغيرهم؟ هل هم خارج التاريخ؟ وكيف ندرسهم ونخلق سلسلة متصلة، ورؤية شاملة دينامية متطورة لمسارنا كحضارات متفاعلة في هذه المنطقة توالت عن بعضها البعض؟ وكيف كانت هذه الحضارات حلقات سابقة لسلسلة تطور حضاري؟ وكيف أفسحت لحضارات كبرى تالية؟.

الواجب يقتضينا أن نتسق مع أنفسنا منطقياً ونوجه لأنفسنا النقد ذاته الذي نوجهه للآخرين، ونقول هنا، في التاريخ الإسلامي، المنطق الأيديولوجي يحكم النهج في تناول التاريخ والظواهر التاريخية، وهنا يسود اعتقاد خاطى بأن الحضارات كيانات منفصلة والزعم بتميز حضارة على سواها فضلاً عن القول بنقاء الجنس.

التاريخ العربي وتاريخ الشعوب العربية لم يبدأ من عدم بل هو امتداد وتجاوز لما قبله من حضارات وثقافات تفاعلت معاً. ونحن بحاجة إلى أن ننتج معرفة علمية واعية عن تاريخنا بتنوعه وتناقضه وامتداده. ولكن النهج السائد يأتي مصداقاً لرأي العلامة المؤرخ الإنجليزي بترفيلد الذي يذهب إلى أن الساميين يرون الحدث التاريخى نقطة فصل لا وصل بين الماضي والمستقبل، يبدأ التاريخ مع الحدث الجديد، وننفي أو نشوه الماضي تعزيزا للجديد، وينتهي الزمان أو يبلغ ذروته بوقوع هذا الحدث أو التحول، تنقطع الصلة بالماضي، وما يتلو ذلك انحدار وتدهور، والصواب أن الحدث نقطة فصل ووصل في امتداد أو متصل كوني.

التاريخ والعلوم الاجتماعية

ولنا أن نسأل هل التاريخ الموروث علم أم نص قدسي؟ إن كانت الثانية فقد صادرنا على كل جهد علمي، وإن كانت الأولى فإنه يخضع لقوانين تطور العلوم ومناهجها ومعنى المعلومة والواقعة والحقيقة العلمية ومظان البحث ودور الأيديولوجيا، وتستلزم كتابة التاريخ مع هذا كله دراية موسوعية بنظريات علوم الإنسان والاجتماع أو القانون والنظريات في السياسة واللغة.

إننا لا نستطيع، باسم الحفاظ على التقليد، أن نغفل أن التاريخ علم من العلوم الاجتماعية، يخضع لما خضعت له هذه العلوم من تطور، وما طرأ على المناهج من تحولات، ويفيد بما قدمته هذه العلوم من نظريات وإنجازات، مثلما تفيد هي منه، ويزيد من حصادها المعرفي. ومن غايات هذه العلوم مجتمعة دراسة سلوك الإنسان الاجتماعي في الماضي وليس مجرد رواية أو إثبات وقائع، وفهم هذا السلوك في إطار مجتمعي، واستنباط القوانين، والوصول إلى الحقائق بفضل مناهج البحث الجامعة أو المتكاملة Inter disciplinary Method ويعتبر تلاقي التاريخ والعلوم الاجتماعية من أكبر الأحداث أهمية في الفكر الإنساني المعاصر.

زودت العلوم الاجتماعية علم التاريخ بأساليب فنية ومقولات فكرية. وحققت هذه الإنجازات تحولاً جذرياً، وفتحاً جليلاً في مجال علم التاريخ من حيث هو رصد لفعاليات الإنسان الاجتماعي في المكان عبر الزمان، وتحليل هذه الفعاليات وتفسيرها. ونحن بعد هذا بحاجة إلى قراءة جديدة وكتابة جديدة لتاريخنا في صورة تاريخ اجتماعي انطلاقاً من هذا المنهج.

الكتابة الجديدة بحث عن الحقيقة

إننا لا نستطيع أن ننظر إلى الحدث التاريخي إلا باعتباره حصاد تفاعل مشروط بين الناس وواقع مجتمعهم وبيئتهم وثقافتهم، وأن هذا التفاعل يجري في إطار اللغة بين بعدي الزمان والمكان، ومن ثم لا يمكن بيان حقيقة الحدث إلا في ضوء هذه الإبعاد مجتمعة ومتشابكة، وإلا أفلت منا الواقع. فليس هناك حدث مطلق، ولا إنسان مطلق او مبرأ من الغرض والمصلحة، ولا عقل مطلق أو شفاف ولا واقع اجتماعي بغير إنسان وثقافة مميزة، ولا مكان بغير زمان.

والتعبير باللغة رواية أو كتابة إنما يكون من خلال الإنسان. فالنص وحده خطوط غفل أو خرساء يستنطقها كل إنسان تأويلاً في سياق من ظروف. والحدث أو النص لا ينفذ أي منهما عبر عقل شفاف حيث لا تحدث انكسارات، بل العقل الذي يشكل وسطاً بين الحدث أو النص، وبين المجتمع والمخاطبين عقل حامل لثقافة وتاريخ ونوايا وتوجهات... إلخ، ومن ثم فإن الرواية موقف وليست عين الحدث. ومن هنا كان التحقق من صدق الواقعة في ضوء الرواية أمراً بالغ التعقيد والتركيب.

إن النص التاريخي ليس هو الواقع، ولكنه رواية إنسان عن الواقع، ورؤية الإنسان إليه وتأويله له. ولكننا اعتدنا الصمت التام في خشوع عند حدود النص. والنص في ميلاده ونشأته منتج ثقافي يخضع لشروط مجتمعية أي له ظروفه الموضوعية التاريخية والنفسية واللغوية..... إلخ ويظهر كإجابة مقنعة ومقنعة، على نحو ما، بالنسبة لصاحب النص وعشيرته في ضوء حاجات وظروف وإمكانات تجمع بينهم. ثم إن النص، على امتداد حياته وتاريخه بعد ميلاده، يتعرض لعوامل كثيرة تحيط ببيئته الاستعمالية فتنتقص منه أو تضيف إليه أو تبتدعه ابتداعاً أو تسقطه كاملاً حسب الحاجة. والرواية التاريخية، والنص بعامة، كلاهما سواء لم يبرأ أيهما من التأويل والتحوير والتحويل في ظل نظم حكم استبدادية محلية أو أجنبية، أو في ظل صراعات وفتن سياسية، خاصة أن شرعية الحكم شرعية دينية تفرض على الحاكم التماس أسانيد تبرر سلطانه. وهاهو الذهبي، كمثال، في كتابه " دول الإسلام " يروي عن الخليفة يزيد بن عبدالملك المتوفى 105 ه فيقول " إن الخليفة جاءه أربعون شيخا شهدوا عنده أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب ".

لهذا فإن الكتابة الجديدة هي فهم علمي لحقيقة تاريخنا في ضوء متطلبات نهضة يقتضيها عصرنا. فهم واقع التاريخ والعوامل الاجتماعية المحركة له بكل ما في هذه الحركة من تناقض، وواقع العوامل المؤثرة سلباً وإيجاباً على هذا التاريخ إلى أن وصل إلينا مادة يغتدي عليها عقل العامة والخاصة، وتحليل هذا الواقع في إطار النظام الثقافي لمجتمع المنشأ. وهنا تتضافر جهود العلوم الاجتماعية المختلفة، بل ومنجزات بعض العلوم الطبيعية، مثل علم الحياة وغيره، لفهم هذا الواقع الذي يقوم على أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وأطراف الحوار بشأن الرواية أو النص ولغتهم وقضاياهم.

علم التاريخ وعلم اللغة

والرواية التاريخية أو النص بعامة لغة. واللغة ظاهرة اجتماعية، تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية الحية، من حيث ظروف النشأة والتطور وتغيرها حسب الوظيفة الاجتماعية، وهي أداة اتصال، والنص من حيث هو لغة هو رسالة بين أطراف تربطهم علاقات ما في وسط اجتماعي له شروطه وظروفه وصراعاته وتوجهاته وتكتلاته، واللغة ليست حقيقة اجتماعية مطلقة أو نهائية، وليست معطى ثابتاً. ولكن اللغة كما يفيد علم السيموطيقا أو الدلالات والإشارات هي نظام للإشارات تعبر عن واقع المجتمع والعالم بإشارات أو علامات رمزية رهن بظروف نشأتها واستعمالها ومن ثم نصنع بها عالما رمزياً أو لغوياً، لا نقول إنه يحكي صورة الواقع ولكن يعبر عن الواقع حسب صياغة تتداخل في صنعها عوامل كثيرة.

وحري بنا أن نذكر أن النص من حيث هو لغة ورسالة فإنه يكون من أجل فعل مع أو ضد، وفي مواجهة مشكلات ما وموقف منها، أي أنه رسالة تعامل مع الواقع على. اتساعه- الواقع الميتافيزيقي والواقع الاجتماعي- بأبنيته المادية والمعنوية الذي ينتمي إليه صاحب الرسالة والمخاطبون على اختلاف مواقعهم. ووجود الرسالة أو النص بهذا المعنى، إنما يفيد وجود رسالة أو رسائل مناقضة ولا يكتمل فهم النص إلا من خلال الكشف عن نقائضه. وحين نتحدث عن الواقع الاجتماعي يجب ألا ننسى أن هناك جانباً مهيمنا له على قدر من السيطرة الاجتماعية معنويا (تيار محدد من التراث الثقافي) ومادياً (السلطة القائمة) وسيطرتها بكل ما تملك من إمكانات العقاب والثواب وما تمثله من مؤسسات راسخة.

الغزالي يعترف

والتاريخ الإسلامي زاخر بالصراعات، مثلما هو زاخر بالتأويلات استجابة لهذه الصراعات والمواقف الأيديولوجية للسلطات الحاكمة وأطراف الصراع. والأيديولوجية ليست بنية فكرية خاملة بل هي بنية في جبلتها موقف وصراع وتحد، ومن منطلق هذا التضاد يتحدد التوجه والسلوك والدور الاجتماعي، وتصطبغ الرؤى التبريرية بما يتفق مع هذا كله. وأي راوية تاريخي إنما يروي أفعال أبناء عشيرته أو مجتمعه أو خصومه من منطلقه الأيديولوجي، ولايسعه التخلي عن التزاماته ومواقفه ومسئولياته ودوافعه، وإلا تجاوز عضويته في العالم الاجتماعي الذي ينتمي إليه.

وغني عن البيان أن الفرق الإسلامية بمتكلميها وفقهائها ومؤرخيها نشأت وتطورت من خلال صراع اجتماعي، ومن ثم تعددت مذاهبها وأيديولوجيتها، وتنوعت طرائق تفكيرها تحت تأثير المصلحة والواقع الاجتماعي وسطوة السلطة. ولعل حجة الإسلام أبا حامد الغزالي خير شاهد على ذلك. فإن الغزالي أدان الفقهاء لتعلقهم بالدنيا واختلاطهم بالحكام والسلاطين. وعانى هو من جراء ذلك في ختام حياته. وعبر عن أزمته في كتابه " المنقذ من الضلال " حين أدرك بعد أن أفنى حياته في خدمة الحكام أن نشاطه الفكري كله من تأليف وتدريس لم يكن يراد به وجه الله والآخرة بقدر ما كان يراد به عرض الدنيا ورضا السلطان، إذ قدس أهل السلطان، وارتضى، بنصر كلامه، آن يكون خادماً فقهياً لهم. ويبين أن أهم كتب الغزالي إنما جاءت استجابة لأوامر سلطانية للتصدي للشيعة وتفنيد آرائهم ومعتقداتهم. ويشير الغزالى إلى ذلك بقوله: " فإني لم أزل مدة بمدينة السلام متشوقا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلاها، ومد على طبقات الخلق ظلالها بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة، وأقيم به رسم الخدمة، وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة، لكني جنحت إلى التواني... حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية ". هذا حديث حجة الإسلام وإمام الأئمة، وكيف وظف علمه لحساب صاحب السلطان، ولا يزال فكره، هو الحاكم لوعي دعاة الإسلام.

وينقلنا هذا إلى دور الأسطورة في التاريخ. والأسطورة غير الخرافة وإنما هي في البدء واقع تاريخي ثم عملت الفانتازيا أو التخييلات الاجتماعية عملها استجابة لمقتضيات اجتماعية متباينة، وأحالتها إلى قوة مجتمعية مؤثرة تسهم بدور فعال في صياغة الرؤية أو الرأي التاريخي ثم صياغة الوعي المجتمعي. وليس أدل على ذلك من تلك الروايات التاريخية الأسطورية عن شخصيات تاريخية تبدو وكأنها السوبرمان أو الرجل الكامل الفذ المتعالي دون نقائص حتى ليشعر الإنسان العادي إزاءه بالدونية.

التاريخ وأزمة الهوية

وإذا كان الاهتمام بالمستقبل هو الحافز للنظر إلى الماضي، ومن منطلق الاهتمام بالمستقبل بدأ التأريخ، فإن الأيديولوجيا لها دورها في صياغة التاريخ. وأحد أركان الأيديولوجيا صورة الذات عن نفسها أو الهوية في حركتها إلى المستقبل. وكم من حروب خاضتها أمم وشعوب انطلاقاً من صورتها لذاتها والتي جسدتها فيما يسمى الرسالة التاريخية. وحرصت كل أمة من هذه الأمم أن تسجل تاريخها على النحو الذي يتلائم مع الرسالة: ويدعم وحدتها وفاء لهذا الهدف التاريخي، ويغتذي الأطفال على هذه الصورة كما سجلها التاريخ المروي أو المكتوب، ليروا ذاتهم والعالم من حولهم على النحو الذي يدعم الانتماء، ويوجه الجهد والطاقة باسم المجموع إلى طرف خصم داخلي أو عدو خارجي. ومن هنا كان للتاريخ دائما وأبداً دوره فيما يمكن أن نسميه التربية السياسية وفي تحديد توجه أبناء الأمة في نظرتهم إلى ماضيهم على نحو يدعم حركتهم إلى المستقبل.

وإن رواية التاريخ رواية فاعلة وليست صامتة، إنها تروى شفاهة أو كتابة لتؤتي فعلها في صناعة وعي ما. وهنا تتكشف محددات كثيرة ظاهرة وخافية للوعي المنشود، وهنا أيضاً انتقائية صريحة أو مستترة.

ولكن هذه الصورة لا تأتي اعتسافا، ولا يفرضها طرف على أطراف أخرى كرها وقسراً. إذ إن حياة صورة الذات رهن ببعدي الزمان والمكان، إنها ليست مطلقة ولا متجاوزة لواقع المحيط الاجتماعي والعالمي. وهي رهن بما لدى الذات من إمكانات مادية ومعرفية تيسر لها تحقيق ذاتها. ومن بين هذه المعارف، المعارف التاريخية الصحيحة والملائمة للعصر.

لقد سجل العبرانيون- على سبيل المثال- تاريخهم ووحدوه بعد أن كان أشتاتاً ليليق، حسب نظرتهم، بتاريخ شعب مختار صاحب رسالة. وتحولت الرؤية إلى أسطورة مع التاريخ، وأضحت للأسطورة الهيمنة. ولكن هل يمكن لهؤلاء باسم هذه الأسطورة أن يحققوا ذاتهم وفقاً للصورة القديمة عن الذات في عصر آخر ومغاير تماماً؟.

وإن السبيل لإنقاذ ذاتيتنا القومية هي الرؤية التاريخية المعاصرة عن الماضي، ذلك أن التاريخ أو الرؤية التاريخية النقدية المعاصرة تساعد على تدعيم الوحدة القومية التي هي ضمان فاعلية المجتمع، وشرط العمل السياسي، وركيزة التصدي للهجمات الثقافية المعادية من الخارج، وأداة للتنمية الاقتصادية الاجتماعية.

ونحن في مواجهة تحدياتنا أجوج ما نكون للإجابة عن السؤال التالي : ما هي قيمة معارفنا التاريخية؟ وإلى أي حد تسهم في دفع حركتنا نحو النهضة؟ وإلى أي حد أسهم التاريخ الموروث في تنميط عقولنا على نحو يعوق الإبداع واللاعقلانية؟ ثم لنسأل ما الذي أهمله التاريخ ومن الذين أهملهم التاريخ؟ ما هي حقيقة المفارقة المأساوية بين صورة الذات كما حددتها معطيات التاريخ التقليدية وبين معطيات المحيط المحلي والعالمي، ورؤية المستقبل الذي لا تكاد نمسك به وتقصر دونه " همتنا " التي صاغها التاريخ؟.

في إطار البحث عن الهوية بحثا موضوعياً يتحدد المعنى تاريخياً في ضوء فهم علمي للتاريخ. لتحليل الواقع الاجتماعي، ولتحديد التغيرات الرئيسية وفهم جذورها، وللتعرف على الاتجاه العام للتحورات الواسعة، ولفهم الفورات الضخمة التي تهز مجتمعاتنا، ولتحديد من نحن، وكيف نرتبط بنسيجنا، ومعرفة ماهية هذا النسيج، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكيف نغيرها، كل هذا يتأتى بفضل رؤية تاريخية جديدة تعنى بمعايير العلم، وتكشف التاريخ الخفي والمستور، وتبرز الحقائق دون الأسطورة.

البحث عن الذات أو البحث عن الحقيقة

التاريخ الإسلامي من حيث المنهج لا يزال تاريخ رواية وإسناد، وهو من حيث الواقعة، تاريخ سلطات وفرق أو من واتاهم حظ التسلط دون بقية أطراف الصراع. وإن كان في جميع الأحوال بحاجة إلى تحقيق وكشف التعارضات. ونحن لم نخرج بعد من تحت عباءة التقليد أو الاستشراق، فمنهج الاثنين واحد، دون فهم لمعنى ومقتضيات المعاصرة. بل لا نزال فرقاً متناحرة بفعل سطوة تاريخ السلف. فكتابات أهل السنة تصادر على كتابات الشيعة، وكلاهما يكفر كتابات الخوارج. وكل فريق له رواياته التي تنصب على أقدس النصوص. وليس أدل على فعالية هذا التاريخ المكتوم مما شهدناه أخيراً، حين تفجرت فجأة عبارات العرب والفرس. لذا بات مشروعاً السؤال: ما هي حقيقة التاريخ العربي وسط هذا الركام المتناحر من التناقضات؟ ما هي حقيقة وقائع التاريخ التي نبني في إطارها صورة صحيحة للذات؟.

وحقيقة التاريخ، وحقيقة الذات، وتغيير ما بالنفس لا يتأتي اذا قنعنا بما رواه السلف، وتقاعسنا عن تطوير مناهج البحث، ولا يتأتى إذا صادرنا مسبقاً على كل ما قد تأتي به الاكتشافات الأثرية وما تلقيه من أضواء جديدة على معارفنا الموروثة. إذ في ضوء الاكتشافات الأثرية الجديدة، والمحظورة في بعض البلدان، وعلى هدي الدراسات المقارنة سنقرأ تاريخنا على نحو جديد بحيث نقف على أرض أكثر صلابة وتلاؤما مع العصر.