الوزير وصاحب الحساب

الوزير وصاحب الحساب

يروي التوحيدي في مثالب الوزيرين (1) نادرة طريفة، عميقة المغزى والدلالة في سياق إجلاء الطبيعة المعقدة شديدة الخصوصية والتركيب لعلاقة المثقف بصاحب السلطان في القرن الرابع الهجري.

ولعل ما أثار انتباهنا فى هذه النادرة هو تلك الطبيعة الملتبسة لراوى الواقعة، كاتب دار الصاحب ابن عباد، الوزير البويهى الشهير، إذ يقع فى مسافة بينية مرتبكة بين نمط المثقف الوارد على مجلس الوزير طارحا بضاعته عله ينال منحة مادية مجزية أو حظوة وإعجابا بميزاته عن غيره قربا ومكانة وحضورا، من ناحية، وبين نمط عامل السلطان المشتغل لديه، والقائم على رعاية مصالحه، وخدمة شئونه، بل أحد المقربين إليه، وقرينه أو ربيبه الذى أمضى صباه فى دار الصاحب، ورعاه ابن عباد رعاية الأب لأبنائه فيما يزعم ويدعى!!

ولعل ما ينسج ملامح ذلك الالتباس بالرغم مما يبدو للوهلة الأولى من انفصال جلى بين النمطين، هو إمكان التشارك فى دوافع الاقتراب من هذا المدار السلطوى لاذع المذاق، والتورط فى فضاءاته الموحشة، فضاءات التآمر والدسائس والوشايات، وهو ما يجعل الحضور داخلها مجازفة خطرة قد يترتب عليها فى كثير من الأحيان نتائج وخيمة تصل إلى حد التصفية الفعلية ماديا ومعنويا، وهو ما يطول الجميع بلا تفرقة، حيث يتساوون أمام صاحب السلطان الطاغية من حيث القيمة الاستخدامية، فالكل مجرد أدوات فى يد صاحب السلطة تتحدد أهميتهم بقدر ما يؤدون من أغراض السيد كما يريد ويشتهى أيا كانت هذه الأغراض طيبة أو رديئة. وهو ما يعنى فى المحصلة النهائية أن السلطة الطاغية سلطة بلا ذاكرة، وليس لديها كائنا ما كان عزيزا أو غاليا سوى السلطة ذاتها !!

وها هو دبشليم الطاغية فى «كليلة ودمنة» حين دخل عليه بيدبا الحكيم، وراوغه بسكوته المحير، يستعرض أمام الفيلسوف بصوت عالٍ ما دار فى نفسه من تكهنات وتفسيرات لهذا السكوت فى حضرته، ولأسباب قدوم بيدبا الفيلسوف الحكيم أفضل أهل زمانه، فيما يقر الطاغية، عليه، وبعد أن يذكر كل الأسباب الممكنة التى تدفع أحد الرعية لمواجهة السلطان، ودخول حضرته دون استدعاء مسبق منه، وهي في مجملها أسباب تكشف عن احتياج الرعية الملح إلى الراعي، ولا تهدد جوهر السلطان، بل تدعمه وتؤكده وتكرس له. يقول ما يلي:

«إن كانت بغيته (أى بيدبا) غرضا من أغراض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك فيما أحب، وإن يكن من أمر الملك، ومما لا ينبغى للملوك أن يبذلوه من أنفسهم، ولا ينقادوا إليه، نظرت فى قدر عقوبته».

هذا هو الخط الأحمر الذى ينبغي ألا يتجاوزه أحد أو الاقتراب منه، وعنده يتساوى بيدبا الفاضل مع دمنة الشرير الواشى المرائى، مع الثور الحكيم الطيب الذى قتله الأسد غيلة نتاج دسائس دمنة الذى عانى المصير نفسه، حين انكشفت وشايته. فقد مس هؤلاء جميعا جوهر السلطة سواء بوعى أو دون وعى، وسواء بإرادة خيرة أو شريرة، فعوقب كل منهم جراء اقترابه الخطر.

يقول أفلاطون فيما يزعم التوحيدى :

«من يصحب السلطان، فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر».

وقد تنوعت دوافع المثقفين وأهل العلم والمعرفة فى اقترابهم وتورطهم داخل ذلك الفضاء السلطوى الموحش تنوعا لافتا يشير إلى تعقد المشهد الجامع بين طرفى المعادلة، وثرائه الجلى، واتساع مساحته وتجلياته ما بين النقائض والمفارقات المدهشة والمؤسية فى آن. ففى حين نجد المثقف الفقير المهمش الذى دفعته الحاجة الهاتكة، والضرورة القامعة لمقاربة المدار السلطوى وتحمل قسوته وجزعه، بل الوصول إلى حد ابتذال الذات والمهانة والذل والاستجداء عله ينال أى منحة أو هبة من صاحب السلطان أو نظرة عطف، ولفتة اهتمام واعدة بإمكان العطاء المادى تداركا للفاقة المضنية، ومقاربة تخوم العيش الكريم، من ناحية، فإننا، من ناحية أخرى، نجد فى الوقت نفسه، المثقف الانتهازى المرائى عارم الطموح، الساعى سعيا محموما دءوبًا إلى نيل الحظوة والمكانة، وامتلاك السطوة والنفوذ، وتحقيق الثراء وتذوق مباهج الدنيا المشتهاة، والمشاركة فى مشهد السلطة الباذخ، وممارساتها اللاهية المتوارية عن أعين الرعية، والتى تتناقض جذريا وصورة المثال السلطوى فى مخيلة المحكومين، وخاصة أهل الفلسفة والحكمة، ودعاة الدين والأخلاق. وقد يكون دافع الاقتراب هو المبالغة فى تقدير الذات، وهوسها بأوهام التأثير، ومخايلات إمكان لعب الدور، وقيادة الأمور، والمشاركة الفعلية فى تدبير شئون الملك، والتحكم فيها من خلف الستار، حيث يغدو صاحب السلطان أو هذا هو الأمل المبتغى أداة طيعة فى يد صاحب التدبير سواء كان كاتبا أو فقيها أو قاضيا.. إلخ. وربما كان الدافع أكثر تعقيدا ورقيا، إذ يعبر عن نزوع مثالى لترويض جموح السلطة وإعادة تربية الطاغية بالحيلة والمراوغة العقلية الذكية، ومطامنة عنفه تدريجيا كى يتعلم كيفية إدارة شئون المملكة والرعية بالعدل والسنة الحسنة ليحقق صورة الحاكم الصالح الرشيد، وهو حلم المثقف الفيلسوف بدءًا من أفلاطون، فالفارابى، ومسكويه، وغيرهم، وهو ما عبر عنه ابن المقفع صراحة فى كليلة ودمنة عبر القناع بيدبا الفيلسوف إذ يقول :

«لما استقر الملك (لدبشليم) طغى وبغى، وتجبر وتكبر وكان فى زمانه رجل فيلسوف فاضل حكيم، يقال له بيدبا، فلما رأى الملك ، وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر فى وجه الحيلة فى صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف».

ولعل العلاقة لم تكن دوما مشدودة حادة هكذا بين الطرفين، فقد كانت هناك مساحات ممتدة متنوعة بينهما تثير الانتباه والدهشة، بل لعلها تتجاوز وتخترق بصورة مباغتة الخطوط الحمراء للسلطة دون أن يترتب على ذلك أى نتائج مأساوية وإنما يتحول الموقف برمته لنادرة طريفة تنسج خطابا مراوغا يضمر السخرية العميقة من صاحب السلطان، ويسلبه مشروعيته وهيمنته بذكاء مثير ورهافة لطيفة ضاحكة، وهو ما سنراه متحققا فى نادرة التوحيدى ، كما يرويها لنا، ويقول:

«حدثني الجرباذقاني أبو بكر، وكان كاتب داره (الصاحب)، قال: يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عما لا يعرف، ولا يسأم نفسه فيا لا يفى به ولا يكمل له، ويظن أنه إن سكت عنه فطن لنقصه، وإن احتال وموه، جاز ذلك وخفي واستتر ولم يظهر، ولم يعلم أن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال، وصدق القائل : كاد المريب يقول خذونى .... قال لى فى بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخرته وقصرت فيه واغتنمت سكوتى وشغلى بتدبير الملك وسياسة الأولياء والجند، والرعايا والمدن، وما على من أعباء الدولة وحفظ البيضة، ومشارفة الأطراف النائية والدانية باللسان والقلم، والرأى والتدبير، والبسط والقبض والإبرام والنقض، وما على قلبى من الفكر فى الأمور الظاهرة والغامضة، وهذا لعمرى باب مطمع وإمساكى عنه مغر بالفساد مولع، فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب تبين فيه أمر دارى، وما يجرى عليه دخلى وخرجى.

قلت له: وهذا كله بسبب قوله هات حسابك بما تراعيه ؟ قال : أى والله، ولقد كان أكثر منه، وإنما اختصرته .... ثم قال أبو بكر: تفردت أياما، وحررت الحساب على قاعدته وأصله، والرسم الذى هو مألوف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي، وأمَرَّ عينه فيه من غير تثبيت أو فحص أو مسألة، ثم حذف به إلى وقال: أهذا حساب، أهذا كتـاب، أهذا تحرير وتقرير... والله لولا أنى قد ربيتك فى دارى، وشغلت بتخرجك ليلى ونهارى، ولك حرمة الصبـا، وتلزمنى رعاية الأبناء، لأحرقنك بالنفط والنار، وأدبت بك كل كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكل شاهد وغائب. أمثلى يموه عليه، ويطمع فيما لديه، وأنا خلقت الكتابة والحسابة .... والله ما أنام إلا وأحصل فى نفسى ارتفاع العراق ودخل الآفاق، أغرك منى أنى أجررت رسنك ( تركتك على هواك) وأخفيت قبيحك، وأبديت حسنك؟ ....... لا تعول على قحتك وعلى قصتك وصلابة حدقتك .... قال أبو بكر: « فو الله ماهالنى كلامه، ولا أحاك فى هذيانه لأنى كنت أعلم جهله بالحساب، ونقصه فى هذا الباب، فذهبت وأفسدت، وقدمت وأخرت، وكايدت وتعمدت، ثم رددته إليـه، فنظر فيه، ثم ضحك فى وجهى، وقال : أحسنت بارك الله فيك، وهكذا أردت، وهذا بعينه ما طلبت، ولو تغافلت عنك أول الأمر، لما تيقظت فى الثانى» (127).

سخرية مريرة لاذعة من حماقة السلطوى وسفاهته، تثير الضحك بقدر ما تثير البكاء، وكأنها كوميديا سوداء عبثية مليئة بالمفارقات اللافتة!! ويبادئنا الراوى ( أبو بكر)، وقناع الذات الكاتبة بداية قاسية إذا يكشف عن جهل الصاحب الذى لا يستحى فيسكت عما لا يعرف، بل يخوض فيه مدعيا المعرفة متبجحا، مختالا ومموها، متصورا أنه بادعائه وتظاهره ومخايلته يغطى جهله ونقص معرفته، بينما هو فى حقيقة الأمر، يغرى محاوره بكشف حقيقة حاله، فيفتضح وهو يظن أنه مستور بذكائه الخارق، وحيلته الناجعة التى يخدع بها كل أحد!! إنها السلطة حين تسقط فى فخ مخايلتها الوهمية الذى نسجته لتوقع فيه من تظن أنها احكمت سيطرتها عليه، وبهرته ببريقها وسطوتها، واستلبت عقله وذكاءه وقدرته على الفهم والتقدير والحكم، وبقدر ما تصور السلطة لذاتها آخرها الأدنى أقل معرفة وذكاء وقدرة على الفهم والحكم بقدر ما تصور الذات، ذاتها لذاتها، أكثر من الجميع معرفة وذكاء وقدرة وفهما وتدبرا ..الخ!! حيث لا يستطيع أحد مواجهتها أو التصدى لها أو كشف مستورها أو الاطلاع على مواطن نقصها وضعفها ومثالبها فيعريها من غطاء الحماية الوهمى الذي نسجته حول نفسها وتشرنقت داخله، وتمارس السلطة كل هذه المخايلات إزاء ذاتها والآخر رغم وعيها الفادح بحقيقة مأزقها وعمق الخلل المعرفي والقيمى. ولعلنا نلاحظ كيف يمارس المثقف، صاحب المعرفة التى يقدمها سلعة تشتريها السلطة مقايضا عليها بحريته وكرامته، بل وجوده ذاته، قمعا مرواغاً على هذه السلطة، ليس من خلال التفوق المعرفي عليها، أو كونه مرآة كاشفة لجهلها الفادح وفضيحتها المعرفية فقط، بل من خلال وضعها موضع الاسترابة، حيث يخضع السلطوي لمراقبة المثقف المتفوق معرفيا ، ويغدو محل نظرته المتفرسة التى ترصد وتراقب تصرفاته، وتستشف المخبوء والمستتر خلف الاحتيال والتمويه السلطوي الساذج المكشوف، وهكذا فبدلا من غض البصر المنوط بالرعية فى حضرة السلطة، تفاجئنا العين المحدقة الوقحة التى تحاصر السلطوي وتغرز نظرتها فى عمقه الخفي فتنتهكه، وتعريه من كل غطاءاته الحامية، بل تسخر منه وتهزأ به، وها هو الصاحب، يعى عمق المسألة جيداً، وبخبرة سلطوية محنكة، فيقول ( لا تعول على قحتك وصلابة حدقتك)!! ولعل هذا الوعي السلطوي بالمضمر فى نظرة المثقف الوقحة، هو ما زاد من حدة وعدوانية خطاب الصاحب ولهجته المتوعدة لأبى بكر!!

ولعلنا نلاحظ فى ضوء ما سبق الآليات الدفاعية المنسربة عبر خطاب الصاحب لأبى بكر حين طلب منه موافاته بالحساب وتحريره له، وذلك من خلال نبرة التهديد والوعيد، ناهيك عن الطابع الاسقاطى للخطاب!! فها هو الصاحب يعرض بأبى بكر، ويتهمه بالتقصير فى أداء واجبه، بل بالتحايل والسرقة واللعب من وراء ظهره، مستغلا انشغال ابن عباد فى إدارة أعباء الدولة وسياسة وتدبير الملك والأولياء والجند، والرعايا والمدن... الخ!! هم كبير وعبء جلل يحمله الصاحب على كتفيه إذا ما قورن بهم الدار، وشئونها وما فيها، ومن فيها ! ومن ثم، فقد يغرى هذا الإنشغال الجم أمثال هؤلاء الخدم، بل من قارنوا أهل الدار منذ حداثتهم، وتربوا فى حجر الصاحب نفسه، فيما يدعى على أبى بكر، بالإهمال والتحايل والتلاعب، وما هو أكثر من ذلك فى إدارتهم لشئون الدار، ظنا منهم أن الصاحب غافل عنهم، لا وقت لديه، ولا فراغ ذهن لمراعاة شئون الدار. ومراقبة أدائهم لوظائفهم، وأماناتهم!! لكن هيهات، إنه الصاحب ابن عباد اليقظ الذي لا تغفل عينه عن شىء ـ ولا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن وعيه وإدراكه الثاقب كبيرة أو صغيرة مما يحدث حوله لا فى داره، ولا فى أنحاء المملكة الواسعة ما بين أطرافها النائية والدانية، من أمور ظاهرة أو غامضة!! وهو ما يعنى فى المحصلة النهائية، أن أحدًا لا يملك القدرة، بل لا يستطيع ولا يجرؤ مهما بلغ ذكاؤه أو علمه أو مراوغته أن يموه عليه أو يتحايل ويتلاعب من وراء ظهره، أو يتخيل مجرد تخيل أنه يستطيع أن يخفى عنه شيئا أو يضحك عليه!!

ولعل هذا الهذيان السلطوي الذي لا يخلو من هواجس التأله، حيث الإله المحيط الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، لا يكشف فحسب عن تصورات السلطة الوهمية والمخايلة حول ذاتها وآخرها الأدنى، بل يعرى مساحات الحذر والتوجس والتربص التى تعانيها السلطة، لا إزاء رعاياها عامة، بل إزاء أخص خواصها، وأقربهم إليها، حتى من تربوا فى كنفها، وتحت رعايتها، ومن خيرها، وكانوا كأبنائها، كما يصف الصاحب أبا بكر!! أو كما يقال «يؤتى المرء من مأمنه»!!

إن هذه السلطة المهددة فى عقر دارها، يتراوح خطابها لربيبها صاحب الحساب، ما بين التهديد والوعيد، من ناحية، والابتزاز العاطفي، من ناحية ثانية!! فها هو الصاحب بعد أن يأتيه أبو بكر بدفاتره المتقنة، يطلع عليها بسرعة ومن دون جدية، ومن غير تثبيت وفحص وتمحيص، وبالرغم من ذلك يتهمه بالتهاون وعدم الإتقان، ومحاولة خداعه والتحايل عليه!! وناهيك عن أن ممارسة الصاحب ذاتها تبرز مدى جهله بعلم الحساب الذي لم يتمعن فى دفاتره لعدم فهمه إياها، فإن اللافت هنا هو ما قاله الصاحب لأبى بكر. أخذ الصاحب يذكر أبا بكر بفضله عليه، وتعليمه إياه، وتربيته له، ورعايته أمره وشئونه كابنه، بل إنه مازال يتجاوز عن أخطائه، تاركا إياه يتصرف على هواه، لا يحاسبه، ولا يؤاخذه، بل يغطى مقابحه ومثالبه، ويستر سوآته، ويجلى محاسنه ويبرزها، لأجل هذا الميراث البنوى / الأبوي!! وبالرغم من هذا كله، يتهاون صاحب الحساب، ربيب الصاحب، فى خدمته، بل يستهين بهذا التراث النبيل بينهما، ناهيك عن عدم تقديره واحترامه لمعرفته وعقله وذكائه، وسطوته وقدرته، ويتحايل عليه، ولعله يسرقه كالغرباء الطائشين والخونة المتهورين!!

إن هذا التعريض السلطوي بصاحب الحساب، والذي يبرزه بوصفه جاحدا ناكرا للجميل، ولحق العشرة والتربية والتعليم، ينطوى لا على هواجس السلطة ومخاوفها التى تؤرقها إزاء رعاياها، فقط، بل على إجلاء صورة الذات السلطوية الأبوية، والمتسمة بالأستاذية بوصفها الأحق بالسلطة عليهم وكونها تمتلك من الصفات المتميزة معرفيا وقيميا ما يجعلها مؤهلة للعب هذا الدور، بل المستحقة له عن جدارة مطلقة!! وهو ما يعنى أن الذات السلطوية هى الأكثر رقيا وإنسانية وصدقا وصلاحا وكرما وجودا إذا ما قورنت برعاياها وخدمها، ومن تربوا على خيرها وفى كنفها، مراياها النقيضة المنحطة معرفيا وقيميا، بل الرعية غير الجديرة بسلطة الصاحب ابن عباد الأب والأستاذ والراعي الفاضل الكريم العالم الجواد .. الخ!!

وبالطبع، أعاد ابن عباد إنتاج القمع على صاحب الحساب معرفيا، حين ذكر تعليمه إياه، ثم تحدث عن نفسه بوصفه خالق الكتابة والحسابة، فكيف يموه على مثله، ويطمع فيما لديه، وهو يملك فى يديه، ويحوى فى عقله دخل ومالية مملكة بأسرها!! إنه حصن السلطة الذي يمنحها تفوقها فى كل المجالات، ويصفى حسابها مع المثقف المتطاول عليها والمنتهك لحرمها، والمتعالي عليها بمعرفته، والساخر منها بالرغم مما قدمته له من حماية ورعاية ورزق!!

ولا ندرى أيهما مارس قمعا وتهديدًا وعنفا متخيلا على الآخر، وابتزازا عارما، أهي السلطة الأبوية التى استخدمت لغة الإحراق بالنفط والنار والتأديب، والتمثيل الفعلي ماديا ومعنويا بالمثقف ليصبح عبرة لمن يعتبر، أم هو المثقف الذي يعلق على هذه اللغة العنيفة القاسية التى قصد بها إخافة سامعها وإرهابه، بقوله الساخر الهازئ: والله ما هالني كلامه، وهو ما يكشف لاعن استهانته بكلام الصاحب ووعيده وقدرته العقابية فقط، بل عن انتفاء صفة الهول والهالة بمعنى الرعب والسحر والإبهار عن كلام السلطوي، والتي هى صفات ضرورية لإحداث تأثير السطوة أو الرهبة والهيبة والإجلال التى ينبغي أن يحققها كلام السلطة، خاصة فى مقام التهديد والوعيد، وتدشين سلطة العقاب المادي والمعنوي!! بل يتمادى صاحب الحساب واصفا كلام ابن عباد بالهذيان، وهكذا تنتفي عن الصاحب أهم مقومات السلطة المتعارف عليها فى السياق الوسيط، إلا وهو مقوم العقل والوعي اليقظ المنتبه، وحكمه إدارة الأمور، بل رصانة التعبير اللغوى اللازمة لذات السلطة، لخطورة موقعها وجدية دورها وتأثيرها، وهو ما ينقض خطاب ابن عباد، سالف الذكر من جذوره، ويفت فى عضد دولته!! ناهيك عن إخراجه من حظيرة البيان الفصيح لأنه يهذى ويثرثر بكلام ووعيد من قبيل الفائض اللغوى الانفعالي والمغالى فيه، فاقد المصداقية والتأثير والجدوى ولنلاحظ السؤال الاستفساري الذي لا يخلو من مكر وسخرية الذي سأله ( المحاور المتلقى لحديث أبى بكر ) حيث قال له تعليقا على رواية أبى بكر حول تكليف الصاحب له بإعداد حسابه، وحديثه الطويل فى هذا الصدد، وهذا كله بسبب قوله: هات حسابك بما تراعيه؟!

وتكتمل مكيدة العقل المراوغ للمثقف المقموع حين يستغل جهل الصاحب بالحساب والذي يعرفه جيدا، فيأخذ دفاتره، ويتلاعب فيها متعمدا بالإفساد والتقديم والتأخير بما يشبه لعب الأطفال والحمقى، ثم يعيدها إلى الصاحب غير هياب ولا خائف من إمكان اكتشاف الصاحب الحيلة، بل إنه يكاد يكون متيقنا من قدرته على خداع الصاحب واستيعاب غضبه وانفعاله الزائف الذي يشبه الطبل الاجوف، ومن ثم فما كان أبو بكر عابئا بوعيد ابن عباد السابق، ولا مصدقا له من الأصل!!

ومن المثير للانتباه، أن يختتم النص برضا الصاحب عن صاحب حسابه، وجهده المشوه عمدا، بل يدعو له ويضحك فى وجهه، ويبرز أهمية الدور التربوي الذي لعبه معه ليحسن أداءه، ويقوم بعمله كما ينبغي، ويبذل الجهد المنوط به، والمتوقع منه فى ظل سلطة أبوية راقية معرفيا وقيميا!!

وهكذا يكتمل المشهد الساخر، وتكتمل مكيدة صاحب الحساب، وتجلى صورة السلطوي السفيه الثرثار الذي تحكم فى رقاب العباد صدفة وحظا مواتيا، وليس عن جدارة واستحقاق فى مقابل صورة المثقف الجدير بالشرف والسلطة الحقة، سلطة المعرفة!!.
-------------------------------
(1) لا يعنينا فى هذا السياق مدى صحة الراوية أو كذبها أو مدى تجنى التوحيدى أو صدقه لأننا نهتم بتحليل المتخيل حول هذه العلاقة راصدين مدى ما ينطوى عليه من عنف ومخايلة يجليان الطبيعة اللافتة لهذه العلاقة الشائكة بين المثقف وصاحب السلطان.

عندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ
فالسطوحُ البيضُ تغفو...
تحتَ أكداسِ الزَّهرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ
لملاقاةِ القمرْ..
يحملونَ الخبزَ، والحاكي، إلى رأسِ الجبالْ
ومعدَّاتِ الخدرْ..
ويبيعونَ، ويشرونَ.. خيالْ
وصُورْ..
ويموتونَ إذا عاشَ القمرْ

نزار قباني

 

هالة فؤاد