مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

عن الوطن والحضارة والعلم

ثمة رجال كبار من جيل رائد أسهموا بالكثير في خدمة النهوض العربي وهاهي إطلاله على ذاكرة واحد منهم.

تفتحت عيناي عند مولدي في سنة 1920 على النهضة الكبرى التي أحدثتها ثورة 1919 القومية التي قادها سعد زغلول ذلك الزعيم الفذ الذي استطاع أن يأسر قلوب الأمة التي وكلته بالنيابة عن جميع أبنائها وبناتها للمطالبة بالاستقلال من الاحتلال البريطاني الذي كان يجثم عليها ولتحريرها من استبداد الحكم الذي كانوا يجدون من الاحتلال سندا. ومازلت أذكر حتى اليوم الحزن الكبير الذي خيم على عائلتي عندما جاءها نبأ وفاة هذا الزعيم في أغسطس سنة 1927 ونح في المصيف برمل الإسكندرية مما دفع أبي وهو يجهش بالبكاء للعودة إلى القاهرة للمشاركة في العزاء فيه.

كان عقد العشرينيات من القرن العشرين الذي نشأت فيه عقد نهضة شاملة في مصر لعله كان أفضل عقود هذا القرن ففيه تأصل الفكر السياسي الليبرالي الذي عبرت عنه النخبة المصرية في دستور سنة 1923، بل وفي محاضر جلسات اللجنة التي تشكلت لوضع هذا الدستور والتي تميزت بفكر سياسي رفيع أدخل على مصر الكير من المبادئ المتقدمة التي أقرت حقوق الإنسان وست بين المواطنين أمام القانون بغض النظر عن أصولهم أو دياناتهم وكفلت لهم حرية العقيدة والتعبير وضمنت لهم المشاركة في حكم بلادهم بتقييد سلطة الملك وإقرار مبدأ التمثيل النيابي بحيث لا يقوم تشريع إلا بموافقة نواب الأمة المنتخبين انتخابا حرا ومباشرا.

عقد التنوير

وفي هذا العقد تسارع إحلال التعليم المدني الحديث محل الكتاتيب العتيقة التي كانت تعتمد على التلقين وتم تطوير التعليم العالي وأصبح لمصر جامعة حديثة وأضيفت إلى مدارسها العليا القائمة والتي كانت تخرج المهندسين والزراعيين والأطباء كليتا العلوم والآداب اللتان افتتحا سنة 1925 وزودتا ببعض من أشهر الأساتذة الوطنيين والعلميين الذين لمع منهم الكثير ممن اكتتبوا في نهضة مصر واقتحام الجديد وإرساء قواعد الفكر المتقدم والحر فيها، وفي هذا العقد زاد وعي المصريين بتاريخهم المجيد والتليد والذي كانوا قد نسوه، وساعد على إحياء هذا الوعي كشف آثار توت عنخ آمون بوادي الملوك بالأقصر في أوائل العقد مما بهر الأبصار وبعث في المصريين الفخر والاعزاز بالوطن والأجداد وشحذ فيهم ا لهمة لاقتحام الكثي من ميادين الفن والأدب والعلم التي كانوا قد أهملوها. وقد لحقت هذه النهضة الشاملة عائلتي بصفة مباشرة عندما قررت أول حكومة وطنية تشكلت بإرداة الشعب وعن طرق الانتخابات الحرة المباشرة في سنة 1925 أن توفر بعثة تعليمية من فتيات مصر لكي يتعلمن مختلف الفنون والعلوم الحديثة لكي ينقلنها إلى وطنهن عند عودتهن وكانت شقيقتي الكبرى إنعام إحدى هؤلاء الفتيات للاتي اخترن ضمن هذه البعثة التي ضمت ست عشرة فتاة من خريجات مدرسة السنية بالقاهرة أوفدتهن الحكومة المصرية إلى إنجلترا والحقتهن بمدارسها ورتبت لهن مسكنا ومشرفة إنجليزية أما شقيقتي فقد التحقت بأحد معاهد الفن التشكيلي لتعلم فن الرسم.

كانت شقيقتي إنعام في سن السادسة عشرة عندما أوفدت في هذه البعثة التي وافق عليها والداها دون تردد مما يعكس مدى التقبل الذي كانت تحظي به حركة تحرير المرأة التي نشطت في أعقاب ثورة 1919 بل ومدى الثقة بين الحكومة والناس فلم يخامر الآباء أي شك في أن الحكومة ستقوم بواجب رعاية بناتهم في الغربة على أحسن ما تكون الرعاية- ولا بد أن أذكر القارئ هنا أن مثل هذه الموافقة ما كان من الممكن الحصول عليها في أوربا وأمريكا فقد سبقت مصر هذه البلاد في إيفاد بناتها في هذه السن المبكرة للدارسة في الخارج وعندما أروي قصة سفر شقيقتي لأي من الأوربيين أو الأمريكيين فإن الدهشة وعدم التصديق يصيبانهم فلم يكن مثل هذا الأمر مقبولا حتى في بلادهم في ذلك الوقت.

وعندما عادت شقيقتي من بعثتها بعد سبع سنوات كاملة في الغربة تغير بيتنا تحت تأثيرها فقد أعادت تنظيم غرفة وأضافت عليها لمسة جمالية وملأتها بالرسوم واللوحات التي كانت قد رسمتها بنفسها أو اقتنتها وبالتماثيل التي صبتها أو نحتتها خلال دراسته بالبعثة.. وبعد سنة واحدة من وصول شقيقتي إنعام إلى مصر قامت بإلحاقي وشقيقي كمال الذي كان يصغرني بعامين بقسم الصبيان بجمعية الشبان المسيحية بالقاهرة والتي كان مقرها شارع إبراهيم باشا "الجمهورية حاليا" بقصر نوبار باشا رئيس وزراء مصر وقت الخديوي توفيق، وكان التحاقي بهذا القسم وأنا في سن الثانية عشرة من أهم ما أثر في تكويني فقد كان تحت رعاية المربي الكبير الأستاذ يعقوب فام الذي كان قد عاد لتوه من بعثة بجماعة ييل بالولايات المتحدة بعد أن حصل منها على درجة الماجستير في علم التربية، وكان يعقوب فام مربيا ممتازا وصاحب نظريات رائدة في علمه كتبها في كتبة وطبقها في قسم الصبيان الذي كلف برعايته فأضاف إلى النشاط الرياضي الذي كان الغرض الأساسي من مثل هذه الأندية بعدا تربويا جديدا.

وكان أعضاء قسم الصبيان الذين كانت أعمارهم تتراوح بين العاشرة والسادسة عشر من العمر ينظمون في فرق كانت تسمى أندية كان كل منها يدبر أموره بنفسه ينتخب من بين أعضائه رئيسا وأمينا عاما ويقرر برامجه الرياضية والثقافية والترفيهية ويدخل في مسابقات مع غيره من الأندية، وقد دخلت وأنا في هذه السن المبكرة الانتخابات لمختلف مناصب قسم الصبيان وأعددت لها بوضع البرامج والدعاية وشحذ المناصرين والخطابة وكسبت الكثير منها وخسرت البعض منها، ولم يقلل هذا النشاط الاجتماعي من اهتمامي بالرياضة البدنية التي كان من أهم الأنشطة التي أخذت مني معظم وقتي حتى أصبحت لاعبا على قدر كبير من المهارة في لعبتي كرة السلة والكرة الطائرة وعلى قدر أقل في لعبة التنس، وقد ساعدني هذا النشاط المكثف على اجتياز مرحلة المراهقة دون الانزلاق في المشاكل التي يمكن أن تأتي معها، كما ساعدني على إيجاد مخرج لقدراتي الابتكارية التي لم تجد لها منفسا في المدرسة الثانوية العامة التي كان التلقين والضبط والربط أهم ما يميزانها.

واختلف الأمر تماما عندما التحقت بكلية العلوم جامعة القاهرة- والتي كانت تسمى حينئذ كلية العلوم البحتة بالجامعة المصرية- فقد كان التعليم فيها حرا وبلا تلقين وفاتحا للأفق، كنا نستمع إلى محاضرات الأساتذة الذين كانوا يوجهوننا إلى المراجع لنعود إليها في المكتبة نستخلص منها الجديد الذي كنا نناقشه معهم، وكان عمر الكلية عندما التحقت بها في سنة 1937 اثنى عشر عاما وكانت الوحيدة التي تقوم بتدريس العلوم الحديثة في مصر بل وفي العالم العربي كله، وكان معظم أساتذتها من الأجانب الذين اختيروا من بين أفضل الاساتذة الأوربيين ذوي الصيت الذائع وكان عدد طلاب الكلية صغيرا ولم يزد عدد طلاب دفعتي السبعين مما سمح بتوثيق العلاقة بين الطالب والأستاذ وتيسير استخدام المكتبة وممارسة التفكير الحر، والتحقق عند دخولي بالقسم الذي كان يدرس فيه علم الجيوليوجيا بناء على توصية من الكاتب الكبير الأستاذ سلامة موسى الذي كان يحاضر في جمعية الشبانالمسحية التي أصبحت عضوا فيها بعد خروجي من قسم الصبيان عندما بلغ عمري السابعة عشرة وكان للأستاذ سلامة موسى صالون خاص يجتمع كل خميس، وكان سلامة موسى رئداً من رواد الفكر العربي وداعية للتجديد ونبذ القديم وللأخذ بطرق الحضارة الحديثة كما كان قارئا نهما يتقن اللغات الأجنبية ومنفتحا على ثقافات العلم بدرجة لم يسبقه إليها أحد.

وقد توطدت بيني وبين سلامةموسى على مر الأيام علاقة من المحبة المتادلة ومازلت أذكر تشجعية لي ونشره لي في المجلة الجديدة التي كان يصدرها أول مقال لي ونشره لي في المجلة الجديدة التي كان يصدرها أول مقال لبي في الأربعينيات كما مازلت أذكر أنه جاء بنفسه لتوديعي على محطة القطار الذي حملني لمدينة بورسعيد لأستقل الباخرة لاستكمال دراسيت يجامعة زيوريخ بسويسرا في يونيو 1945 وبعد شهر واحد من انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوربا.

ثوابت التكوين

وهكذا تحددت وقبل أن أتخرج من الجامعة الثوابت التي شاركت في تكويني وأثارت اهتمامي بالشأن العام وحكمت اتجاهاتي في مستقبل الأيام. كان حب الوطن هو أول هذه الثوابت التي تربيت عليها في ظل ثورة 1919 القومية التي أعادت للمصريين الثقة بالنفس وعرفتهم بتاريخهم المجيد الذي حاول الغزاة عبر العصور أن يمحوه وشحذت هممهم للبناء الذي لم يكن ليستطيعوا أن يقوموه دون أن يستقلوا بشئون بلادهم، ولم تكن الوطنية التي جاءت مع ثورة سنة 1919 شوفينية ومتعصبة بل كان سمحة ومفتوحة على العالم وعلى مختلف ثقافاته استلمت دستورها من مبادئ نقلتها عن أوربا بعد أن خرجت من عصرها الوسيط وقد تداخل حب الوطن مع ثاني الثوابت التي وجهتني وهو الانفتاح على الحضارة الحديثة وارتبطا برباط وثيق، ولم يحمل لي هذا الترابط أي شعور بوجود أي تناقض بينهما بل وعلى العكس من ذلك فقد كان الانفتاح على الحضارة الحديثة هو الطريق للتعبير عن حب الوطن وخدمته، فلم يكن هناك بالنسبة للجيل الذي أنتميي إليه أي طريق آخر لرفعة شأن الوطن غير الأخذ بمنهج العلم الحديث الذي هو سمة هذه الحضارة، التي كنا نسعى إليها، لنتعلمه ثم ننقله إلى بلادنا ولم يمنعنا هذا الاهتام الكبير بالحضارة الحديثة من أن ندعو لمقاطعة البضائع الأجنبية ولتشجيع الصناعة المصرية الناشئة ومحال التجارة المصرية التي كانت تعاني من الاحتكارات الأجنبية ومن تسلط الأجنبي على اقتصاد البلاد وهكذا نشأت في آخر العشرينيات دعوة المصري للمصري كجزء مكمل لحركة الاستقلال الوطني الذي كان تحقيقه أساس تعمير البلاد وتصنيعها وقد أثارت هذه الدعوة انتباهي وحركتني حتى إذا ما جاءت حركة مصر الفتاة ودعت في مبدأ الثلاثينيات إلى تصنيع مصر وجمع القروش من أجل بناء المصانع حتى وجدت نفسي مسرعا مع شقيقي الأكبر نجيب فهمي إلى المشاركة في "مشروع القرش" الذي كنا نجمع فيه القروش والناس لنبين المصانع والتي رأي زعيم هذه الحركة أحمد حسين أن يبدأها ببناء مصنع للطرابيش التي كانت لباس الرأس الوطني فقد كان تصنيعها في النمسا خصيصا لنا أمرا مشينا للكرامة الوطنية، وهكذا خرجت وأنا في سن الثانية عشرة أجمع القروش لبناء ذلك المصنع والذي أقيم بالفعل في منتصف الثلاثينيات بحي العباسية بالقاهرة.

أما ثلاث الثوابت التي حددت اتجاهاتي فقد كان منهج العلم الذي بدأت أعرف مبادئه في دراستي بكلية العلوم واستخداماته عندما بدأت مستقبلي في ميدان البحث العلمي، وقد ساعدني في فهم هذا المنهج الدكتور نصري شكري أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة والذي أشرف على رسالة الماجيستير التي حصلت عليها في سنة 1944، وكان نصري شكري شابا يسبقني بسبع سنوات في السن عندما كان يشرف على رسالتي مما ساعد في أن تصبح العلاقة معه علاقة صداقة أكثر منها علاقة الأستاذ والطالب، وأكسبتني الكثير فقد كان نصري شكري واحدا من أنبغ الأساتذة الذين أحبوا العلم وعرفوا منهجه وقد ساعدني على اكتساب القدرة على تحليل البيانات وتقليب الاحتمالات. على أن أكبر الفائدة وجاءتني من دراستي بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة التي فتحت لآفاق أمامي وكان من أهم من شارك في تربيتي الأستاذ سنتسون الذي أعاد معي قراءة رسالة الدكتوراه التي أعددتها وعلمني طريق الكتابةالعلمية وأن أفرق بين الملاحظة والتفسير وأن أزن كل كلمة أكتبها ولا أزيد واحدة دون أن يكون لها لزوم وأن ألتزم في تنظيم كتاباتي بالشولات والنقط والفقرات، وكانت هذه الأمور جديدة على واحد يكتب بالعربية التي تعلم أن يجيئ فيها اللفظ قبل المعنى وأن تنساب دون فصلات أو فقرات، وقد أتحت لي فرصة اشتغالي بالتدريس بالجامعة بالولايات المتحدة لسنة واحدة بعد حصولي على درجة الدكتوراة في سنة 1950 القيام بأبحاث علمية كثيرة طبقت فيها ما تعلمته من منهج علمي نشرت نتائجها في أمهات المجلات العلمية مما أذاع اسمي فعرفني المشتغلون بالعلم الذي تخصصت فيه.

وكان من حسن حظي أن قابلت خلال دراستي بجامعة هارفارد "وداد" الفتاة المصرية التي حملتها الأقدار لتجيء لعام واحد استقطعته من بعثتها بجامعة برن مور بالولايات المتحدت حيث كانت تعد رسالة الدكتوراة لتستمع لمحاضرات أحد أشهر أساتذة الفلسفة بجامعة هارفارد وكان التحاقها في ذلك العام بكلية رادكليف التي كانت معدة لاستقبال الإناث من الراغبات في الدراسة بجامعة هارفارد التي كان مقصورة حتى ذلك التاريخ على الطلبة من الذكور فقط، وأعجبت بهذه الفتاة المصرية في بلاد الغربة، وبادلتني الإعجاب والحب وتعاهدنا على الزواج بعد عودتنا إلى مصر وقد تم ذلك بالفعل في سنة 1953 وقد درجت وداد أن تعيد معي قراءة كتاباتي وأن تنقدها وتصححها وأن ترشدني بطريقتها الرقيقة والمقنعة إلى منهج العلم وأصول المنطق وهي العلوم التي كانت تدرسها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عند عودتها بعد حصولها على درجة الدكتوارة في سنة 1951.

اللغة العربية

وقد يكون من المفيد أن أروي للقارئ كيفية تعلمي الكتابة باللغة العربية التي لم تعدني مدرستي لها فقد كان ولا يزال تعليم اللغة العربية بالمدارس المصرية، بل والعربية أيضاً مختلفا يلقن الطالب فيها قواعد النحو دون أنيتاح له فهم المنطق الذي يحكما ويتعلم الكتابة على أنها مجرد رص للألفاظ والمترادفات والجمل المحفوظة دون فصلات ودودن أن يكون للمعني فيها دور ويجبر الطالب على الحفظ عن ظهر قلب مختارات من الأدب القديم لا توجد لمعانيها أي علاقة مع اهتماماته ومثل هذه المختارات كان ينبغي أن تكون مصميم اهتمامات أساتذة تاريخ اللغة لا الطالب الصغير، وقد استعوضت بعض هذا النقص بقراءاتي الحرة لبعض المجددين من مؤلفي روائع الأدب الحديث مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي وسلامة موسى الذين كانوا يكتبون بأسلوب حديث، إلا أني لم أستكمل إيقاني للكتابة بالعربية غلا بعد أن عرفت قواعد ومنطق الكتابة باللغة الإنجليزية الذي رأيت فائدته عندما اضطررت في صيف سنة 1955 لكتابة محاضراتي في علم الحفريات القديمة باللغة العربية بعد أن صدر قرار من مجلس الجامعة بتعريب التدريس بكلية العلوم وهو القرار الذي اتخذ تحت إلحاح اليد كمال الدين حسين وزير التعليم في ذلك الوقت.

وكنت قد عدت قبل ذلك بسنوات من بعثتي وقمت بالتدريس بجامعة القاهرة باللغة الإنجلييزية حتى جاء ذلك القرار فحملت مذكراتي وقاموس "شرف" القاموس العلمي الوحيد الذي كنت أعرفه والذي كان يوزع علينا في السنة الأخيرة لدراستنا بكلية العلوم وقضيت إجازة الصيف بمنزلي على شاطئ البحر برأس البر التي تقع على مصب فرع دمياط عند التقائه بالبحر الأبيض المتوسط لأكتب محاضراتي باللغة العربية ولأعد نفسي لهذه التجربة الجديدة. وجاء كتاب بالعربي مطبقا أسلوب العلم: جملة قصيرة ليس بها كلمة زائدة أو مترادف واحد استخدمت في آخرها النقط وفصلتها في فقرات، كان الأسلوب جديدا كما كانت ترجمات المصطلحات العلمية اجتهادية.

وبعد سنوات من ذلك العمل الوحيد في ميدان هذا العلم باللغة العربية والذي لم يقدر له الاستمرار بعد أن تراجعت لجامعة عن قرارها بالتدريس باللغةالعربية أتيحت لي الفرصة أن أجلس مع بعض من أساطين العلم في مصر لترجمة قاموس علمي أصدرته دائرة المعارف البريطاينة بالإنجليزية وأسندت ترجمته إلى العربية إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي رأت أن تشكل لجنة من كبار العلماء للقيام بهذه الترجمة وأسندت لي ترجمة مصطلحات علم الجيولوجيا وكان من أعضاء اللجنة كبار الأساتذة رياض تركي "الكيمياء" محمود حافظ "الحشرات" محمد القصاص "النبات" محمد النادي "الفيزياء" وأحمد عمار "الطب". كنا نجتمع في الساعة السابعة ونصف من صباح كل ثلاثاء ولساعتين بمكتبة المجمع العلمي المصري الذي كنا أعضاء فيه بميدان التحرير بالقاهرة ليقرأ كل واحد منا ترجمة مصطلحاته كما كتبها لتصقلها معه اللجنة مجتمعة في محاولة لتوحيد ترجمة الكلمات، وكان نجم هذه اللجنة هو المرحوم الدكتور أحمد عمار طبيب أمراض النساء المشهور وعميد كلية الطب آنذاك، وكان الدكتور عمار عذبا لطيف المعشر أنيق الملبس عاشقا للشعر العربي وحافظا لبحوره ومحبا اللغة العربية، وقد فتح الحديث معه والاستماع إليه آفاقي على ثراء هذه اللغة وإمكاناتها الكبيرة للتطويع للاستخدام الحديث ولنحت مصطلحات العلم، وفي رأيي أن القاموس الذي أنهينا ترجمته في سنة 1977 كان ومازال من أفضل القواميس العلمية الإنجليزية العربية.

عن الوطن والحضارة والعلم

كانت ثوابت حب الوطن والانفتاح علي الحضارة الحديثة والسير على طريق النهج العلمي التي نشأتعليها بمنزلة البوصلة التي وجهتني خلال سنوات العمل العام التي بدأتها في أعقاب عودتي من بعثتي إلى مصر في سنة 1951 والتي قضيت سبع عشرة سنة منها في التدريس بالجامعة وعشرا رئيسا لهيئة المساحة الجيولوجية والتعدين وباقيها طليقا بعد استقالتي المبكرة من الحكومة المصرية أحاضر بلا مسئولية في الجامعات أو أجري بحثا اختاره بنفسي في مراكز البحوث المتقدمة أو أقوم بأعمال الخبرة فيما أرى أن له فائدة، كما أني أصبحت عضوا بمجلس الشعب المصري لثلاث دورات ولاثنتي عشرة سنة بين سنة 1964 وسنة 1976 مما أتاح لي الفرصة لمعرفة أوثق بطرق الحكم والإدارة في مصر.

وقد أتاحت لي هذه الخبرة الطويلة والمتعددة الأوجه اكتساب معرفة كبيرة بأرض مصر التي جبت كل ركن فيها وأهلها الذين عرفت إمكاناتهم وتاريخهم العريق فقد انتقلت من العمل الأكاديمي والنظري حين كنت أحاضر وأعد الأبحاث العلمية إلى العمل التطبيقي حيث أتاحت لي الفرصة في ظروف قل أن تكرر القيام بأكبر الأعمال فقد رأست مؤسسة التعدين في أعقاب حرب سنة 1967 وأوكل إلى إخراجها من أزمتها الكبيرة التي حاقت بها بعد فقدان سيناء ومناجمها الكثيرة التي كانت تزود المصانع بخاماتا واليت كان يعمل بها عشرات الآلاف من العمال، وكانت المهمة صعبة فقد جئت على أشلاء مؤسسة فقدت مقوماتها وانهارات معنويات العاملين فيها سوءا ن عادوا منهم من سيناء أو من بقوا بمصر ورأوا انهيارها بخروج هؤلاء العمل، إلا أن الجو العام الذي تلا نكسة سنة 1967 والذي أفقا القيادة وأجبرها على أن تأخذ الأمور بجدية وأن تعيد إلى مراكز القيادة الأكفاء ممن كانوا يطاردون قبل النكسة وتطهر الجيش والبلاد من الفساد الذي لحق بها أتاح الفرصة لإعادة الروح لمصر مما مكنها من تعبئة العاملين بالمؤسسة لإخراجها من نكستها فأوجدنا مصادر بديلة للخامات التي فقدناها مما تسبب في عدم توقف المصانع المعتمدة على خاماتها من العمل كما أقمنا العديد من المشروعات الجديدة التي استوعبت العمالة العائدة من سيناء.

وهكذا أتيح لي خلال قيادتي للمؤسسة أن أقود حركة بناء هائلة وأن أقوم بعمليات فتح المناجم وشق الطرق وبناء المواني وإقامة المدن السكنية ومد خطوط السكة الحديد وإدارة هيئة ذات عمالة كبيرة أعددنا لها هياكلها التوظيفية وميزانياتها وتعاملت مع نقابات العمل ولاجماعات الأهلية، وقد فعلنا تلك كله بما يكاد أن يكون جهودا ذاتية فقد كانت الميزانيات قليلة وموجهة في جلها إلى الجهود الحربي، وفي هذه الفترة عرفت عن كثب إمكانات المصريين ما يستطيعون أن يقوموا به عندما تكون لديهم قيادة صالحة، ففي السنوات التي تلت النكسة رأيتهم وهم ي أحسن حالهم يؤدون عملهم في ماس دون أن يطلبوا في نظيره أجراً أو ينتظروا شكرا وقد سجلت تفاصيل هذا النشاط البار في مقال المجلة الهلال المصرية في عددها الصادر في مايو 1991.

حقا لقد كان الخروج من أزمة 1967 صعبا وقد أمكن تحقيقه بالعمل الجاد الذي اعتمد على الكفاءات المتاحة وعلى أساندة الشعب الذي اضطرت القيادة إلى العودة إليه بعد أن خللتا القوى اليي كان تعتد عليها في تثبيت حكمها الراجع إلى تاريخ مصر الحديث لإيجاد من فترات البناء المماثلة إلا الفترة القصيرة التي جاءت في آخر عصر إسماعيل في سبعينيات القرن التاسع عشر حين لم يجد خديوي مصر من سينده بعد أن تركته القوى العظمى وتأمرت عليه إلا شعب مصر الذي طلب مشاركته في الحكم وقبل تقييد سلطته وأنشأ مجلسا نيابيا حل عندما جاء الاحتلال البريطاني في أعقاب هذه التجربة القصيرة مباشرة، وهكذا وئدت هذه التجربة الديمقراطية القصيرة وعاد الحكم أو توقراطيا كما كان ومعتمدا على قوة الاحتلال في بقائه أما في حالة هزيمة سنة 1967 فقد انتقل اعتماد الحكم بقيادة عبدالناصر من أهل الثقة وقواعده في الجيس والمخابرات التي أثبتت عجزها التام أمام العدوان إلى الشعب مما اضطر القيادة إلى إعادة تنظيم الإدارة وتحديثها والعودة إلى نظام الكفاءة لتنفيذ الأعمال، وقد استرم هذا النظام حتى حرب أكتوبر 1973 التي ما كان لها أن تتم بالنصر غلا بتطبيق هذا النظام الذي سرعان ما هجر بعد هذه الحرب، وفي ظني أن الفترة بين عدوان 1967 وحرب العبور في سنة 1973 هي من ألمع فترات مصر الحديثة التي أظهرت إمكاناتها الهائلة عندما تعود القيادة فيها إلى الشعب، وفي هذه الفترة تم بناء الجيش وتدريب الآلاف من الشباب على فنون القتال الحديثة التي أقدموا عليها في حماس وتضحية قل أن يجد الإنسان لها نظيرا وفيها عمل الناس تحت القيادات الجديدة في إخلاص لا يستطيع المحدثون أن يتصوروه، وإنه لما يحزنني أن أجد الكثيرين يسقطون فريسة الحملة الدعائية الضخمة التي تحاول أن تصور مصر وكأنها قد انتهت بعد حرب 1967 فيقللون من شأن تضحيات الأبناء الذين راحت سنوات شبابهم على خطوط القتال وداخل المصانع والحقول وتختلف منشآت الإنتاج ولا يقدرون هذه الفترة المضيئة في تاريخ مصر والتي يمكن أن نؤخذ عبرة ونمزذجا، وفي ظني أن حملة الدعاية الكبيرة الموجهة للتضخيم من هزيمة 1967 تهدف إلى إقناع المصريين بأن عليهم ماداموا قد خسروا الحرب أن يقبلوا جميع النتائج المترتبة على هذه الخسارة وأن يقدموا التنازلات لإسرائيل وزادتني حياتي العمل ية معرفة بأرض مصر وعمقت من حبي لها وأصبحت لي كالعشيقة يزداد الهيام بها لما زادت معرفتي بها وقد عبرت عن هذا الحب في مؤلفات كثيرة أخذ الكير منها الطابع العلمي البحث وأصبحت من المراجع التي لا غني للباحث في علوم الأرض عنها. على أن أفضل ما كتبت تعبيرا عن هذا الحب هو في كتاب "نهر النيل" الذي كتبته بالإنجليزية اكسفورد 1993، وترجمته إلى العربية "دار الهلال 1993" فقد حاولت فيه أن أفك أسرار النهر وأن اتتبع تاريخه وبداياته وتطوره عب الزمان حتى وصل إلى صورته التي تراها اليوم، وأن أسجل تقلبات النهر وكمية لمياه التي حملها عبر تاريخه الحديثة والقديم، وأن أتابع استخدامات مياهه منذ أن نزل الإنسان على ضفافة منذ مئات الآلاف من السنين حين بدأ في استغلال بيئة النهر التي تغيرت عبر هذه السنوات الطوال لتطوير معائشه منتقلا من الصيد وجمع النبات البري وصيد الأسماك إلى الزراعة البدائية فالزراعة باستغلال ظاهرة الفيضان ثم بترويض النهر حتى تمام ضبطه ببناء السد العالي، وأن أعالج مستقبل استخدامات مياه النيل والمشاكل التي ينتظر أن تقوم بين دول الحوض حول تقسيم مياهه، وقد كلفني الكتاب جهدا فقد مس علوما كثيرة في غير تخصصي كان على أن أعرف مبادئها فضلا عن تفهم نتائج آخر أبحاثها وقد جلست من أجل ذلك طالبا في سن السبعين أتلقى الدروس فيها. وبالإضافة إلى كتاباتي العلمية فقد كانت هناك كتاباتي في الشأن العام والتي جاءت جميعا في إطار الثوابت الثلاثة التي واجهتني خلال حياتي الناضجة، وقد رأيت في سنة 1996 أن أجمع بعضها في كتاب أعطيت له عنوان "الحقيقة والوهم في الواقع المصري" (دار الهلال القاهرة) اخترت موضوعات من بين العديد مما عالجته عبر الثلاثين سنة الماضية من أمر مصر، حالها ومستقبلها وإمكاناتها حتى اليوم، وتضمنت المقالات مناقشة للواقع المصري المعاصر وإسقاطاته على المستقبل وتقييما لخطط التنمية التي حدثت فيمصر وأمثل الاستخدام لإمكانات مصر في الأرض والطاقة والمياه كما تضمنت مقالات في النظام العالمي الجديد الذي أخذ في التشكيل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات ومقالات أخرى عن السكان والمياه والبيئة والتعليم. وكان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل وقت عملي بالتدريس بالجامعة، وأصبحت له أهمية خاصة بعد أن تركت الجامعة وشغلت بالمشاركة في خطط تصنيع مصر، فقد رأيت أهميته في إعداد المواطن للعمل لتنفيذ هذه الخطط وتطويرها خاصة وأ، خريج المد رسة أو الجامعة كان يأتي إلينا وهو غير معد للقيام بالعمل الذي يوكل إليه أو الإسهام في تقدمه فقد كانت تنقصه المبادرة والقدرة على الإطلاع وإتقان طرق الحصول على المعلومات كما أتاح لي عملي التنفيذي أن ارى المأساة التي ستلحق بكتلة العاملين ممن لم يذهبوا إلى المدرسة أصلا أو بمن ناولا من العلم القليل وهم في الطريق إلى التهميش الكامل مع دخول مصر عصر الإنتاج الآلي وعصر المعلومات وقد شغلني هذا الموضوع منذ وقت مبكر وكتبت عنه الكثير.

وقد نال الكتابان استحسانا وحصلا على جائزة أفضل كتاب في ميدان العلوم الاجتماعية في عامي صدورهما في سنتي 1993 و 1996.

 

رشدي سعيد

 
  




رشدي سعيد





غلاف الكتاب





غلاف الكتاب