رجل الفكر..هل يحتكر تمثيل العقل؟

رجل الفكر..هل يحتكر تمثيل العقل؟

هل المفكر هو أكثر عقلانية من بقية الناس؟ ثمة اعتقاد راسخ مفادة أن الفلاسفة والمفكرين، لكونهم يهتمون بحياة العقل وإنتاج الأفكار، إنما يمثلون عقول الأمم ويعكسون فكرها، كمن يعتقد مثلا بأن ديكارت هو مرآة للفكر الفرنسي، أو أن جون ديوي يمثل العقل الأمريكي، أو أن كونفوشيوس هو ممثل للعقلية الصينية، وهذا شأن من يبحث عن العقل العربي من خلال أعمال المفكرين العرب ومؤلفاتهم.

أو بسؤال آخر: هل رحلة العقل ومغامراته تتجلى فقط في أعمال الفلاسفة ونتاجات العلماء من دون سواهم؟ وأين يقع من العقل بقية الناس والفاعلين الاجتماعيين في قطاعاتهم المختلفة ؟

في الجواب على ذلك أعود إلى ديكارت رأس الفلاسفة المحدثين، إذ نجد عنده رأيا في هذا الصدد قد يكون مفاجئا بقدر ما هو مخالف للآراء الشائعة، فهو يعتبر أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بمعنى أنه لا فرق بين إنسان وآخر، من حيث الطاقة العقلية، وإنما الفرق هو في طريقة استخدام العقل، بل إن الفيلسوف الفرنسي يتمنى لو كان له ما لبعض عامة الناس من سرعة البديهة وقوة المخيلة أو سعة الذاكرة، وفي المأثور الإسلامي آراء مشابهة كما في القول الآتي:

ما قسّم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، من هنا التمييز الذي أقامه القدامى بين العلم والعقل، بقولهم عند تقييم الأشخاص: فلان عقله أكبر من علمه، بمعنى أن ذكاءه أقوى من ثقافته، أو بقولهم العكس: فلان علمه أكبر من عقله، بمعنى أن ثقافته ومعلوماته أوسع من فكره وفهمه.

مثل هذه الشواهد تجعل المرء يعود عن الرأي القائل بأن عقل أمة أو مجتمع يمكن أن يعكسه فرد من الناس أو أن تحتكره فئة من الفئات، فالعقل هو حيلة الإنسان في التعلم والتمرس، في الفهم والرؤية، في الحساب والتقدير، باختصار في التدبير لكل ما يتعلق بالوجود والحياة والمصير، وكل واحد إنما يستخدم عقله في حياته الشخصية وواقعه اليومي، في مجال عمله وقطاعه الإنتاجي، ولا يستأثر قطاع باحتكار النشاط الفكري أو باستعمال العقل من دون سواه، بهذا المعنى بوسعنا القول إن العقل يتجلى، سواء في المنتوجات الزمزية أو في المنتوجات المادية، بمعنى أنه يفعل ويثمر في إبداع النظريات كما في ابتكار التقنيات، في نظم القصائد وتشكيل اللوحات كما في وضع القوانين وسن التشريعات، في تأليف الأنساق المعرفية والأعمال الفلسفية كما في إدارة الأعمال وصناعة السيارات.

استعمالات العقل

بم يفترق، إذن، العاملون في ميادين الفكر وفروع المعرفة، عن بقية القطاعات الاجتماعية من حيث العلاقة بالعقل ؟ إنه ميدان الاختصاص ومجال الاستخدام، فالناس على وجه العموم إنما يستخدمون عقولهم، في أداء وظائفهم وفي دوائر اختصاصهم أو في تسيير حياتهم اليومية، كما هو شأن التاجر والصانع أو رجل الأعمال ومدير الشركة أو ربة البيت، في حين أن العلماء والمفكرين يستخدمون عقولهم للبحث في المنتجات الفكرية والعقلية أو للنظر في شئون العقل نفسه ، كما يفعل رجال الأناسة الذين يهتمون بدراسة العقليات، أو كما يفعل الفلاسفة الذين يشتغلون على عالم الأفكار ويهتمون بتعريف العقل وتحليل ملكاته أو درس إمكاناته.

وتلك هي المفارقة: فالعموم من الناس يستخدمون عقولهم المشتركة بصورة خاصة تعني الواحد فقط في قطاعه ومجال عمله، كما هو شأن الصناعي في معمله أو المهندس مع مشروعه أو الموظف في إدارته، ولكن هناك فئة خاصة تستخدم عقولها بصورة عامة، كما هو شأن الكاتب الذي بالقضايا العامة التي تعني كل مواطن، أو كما هو شأن الفيلسوف الذي يتخذ من التفكير مهنة له، فيثير أسئلة تهم كل إنسان حول الفكر والحقيقة والوجود والحياة والمصير.

انطلاقا من هذا التمييز الذي أقامه كانط بين الاستعمالين الخاص والعام للعقل، نجد أنفسنا أمام نوعين من العقول، لكل نوع مجاله وفاعليته: عقل عام هو "عقل يومي" يستخدمه كل واحد في مزاولته لمهنته أو في تدبيره لشئونه الخاصة، وعقل اختصاصي، هو الذي يستخدمه المثقفون في صوغ أطروحاتهم الأيديولوجية ومشاريعهم النضالية، أو هو الذي يشتغل به وعليه أو من أجله الفلاسفة في تأملاتهم، والباحثون في جامعاتهم ومراكزهم، هذا العقل الأخير يمكن تسميته "العقل المهني" ما دام أصحابه يمتهنون العمل بالفكر ويشتغلون بالإنتاج الفعلي والسلع الرمزية من العقائد والمذاهب أو من النظريات والمناهج أو من المعايير والنماذج.

ولكن، ليس من الضروري أن يكون صاحب العقل المهني والاختصاصي أكثر عقلانية من صاحب العقل اليومي وسواه من الذين ليس العقل من اختصاصهم، هل يمكن لنا مثلا أن نقول إن الباحث الأكاديمي في العالم العربي يستخدم عقله بصورة حية وفعالة أكثر مما يفعل رجل السياسة. أو رجل الأعمال أو لاعب الكرة أو مهندس العمارة؟ لا أعتقد ذلك ما دمنا لا نجد جامعة عربية استطاعت فتح فرع من فروع المعرفة، من جهة أخرى: هل المثقفون والعاملون في ميادين الفكر يديرون علاقاتهم وصراعاتهم فيما بينهم بصورة أكثر عقلانية أو ديموقراطية مما يجري في القطاعات الأخرى؟. التجارب والممارسات في هذا الخصوص لا تشهد لأهل الحقل الثقافي أكثر مما تشهد لغيرهم.

مجمل القول في هذه المقارنة أن المختصين بالفكر والعلم أو الذين يمارسون وصايتهم على العقل والثقافة والحقيقة، ليسوا أكثر نجاحاً من غيرهم في مهامهم المعرفية أو في مهامهم النضالية والتغييرية.

لا جدال في أن هناك فارقا لا يستهان به بين رجل العلم أو الفكر وبين بقية الفاعلين الاجتماعيين من حيث الصلة بالعقل، وهو أن الأول إنما يهتم بدرس المجتمع وتحليل الواقع، بصورة تؤدي إلى إنتاج الأفكار والمفاهيم التي يتعرف من خلالها المجتمع على نفسه، أو يعقل واقعه ويتدبر مشكلاته أو يحل أزماته.

ولكن ذلك لا يعني أن رجل الفكر أو العلم هو أعقل من سواه، فلكل شيء وجهه الآخر، بمعنى أن الاشتغال بالفكر، أو امتهان العقل، هو عمل قد ينقلب إلى نقيضه، كما يشهد الفلاسفة على أنفسهم، ولعل هذه من فضائلهم: فقد اعترف جان بول سارتر بأن كبار الفلاسفة يرتكبون أكبر الأخطاء، وكان نيتشه قد كشف نقده الأصولي التفكيكي، ما تنطوي عليه الصروح العقلية، التي بناها الفلاسفة من الأوهام والأضاليل، كذلك فعل هيدغر، إذ بين كيف أن الفكر الماورائي قد انبنى على نسيان الوجود في مورد العلم به.

ولا عجب في ذلك: فإذا كان الفلاسفة هم أصحاب العقل، فإن علاقتهم به هي علاقة هوى وعشق، بهذا المعنى فهم يؤلهون العقل، بقدر ما تستبد بهم مقولاتهم.

ومآل ذلك التعامل مع العقل بصورة غير معقولة تقوم على استبعاد عالم الحياة والوجود المعيش، لمصلحة الفكرة المطلقة والمقولة المجردة أو لمصلحة منهج الدرس وفرضية البحث.

هذا هو مأزق العقل الفلسفي بشكل خاص: "وضع العالم بين قوسين" من أجل معرفته، على ما نجد لدى هوسرل في بحثه عن معنى التجربة المعيشة لأفعال الذات القاصدة.

لقد أفضى به البحث إلى القول بوجود شيء ما هو عبارة عن "شيء فارغ" أو "شكل مجرد" أو "موضوع محض" مجرد من محمولاته وتجلياته العينية، بذلك يقوّض هوسرل بنفسه مشروعه الرامي إلى إقامة فلسفة تكون بمنزلة علم محكم بظاهرات الوجود أو بأفعال القصد، ذلك أن ما هو محض خالص من كل شوب، لا وجود له في عالم التجربة والمعايشة، حيث الظاهرة هي بالذات كثافتها وإمكاناتها على التغيير والتحول وبالإجمال: هذا هو المآل عندما يستخدم العقل كغاية في ذاته، أو عندما تتحول الأفكار والمقولات إلى أوثان تعبدأو إلى أقاليم تقدس: سجن الفكر في قوقعة الأنا بحثا عن جواهر صافية ومفاهيم محضة أو عن مثل خاوية، وماهيات متعالية.

هذا أيضا شأن العقل الأكاديمي في مأزقه: "الانسحاب من العالم" من أجل التفكير فيه أو الفعل فيه، بحسب صياغة بيار بورديو لهذا المأزق، بمعنى نسيان الباحث لمسبقات تفكيره، أو جهله بالشروط الاجتماعية التي تسهم في تكوين نظرته العلمية أو التي يعمل بموجبها عقله، الأكاديمي أو المدرسي، الأمر الذي يحمله على أن يرى العالم من خلال صورته كباحث، أو أن يتعامل مع النماذج النظرية التي يستخدمها لفهم الواقع، كما لو أنها أصل الواقع أو مبدأه السابق عليه.

وهذا مطب وقع فيه بورديو نفسه، كما يشهد على ذلك موقفه السلبي الإقصائي من المجال التلفزيوني، إذ غلب نظرته الأكاديمية المسبقة في فهمه لهذا وفي تعامله معه، من هنا الحاجة إلى النقد المتبادل بين مختلف القطاعات والمجالات الفاعلة في المجتمع، حتى لا تمسي تجربة خاصة أو وجهة نظر قطاعية معيارا صارما ووحيداً لكل التجارب والقطاعات، بهذا المعنى، فالتجرد عن كل غاية من أجل البحث الموضوعي، وقد يكون سبيلاً إلى التحكم المدرسي أو إلى التسلط الأكاديمي.

وهكذا فالتعلق بالعقل والاختصاص بالفكر والتفرع للبحث، هي أمور لها ثمنها، أي تتم على حساب المعرفة، بقدر ما تؤدي، برجل الفكر أو العلم إلى الانسلاخ عن التجارب والمعايشات، كما هو شأن أصحاب الأيديولوجيات الذين يحاولون تغيير العالم بعقلية الكتاب والمدرسة، فتكون النتيجة أن العالم يتغير بعكس ما يفكرون فيه أو يريدون له، أو كما نجد لدى أ صحاب العقل الأكاديمي، حيث تفضي قوقعة المنظر أو عزلة الباحث إلى طرح أفكار لا صلة له بالمشكلات الوجودية المعيشة، أي إلى استبعاد المشكلات الفعلية التي ينبغي التفكير فيها ومعالجتها، على ما هي أزمة الجامعات في العالم العربي بنوع خاص، أو على ما هي أزمة الجامعة الوطنية في لبنان، إذ هي تكاد تصبح المشكلة والأزمة بدلا من أن تسهم في درس المشكلات وفهم الأزمات.

أنصبة العقل

بالطبع لا يعني هذا النقد الاستغناء عن العقل المهني، بقدر ما يعني فتح هذا العقل على ما يحدث ويمارس في الفضاء الاجتماعي بمختلف قطاعاته وحقوله، كما لا يعني أن كل نشاط فكري، ينبغي أن يسخر لمنافع مباشرة أو أن يكون رهنا لوضعية خاصة لأفكار له منها، فالتفكير، هو بمعنى من معانيه عودة المفكر على نفسه للسؤال عن مهمته أو لفحص أدواته التي هي أفكاره، بهذا المعنى يمكن القول بأن التفكير في الواقع الفعلي لا ينفك عن التفكير في واقع الفكر نفسه أي عن ممارسة الفكر بما هو علاقة نقدية مع الأفكار، وتلك هي المفارقة أو اللعبة: فنحن ننشغل بالفكر وأسئلته ومشكلاته حتي لا تصبح مهمة المفكر حراسة أفكاره، أو حتى لا تصبح مهمة الباحث فرض ما هو جاهز من المبادىء والقوالب أو المعايير على التجارب والمعايشات، أو على الأحداث و الأشياء، فالمفاهيم، لا تشكل بمعزل عن تشكل الظاهرات أو المجالات المراد فهمها أو تعقلها، بمعنى أن الواقع يتغير بعد فهمه ومعرفته، أو أن ما نصير إليه يتغير بقدر ما نتغير نحن بالذات، وهذا ما يغير علاقة الأكاديمي بمهمته، بمعنى أن المهمة هي أن يتحول العقل الأكاديمي عن نفسه، لكي يحول علاقته بالواقع، عبر إعادة تشكيله لأطره المفهومية وأدواته المنهجية.

في ضوء ذلك لا يعود رجل العلم أو الفكر هو الذي ينعزل أو يرتقي بفكره، عن صاحب العقل اليومي أو العمومي بل الأحرى القول إن العقل الاختصاصي يتغذى ويتجدد من العقل اليومي بالذات، لقد دفع العقل الاختصاصي، الفلسفي والعلمي، ثم ادعاءاته احتكار الحقيقة وتمثيل العقل الكوني أو الأمر الكلي عزلة وهامشية، وذلك بقدر ما حلت البنى الكلية والقواعد النظرية والحسابات المجردة، محل الأشياء الحادثة والأفعال المحُايثَة والممارسات الحية. مثل هذا النقد للعقل المهني، يحمل علَى إعادة رسم خارطة الأنصبة المتعلقة بالعقل، بحيث يتحرر من أوهامهم العقلية، أو يراجع حساباتهم العقلانية، أولئك الذين يتحملون مسئولية العقل، أو الذين يعتبرون أنفسهم الأكثر عقلانية من سواهم، على ما يعتقد أو يزعم الرجل والحاكم والفيلسوف والفاعل الأكاديمي والإنسان الغربي، هذا إذا أردنا أن نفهم ما تشهده البشرية أو ما تعاني منه من العسف والعنف أو من الفوضى والحمق والجنون، غاية القول، وبالعودة إلى الكلام على رحلة العقل العربي، فإن هذا العقل يتجلى في المنتجات الرمزية كما في السلع المادية، في إدارة الشئون المقدسة، كما في إدارة الأعمال والمعلومات.

باختصار إنه يتجلى في صناعة الحياة في مختلف أنشطتها ومجالاتها، وإذا كان العقل يتجلى بصورة خاصة في نتاجات أهل العلم والفكر، فإنه يتجلى على نحو أخص في تحرر المثقفين والمفكرين من أوهامهم ومزاعمهم حول العقل والثقافة، أو حول المجتمع العربي.

 

علي حرب