شكيب أرسلان.. المجاهد والعلاّمة

شكيب أرسلان.. المجاهد والعلاّمة

ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وعلى امتداد العالمين الإسلامي والعربي، انتشر اسم المجاهد العلامة شكيب أرسلان، في ميدان الجهاد، كما في ميدان القلم.

امتدت شهرة أرسلان أيضًا إلى العالم الغربي، وهو من اختار منفاه في مدينة جنيف، مقر عصبة الأمم، ومن هناك أصدر مجلته «لا ناسيون آراب»، أي «الأمة العربية»، واستمر يجابه الدول الكبرى بالقانون والمنطق دفاعا عن قضايا الأمة، ويجول في دول أوربا وأمريكا، مقارعا ذوي النفوذ وأصحاب الرأي بلسانهم، كتابة وخطابة وسجالا، كاشفا عن مظالم الاستعمار في بلاد المسلمين والمقهورين. أعمال كهذه تقوم بها في عصرنا مؤسسات فكرية وإعلامية عبر شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة، بكل سهولة؛ لكنه.. كان في النصف الأول من القرن العشرين.. وكان وحده!

ألقاب متعددة رافقت اسم شكيب أرسلان، أولها لقب الإمارة الموروث عن أسرته التي انتقلت من معرة النعمان إلى لبنان، منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، أمّا بعد أن أخذت كبريات الصحف في مصر والعراق وفلسطين والمغرب العربي الكبير تتبارى في نشر مقالاته، فقد أطلقت الصحافة العربية عليه ألقابا شتى، منها «كاتب الشرق الأكبر»، و«كاتب الإسلام»، و«كاتب العصر»، و«أفغانيّ العصر»، و«أمير الكتّاب»، أمّا أكثرها التصاقا باسمه فكان «أمير البيان». والحق أن أمير البيان لم يكن علَما في حقل واحد، فهو المجاهد، والكاتب، والشاعر، والسياسي،والصحفي، والخطيب، والرحالة، والمفكر الإسلامي، والمؤرخ العربي؛ ونحن في هذه الصفحات، سوف نحاول التعرّف على شخصية شكيب أرسلان، من خلال التنوع والشمول في عطائه الإنساني.

زمن اليقظة

ولد الأمير شكيب حمود أرسلان، سنة 1869، في الشويفات، البلدة القريبة من بيروت، وكانت بيروت يومذاك متصرفية تابعة لولاية سورية، وكان مركز الولاية دمشق. كان شكيب لايزال فتى يافعا لما أحكم السلطان عبد الحميد قبضته الحديدية على الإمبراطورية العثمانية، بينما أنفاس النهضة العربية تتقدم بخطى بطيئة، وباب الهجرة إلى الأمريكتين يتسع؛ أمّا الأحداث السياسية التي وعى عليها الفتى، فكان أهمها الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا (1877)، وهي التي انتهت بهزيمة الدولة العثمانية، ثم كان احتلال فرنسا لتونس (1881)، واحتلال بريطانيا لمصر (1882)؛ وهذا بينما كانت الأمم البلقانية تثور وتنسلخ الواحدة بعد الأخرى عن الدولة، وتتحول من راية الهلال العثماني إلى راياتها القومية.

تعلم الفتى شكيب في مدرسة الحكمة في بيروت، وكان أستاذه بالفرنسية أوجست أديب، أمّا أستاذه بالعربية، الشيخ عبد الله البستاني، فكان له الأثر الكبير في تنشئته على عشق اللغة العربية والشعر العربي.

سفير فوق العادة

ابتدأ شكيب أرسلان حياته العملية بالوظيفة في المناصب الحكومية العليا التي كانت حكرا على أبناء العائلات، فشغل منها مع مطلع القرن العشرين منصب «القائمقامية» مرتين في لبنان؛ وانتخب نائبا عن منطقة حوران في مجلس النواب العثماني سنة 1912، وبقي نائبا حتى نهاية عمر الدولة؛ ثم أصبح عضوا في الوفد السوري الفلسطيني في جنيف إلى آخر حياته، وقد رفض مرارا منصب «السفير»، وإن يكن في رحلاته كان يُستقبل كأنه سفير فوق العادة، لعاصمة الخلافة.

هو من الذين جاهدوا يوميا، بالعقيدة، أو الفكر، أو السلاح، أو القلم، أو اللسان، وكان من أكثر علماء عصره جودا وكرما بوقته، فما تأخر يوما عن الرد على الرسائل التي كانت تصله من المسلمين في شتى البقاع، يطرح عليه أصحابها الأسئلة في أصول الدين، والجهاد، وتاريخ المسلمين، وحاضرهم. وكان أصدقاؤه ينصحونه بأن يرحم نفسه من كثرة الكتابة، لكنه لم ينتصح، كان يكتب في العام الواحد نحو ألف وستمائة رسالة، ومائتي مقالة، عدا ما أسماه بـ «التآليف المطبوعة»، وقد ترك ثروة فكرية تربو على العشرين كتابا مطبوعا ومخطوطا. ولم يَعرف عنه إلاّ المقربون، أنه كان يبيع بين وقت وآخر، قطعة أرض من ممتلكاته في لبنان، حتى يتمكن من الاستمرار في العطاء؛ ولمّا اضطر يوما إلى عصر النفقات، فعل ذلك، لكنه ما كان ممكنا له الاستغناء عن سكرتيره الذي يملي عليه رسائله.

أمّا في فترة وجوده في الآستانة، ما بين عامي 1917 و1918، فهو لم يكن ليجد الوقت للكتابة أو حتى للمطالعة، ذلك أنه كان لايزال نائبا، وكان الناس يراجعونه من جميع أقطار سورية بالتلغرافات والمكاتيب، حتى الذين لا يعرفونه كانوا يراجعونه، وذلك لثقتهم بأنه يلبي مطالبهم، فكانت تصله يوميا نحو عشر برقيات، وقد تصل إلى خمس وعشرين برقية، وهذا عدا عن الرسائل؛ وحتى يتمكن من تلبية حاجات الناس، في مدينة كبيرة ممتدة كالآستانة، اضطر إلى أن يخصص يوما من الأسبوع لكل نظارة (وزارة)، ولمّا كان يجيب على المراجعات برقيا، فكثيرا ما أنفق راتبه الشهري على أجور البرقيات والمواصلات، الأمر الذي جعله يلجأ إلى الرد بالرسائل.

رابطة الإسلام

كان من الذين يؤدون شعائر الدين طوال حياتهم، صياما وصلاة وزكاة وحجا، على مذهب أهل السنة؛ أمّا أسرته، فهي تنتمي إلى بني معروف، الذين أكّد أرسلان في كتاباته أنهم فرع من الإسلام الواحد الجامع؛ وقد برهنوا على ذلك حين كانوا يلبون نداءه للجهاد، دفاعا عن الإسلام والمسلمين.

كان أرسلان يتحدث باستمرار عن رابطة الإسلام مع الأتراك، ويسميها أحيانا الرابطة الشرقية، ويقول: «الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة قد تفككت منذ قرون». وكان أيضا يتحدث عن تاريخ العرب ومجدهم، فأسرته الأرسلانية تعتز بانتمائها إلى جدها الأكبر الأمير عون، أحد شهداء معركة أجنادين، كبرى المعارك بين العرب والروم على أرض فلسطين، بقيادة خالد بن الوليد، سنة 636 م. لكنه يوم اتخذ أحرار العرب قرارهم، في منتصف الحرب الكبرى، بإعلان الثورة العربية، ضد الدولة العثمانية، استمر هو المدافع الصلب عن «الجامعة الإسلامية»، وعن «الدولة العثمانية» التي كان يراها معقل الخلافة، وصمام الأمان الذي يجب المحافظة عليه، درءا للمخاطر التي تنتظر العرب على يد الاستعمار الأوربي القادم. وكتب أسعد داغر، في مذكراته، ما قاله أرسلان يوما لمعارضيه:

«لا أعتقد أن بينكم من هو عربي أكثر مني. افتحوا عيونكم إلى ما يهدد البلاد العربية من خطر. اقرأوا الجرائد الأجنبية. انظروا إلى المعاهدات التي أعلنت وإلى الاتفاقات التي أذيع خبر عقدها ولم تنشر. ألا ترون أنها كلها ترمي إلى تقسيم الدولة وذهاب الأقطار العربية للإنجليز والفرنسيين».

كذلك روى الحاج أمين الحسيني عن أرسلان قوله: «أنا أشد عربية منكم، ولكني أعلم أن الحلفاء سينكثون عهودهم، وستظهر الحقائق لكم».

الواقع أن أرسلان رأى خطر الاستعمار القادم حتى قبل انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس (1913)، لِما لفرنسا من مطامح في سورية، ورأى أنه لا يجوز أن يُعقد مؤتمر كهذا، بينما الدولة منهمكة في الحرب «الطرابلسية» ضد الجيش الإيطالي الزاحف لاحتلال طرابلس الغرب.

بعد الحرب العالمية الأولى، كان أرسلان من أوائل الذين دعوا إلى إنشاء جامعة عربية، كما روى أحمد الشرباصي نقلا عن حبيب جاماتي، وكان من أوائل الذين شرحوا معاني «الوحدة العربية»، في محاضرة شهيرة له في النادي العربي بدمشق، بتاريخ 20 / 9 / 1937، قال فيها: «إن العرب فيهم النجابة والصلابة وخفة الحركة، وحدة الذهن، وتمام القابلية لكل ما يرقّي الأمم، وفيهم مع ذلك العدد الجم الذي يجعلهم من أكبر الأمم، إذ يبلغون في هذا العصر نحوا من سبعين مليون نسمة بين آسية وإفريقية».

ولعل موقف أرسلان من فلسطين والقدس بالذات، فيه المثال على الترابط بين الإسلام والعروبة في أعماقه، فهو من القلائل الذين وصفوا مشاعرهم إزاء سقوط القدس، يوم دخلها الجنرال اللنبي على رأس الحلفاء، بتاريخ 9 / 12 / 1917، دخول «الظافرين»، رافعا رايات الجيوش الحليفة كلها، إلاّ الراية العربية «الحليفة»، فقال: «كان سقوط القدس الشريف في يد الجيش الإنجليزي أثناء وجودي في برلين فبقيت أياما لا أعي من الغم لذهاب هذا البلد المقدس من يد الإسلام بعد أن بذل المسلمون ما بذلوا من دماء وأموال حتى استخلصوه من أيدي الصليبين».

لمّا عاد أرسلان إلى وطنه الأصغر، لبنان، سنة 1946، كان يعاني من المرض، وقد توفي بعد شهرين من عودته، وقد رُوي عنه أنه قال في ساعاته الأخيرة إنه لا يقلقه شيء وهو على وشك أن يلقى ربه كما يقلقه مصير فلسطين! أما بشأن «جامعة الدول العربية» الحديثة الولادة، فقال «أن لا خير أبدا أن تكون بريطانيا هي الساعية في إيجاد الجامعة».

جهاده في الميدان

لم يكتف أرسلان بنصرة الدولة العثمانية بالقلم والدعوة، بل نصرها في ساحات الحرب. كانت المرة الأولى سنة 1911، لمّا أغارت إيطاليا على طرابلس الغرب وبنغازي، فسارع إلى الدعوة للجهاد وجمع المتطوعين من المحاربين الأشداء من بني معروف، وإلى الاتصال بأصدقائه في مصر وفي الآستانة، بهدف إعانة المقاومة بالسلاح والأموال.

كانت رحلة أرسلان إلى طرابلس الغرب طويلة وشاقة، فهو غادر لبنان عن طريق دمشق - السلط - القدس - غزة، حيث انتظر توارد العساكر المتنكرة. لكن جاء الأمر للإنجليز بإعادته من العريش، فاضطر إلى العودة إلى يافا، ومنها ركب البحر إلى مصر، ومن الاسكندرية ركب القطار حتى المحطة الأخيرة، ثم ركب ومن معه من المتطوعين الخيل، وهم يسوقون ستمائة جمل محمل بالأرزاق إلى المجاهدين في الجبل الأخضر، وإلى البعثات الطبية المصرية.

التحق بمعسكر أنور باشا في درنة، حيث بقي خمسة أشهر، وحضر بعض المعارك الحربية، وبقي في أحد الأيام مع أنور ومصطفى كمال (أتاتورك)، جالسين وراء متراس، بينما الشظايا تتساقط من حولهم، ثم التحق شهرين بمعسكر عزيز علي المصري أمام مدينة بنغازي.

ذهب في المرة الثانية للقتال، سنة 1916، من أجل حماية ترعة السويس، وكان الجيش العثماني بقيادة جمال باشا قد وصل إلى مصر من فلسطين وسيناء، ومن بعده وصل أرسلان على رأس قوة من المتطوعين، لكنه ما أن وصل برجاله، حتى علم أن المعركة قد انتهت بهزيمة الجيش العثماني أمام الإنجليز، فقد بادر العثمانيون بالضرب منذ وصولهم إلى الترعة، غير أن الإنجليز ردوا عليهم بعنف، وصدوهم.

لم يكن شكيب أرسلان رجلا عسكريا، لكنه كان مسلما مؤمنا وعربيا صادقا، كان مجاهدا مستعدا لحمل السلاح والدفاع عن دولة الإسلام، وعن المسلمين، في أي مكان. وقد سألوه يوما عمّا يفعله في ما لو قضت الحال أن يسافر إلى أقصى بلاد العرب في سبيل الأمة، فأجاب من غير تردد: «أسافر في الحال راكبا ناقة».

دفاعه عن حقوق الإنسان

وقف أرسلان خلال الحرب الكبرى، ضد محاولة إجبار الأرمن المسيحيين من قبل الأتراك العثمانيين على اعتناق الإسلام، ووقف الموقف نفسه حين تعرّض المسلمون في المغرب العربي للاضطهاد الديني بعد صدور «الظهير البربري» (16 / 5 / 1930)، القاضي بتطبيق سياسة فرنسا الاستعمارية في تنصير البربر. كان من كبار المجاهدين ضد هذا المرسوم الظالم، لا من المنطلق الديني، فحسب، بل أيضا من المنطلق الإنساني، ومن المنطلق الوطني، موليا جانب حرية الإنسان المكان الأول، وكتب في مقالة له في مجلة «العرب» المقدسية، في مايو/ أيار 1933:

«... إن بعض رؤساء البربر جاءوا إلى الرباط يحتجون على إلغاء المحاكم الشرعية فأبقوهم في السجون وكان لبعض قواد البربر أولاد يقرأون العربية في فاس فأنذروهم بإخراج أولادهم من المدارس العربية أو يقطعوا رواتبهم... ولنفرض أن البربر تنصّروا وهو أمر بعيد الوقوع فلن ينقلب البربري إفرنسيا كما يظن بعض رجال فرنسا بل يبقون بربرا وطنيين متمسكين باستقلال بلادهم».

أمّا عن انتهاكات الطليان فكتب رسالة من جنيف إلى السيد رشيد رضا، بتاريخ 12 / 4 / 1931، جاء فيها:

«... أمّا الثمانون ألف عربي الذين اغتصبوا أراضيهم في الجبل الأخضر، وأجلوهم إلى فيافي سرت، فقد ماتت كل مواشيهم من قلة الماء والكلأ، فعينوا لكل عائلة في النهار فرنكين فقط، وهم يموتون جوعا وبردا لأنهم بالعراء، وكل مقصد الطليان هو محوهم، حتى لا يعودوا إلى الجبل الأخضر الذي يريدون إسكان المئات من الألوف فيه من الطليان... ثم إنهم أخذوا جميع رجالهم من سن 15 إلى سن 40 للعسكرية، والأولاد من سن 3 إلى سن 14 أخذوهم جميعا برغم والديهم إلى إيطالية بحجة تعليمهم... وكان لأخذ هؤلاء الأولاد رغما صراخ ملأ الفضاء ومشهد يفتت الحجارة، وما من سامع...»

وكتب في مقالته «الحلفاء يموهون على الناس» في فبراير/ شباط 1940، معددا فظائع فرنسا في المغرب العربي، من قمع التظاهرات، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتلهم، والقبض على سبعة آلاف اتهموهم بـ «الشغب»، وقال:

«... حاكموا منهم ألفين وخمسمائة فحكموا على بعضهم بالحبس سنتين مع الأشغال الشاقة... وساقوا إلى الصحراء نخبة أدباء فاس وتلاميذ جامع القرويين وهناك بحجة الأشغال الشاقة عذبوهم عذابا نكرا وكانوا يضربونهم كل يوم ضربا مبرحا ويهينونهم ويشتمونهم واستمر عذابهم على هذه الحالة شهرا من الزمن إلى أن مات الأستاذ الشيخ محمد القري من شدة الضرب... وكل هذا قام به ضباط إفرنسيون بأمر الجنرال نوغيس نفسه...» هل من عجب بعد هذا أن يصرح ضابط فرنسي كبير بقوله: «عندما تقع حرب أوربية ينبغي قبل كل شيء أن يزحف الجيش الفرنسي إلى جنيف، ويقبض على شكيب أرسلان»!

«الثلاثية» في مسيرته

يصعب الفصل في حياة شكيب أرسلان بين العناصر الثلاثة التي تحكمت في مسيرة حياته، وهي رحلاته، وصداقاته، وكتاباته، فهناك تداخل متواصل في ما بينها، إلى الحد الذي جعله يقول: «والمرء في التأليف كما في جميع حركاته في هذه الدنيا مسيّر غير مخيّر».

كانت أولى رحلات شكيب أرسلان إلى مصر والآستانة في أول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وقد نزل في مصر ضيفا على الشيخ محمد عبده، الذي قال عنه: «وكان هو الشيخ محمد عبده يزورنا في بيتنا في الشويفات وبالاختصار رأينا في ذلك الرجل لا عالِما فقط بل عالَما (بفتح اللام) لم نعهد رؤية مثله من قبل».

وفي منزل الشيخ الإمام تعرف على كبار رجالات مصر، كسعد زغلول الذي أصبح زعيم مصر الأكبر، وأحمد زكي باشا؛ أمّا في الآستانة فكانت لقاءاته مع السيد جمال الدين الأفغاني نهاية سعيدة للمراسلات السابقة بينهما، واستمرت صداقتهما حتى وفاة الأفغاني سنة 1897، وكان من أفضل من كتب عن الأفغاني (في حاضر العالم الإسلامي) حيث كشف عن حقائق لم تكن تعرف من قبل.

كذلك استمرت صداقته مع الشيخ الإمام محمد عبده حتى وفاته، سنة 1905، ومع خليفته السيد رشيد رضا، حتى وفاته سنة 1932، وقد تبادلا معا ما بين جنيف والقاهرة عشرات الرسائل، وكانت ثمرة الصداقة كتابه «السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة» (1937).

أما كتابه «شوقي أو صداقة أربعين سنة» (1936)، فكانت بدايته صداقة وطيدة بين الرجلين انطلقت من باريس، لما قصدها أرسلان للاستشفاء سنة 1892، وكان أحمد شوقي أول شهرته بالشعر، فلمّا أصبح «أمير الشعراء»، ونشر ديوانه «الشوقيات»، ذكر أن اسم الديوان كان اقترحه عليه أرسلان.

شملت رحلات أرسلان القسم الأكبر من الدول العربية، والعديد من الدول الغربية التي زار بعضها عدة مرات، وأقام في بعضها الآخر لمراحل، وكان من بين العواصم التي أقام فيها وتعلم لغتها برلين، التي كانت له فيها علاقات متينة مع كبار المسئولين الألمان، والتي أسس فيها «جمعية الشعائر الإسلامية»؛ وربما البيت الوحيد الذي اشتراه في حياته كان بيته في برلين. وكانت له رحلات متعددة إلى بريطانيا، وروسيا، وإيطاليا، وأمريكا الشمالية، وإسبانيا، وسويسرا التي أصبحت مقرا له.

في أعقاب الحرب الكبرى أخذت عدة دول تطارده من مكان إلى آخر، منها تركيا «الجديدة» لحملته ضدها بعد أن تنكرت للخلافة والإسلام، وإنجلترا لمحاربته لها كدولة مستعمرة، وفرنسا لدفاعه عن سورية والمغرب العربي، كذلك منع من دخول لبنان وسورية ومصر وفلسطين، سنوات طويلة.

ليست مهمتنا في هذه الصفحات البحث عن عبقرية المؤرخ والشاعر والكاتب في «أمير البيان»، بل البحث عن الرجل الإنسان، وكتاباته كلها تنضح بالانسجام بين خواطره ومشاعره وإيمانه، وبين قلمه الباحث في أعماق التاريخ، وفي أصول الدين، وفي المظالم التي يجابهها المسلمون. كانت كتاباته، في معظمها، تنبع من وحي الزمان أو المكان أو الإنسان. ونذكر أربعة أمثلة فقط، للدلالة على التوحد بين تجاربه، وجهاده، ومؤلفاته.

نذكر كتابه «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، الذي كتبه، سنة 1929، بينما كان في أيام النقاهة في مدينة الطائف، فكتب خواطره التاريخية والاجتماعية والعمرانية بأسلوبه الكشاف وتتبعه الأخاذ، وأحاط بمشروعات الحجاز ومشروعات التطور. ونذكر كتابه «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية»، الذي كتب منه ثلاثة أجزاء في الحرب العالمية، وكان قد «حج» إلى الأندلس، سنة 1930، فطاف فيها، يتنقل بين أعاجيب الفن الإسلامي الرائع، ويبكي. كذلك كتب من وحي الأندلس كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» (1930). أمّا فصوله وتعليقاته في «حاضر العالم الإسلامي»، تأليف المؤرخ الأمريكي لوثروب ستودارد، وترجمة عجاج نويهض (1925)، فقد فاقت الكتاب الأصل، حجما، وأهمية، سواء في تاريخ الإسلام والمسلمين، أو في حاضرهم وجهادهم ضد المستعمرين، وهو الذي كان واحدا من المجاهدين الكبار، وفي هذا كله ما يؤكد على أهمية «الثلاثية» في مسيرته.

 

بيان نويهض الحوت