والإصلاح من أين يبدأ?

والإصلاح من أين يبدأ?

في العدد (560) يوليو 2005 من مجلة (العربي) الغراء, أطلق رئيس التحرير الدكتور سليمان العسكري سؤالاً مهمًا: الإصلاح.. من أين نبدأ ?! وفي توقيت أضحى فيه (الإصلاح) حديث الشارع العربي:

إذ يرى الناشطون سياسياً أنه لا يمكن أن تتحقق النهضة المنشودة لأية أمة دون المرور من بوابة الإصلاح السياسي, وهم محقون في ذلك, فتاريخنا العربي ـ الإسلامي شاهد على الاستبداد الذي عاشته أمتنا, ولا تزال. والتركيز على الإصلاح السياسي ليس له أن ينفي أهمية الإصلاحات الأخرى التي وفِّق الدكتورالعسكري عند تسليطه الضوء عليها, ومن ضمنها إصلاح النظام التعليمي خصوصاً والأرقام تؤكد أن 70 مليوناً من المواطنين العرب أميون. ولذا فإن الديمقراطية المنشودة لا يمكن أن ينهض بها مجتمع أغلبه من الأميين أو المتعلمين بأساليب التلقين والامتثال.

الدكتور العسكري وهو يتناول الإصلاح التعليمي, إنما يهدف من ذلك إلى إعادة ترتيب أولويات الإصلاح, ومن أجل توضيح فكرته, استعرض في عدد سابق تجارب دول شرقية وغربية حققت نجاحات وإصلاحات لافتة, فالهند مثلاً بدأت طريق الإصلاح بالمساواة في المواطنة, والتحاور السلمي, والاعتماد على الذات, وكانت الديمقراطية, والإصلاح التعليمي جناحي التجربة الهندية.

اليابان من جهتها انطلقت من شعار يقول : (ينبغي أن نقلد الغرب حتى نصبح مثله أو أنداداً له) وهذا ما تحقق بالفعل, ولكن بالاعتماد على الديمقراطية والتفوق العلمي.

في الغرب قامت النهضة على إعمال العقلانية في تسيير شئون البشر, وقبل أن تنفجر (الثورة الصناعية) كانت حركة الإصلاح الديني قد عمت أصقاع أوربا, وأضحت تعاليم (مارتن لوثر) أساساً لنهوض الغرب. ونستطيع في عالمنا العربي أن نحاكي تجارب الغرب والشرق معاً سواءً بدأنا بالإصلاح السياسي, أو بالإصلاح التعليمي, أو الاقتصادي, غير أننا لانزال نتهيب الحديث ـ مجرد الحديث ـ عن الإصلاح الديني, خصوصاً عندما يتشعب هذا الحديث ويتطرق إلى مصطلحات مثل العلمانية, الليبرالية, الحداثة,.....الخ.

ويبدو أن مجلة (العربي) تحلق بعيداً, وتغرد خارج السرب, وهي تفتح صفحاتها لأطروحات الإصلاح الديني في شجاعة نأمل أن تستمر, ذلك أن الإصلاح الديني ـ من وجهة نظري ـ هو الوجه الآخر للإصلاح السياسي, وقد تخلفنا كثيراً عن مهمة التجديد والإصلاح الديني, حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتضعنا أمام مسئولياتنا وجهاً لوجه, الدكتور الحبيب الجنحاني تناول إشكالية الإصلاح الديني في العدد ذاته الذي كتب فيه الدكتور العسكري عن أولويات الإصلاح, وخلص الجنحاني إلى أن المجتمع العربي ـ الإسلامي لم يعرف إصلاحاً دينياً جذرياً, وباستثناء محاولات الشيخ محمد عبده فإننا لا نعثر على بروز تيار تعمق أصحابه في قضايا الاجتهاد والإصلاح الديني.

والسبب في ـ نظره ـ يتمثل في التركيز على الإصلاح السياسي والتصدي للحكم المطلق, باعتبار أن الإصلاح السياسي هو البوابة الرئيسة للإصلاح الديني في شتى المجالات. ولا ينسى الدكتور الجنحاني أن يؤكد بأن الإصلاح الديني في الغرب هو الذي مهد (للحداثة) !!, وهو مصطلح تتقبله النخب المثقفة, وتمقته الجماهير العريضة, ومثله العلمانية, والليبرالية, وإلى حد ما الديمقراطية, وحقوق الإنسان.

ويفرض السؤال نفسه : ما حقيقة العلمانية ? وهل يمكن أن تمثل حجر أساس للإصلاح الديني المنشود ?!

العلمانية كما يذهب زيد الوزير, حركة تصحيح ديني كان الهدف منها محاربة الكهنوت الكنسي الدخيل على المسيحية نفسها, ويخلص سمير أمين إلى أن العلمانية ليست معاداة الدين, بل من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له, ويرى حسن حنفي أن الإسلام دين علماني في جوهره, خالٍ من أية سلطة دينية, والإمامة عقد, وبيعة, واختيار, والإمام ممثل للأمة وليس ممثلاً لله.

ولا يمانع جمال البنا أن تكون العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة, ذلك أن الإسلام ـ في نظره ـ يدعو إلى عدم تدخل الحكومة في شئون الدين, لأن السلطة فاسدة في ذاتها, مفسدة لغيرها, وأن الدولة لا يمكن أن تقدم مساهمة في مجال الدين, فهي لا تستطيع أن تدعم الإيمان أو تؤصل العقيدة.

وعليه يمكن القول إن العلمانية موجهة في الأساس ضد الكهنوت الديني, وضد توظيف السلطة الحاكمة للدين, وهذا لا يعني بالضرورة معاداة الدين, أو المتدينين وبحسب الباحث إدريس هاني, فإن أغلب الذين يتهمون العلمانية بالإلحاد والكفر يجدون في أوربا والغرب ملاذاً لهجراتهم الإنسانية, وفراراً بدينهم, كما لو كانت هذه الأخيرة هي الحبشة أو المدينة قديماً.. هذه العلمانية هي التي جعلت الإسلام ودعوته أمراً ممكناً, لا بل حقا ً من حقوق الإنسان في أوربا.

يحسب للعلمانية ـ وهي ركيزة عملية الإصلاح الديني في أوربا ـ أنها فتحت الآفاق أمام الحرية, والمواطنة المتساوية, وحقوق الإنسان, وكانت ـ باعتمادها على العقلانية ـ سبباً مباشراً في النهضة العلمية التي يشهدها الغرب. والعلمانية ـ مع أنها ليست وصفة جاهزة ـ قادرة على تعزيز الإصلاح الديني والسياسي في الوطن العربي, إذ بواسطتها يمكن الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية, بحيث لا يكون للحكومات أي تدخل في شئون الدين, وبحيث ينزع اختصاص العلماء, والفقهاء (رجال الدين) ليصبح الاجتهاد الديني حقاً لكل باحث, بعيداً عن التمسك بقدسية الخطاب المنسوب إلى الدين ـ والعلمانية ـ باعتبارها التفكير الحر ـ هي الأقدر على بعث الاجتهاد من جديد دون التقيد بطرق ومناهج الأسلاف, وإنما بأساليب ومناهج العصر.

الدعوة إلى رفع الوصاية عن الدين من قبل المؤسسات الدينية, ورجال الدين الذين يدورون في فلكها قد تجد استغراباً وعنتاً شديدين من العامة, لكننا لو دققنا في الأمر كثيراً, لوجدنا أن ارتباط العلماء اليوم بالعامة أضحى متدنياً, ومحدوداً, خصوصاً وأن فتاوى كثير منهم محملة بأثقال الماضي, وغير مواكبة للمستجدات, ولولا الوظيفة السياسية التي يلتزمون تأديتها خدمة لـ (ولي الأمر) لجاز لنا القول إن العلماء باتوا خارج نطاق التأثير في الحياة اليومية للمسلم المعاصر.

(وإذا كانت العلمانية في أوربا طالبت بالفصل بين الدين كحق للإنسان الحر, وبين الدولة كمؤسسة لإدارة الخدمات وسياسة الشئون المدنية, فإن الغاية من ذلك ـ والكلام لإدريس هاني ـ أن يكون الدين خالصاً لله, لا مجالاَ للاستغلال والاستثمار. ولعل تلك هي غاية الإسلام التي شرع من أجلها الجهاد : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) ومع الأسف الذين فهموا الآية على أساس أنها جهاد مفتوح لفرض العقيدة بالعنف, يصطدمون بالآية القائلة :(لا إكراه في الدين). ومن جهة أخرى تؤكد الوقائع والدراسات على التلازم بين الديمقراطية والعلمانية, وما دامت الديمقراطية محور الإصلاح السياسي المطروح في المنطقة, فإن العلمانية لا بد أن تكون محوراً للإصلاح الديني, فلا ديمقراطية صحيحة دون نظام علماني, والذين يستدلون بالتجربة الإيرانية في إمكانية المزج بين الديمقراطية والنظام الديني يتناسون أنه بسبب التمسك بـ (دينية الحكم) فشلت الإصلاحات الديمقراطية التي حاول خاتمي تمريرها في إيران, وبسبب فشل هذه الإصلاحات تعيش الديمقراطية الإيرانية مأزقاً خطراً, عكس التجربة التركية التي تجاوزت كثيرا من الإخفاقات نتيجة تمسكها بالعلمانية ولا يمكن لإصلاح من هذا النوع أن يجد طريقه للتحقق في ظل سيطرة (الماضوية) المحشوة بخرافات أسبغت عليها القداسة منذ مئات السنين. ولا شك أن تفكيك المنظومة الماضوية يأتي في مقدمة خطوات الإصلاح الديني ـ السياسي.

ولا شك أن عملية التفكيك هذه بحاجة أولاً إلى إعادة الاعتبار للعقل, هذه الماكينة التي كرمها القرآن الكريم, وعطلتها الأمة ألف عام أو أكثر, وبإطلاق التفكير العقلاني تلتقي العلمانية مع مقاصد الإسلام نفسه, دونما افتئات على النص الديني, وإذا كنا نتفق أن السيادة هي (للنص القرآني) فيجب ألا نختلف على أن سلطة الفهم والتطبيق والممارسة هي للإنسان المستخلف في الأرض, والذي كرمه الخالق عز وجل بالعقل, والحرية, دون سائر المخلوقات.

عبد الله علي صبري
اليمن