القانون الحديدي للأوليجاركية ..!

القانون الحديدي للأوليجاركية ..!

أما " القانون الحديدى" فهو قانون خاص بالتنظيمات الاجتماعية والسياسية "اكتشفه" روبرت مايكلز (1876- 1936) Robert Michels فيلسوف الاجتماع والسياسة، وعالم الاقتصاد الألماني- الإيطالي أثناء دراسته لمذهب النخبة أو الصفوة Elitism- والقانون حديدي لأنه لا استثناء فيه، بل ينطبق على التنظيمات السياسية بصرامة تامة. ولقد كان ذلك "الكشف " يعني الاسهام مساهمة كبرى في علم الاجتماع السياسي، كما يرى بعض الباحثين، بالنظرية التي عرضها في كتابه الشهير "الأحزاب السياسية" Political Parties الذي أصدره عام 1911 فاشتهر بأنه مبتكر "القانون الحديدي للأوليجاركية".. الذي ننوي أن نعرض له في هذا المقال.

على الرغم من أن "مايكلز" ألماني الأصل- فقد ولد فى مدينة " كولون Cologne" في شمال غرب ألمانيا على نهر الرين، فإنه قضى معظم حياته في إيطاليا، تعلم فى جامعة تورين Turin في شمال غرب إيطاليا ، ثم أصبح معلما طوال حياته بالجامعات الإيطالية. كما أنه تأثر تأثرا قويا بفيلسوفين من فلاسفة السياسة والاجتماع الإيطاليين الأول هو: "جاتيانو موسكا " 1858- 1941" Gaetano Mosca الفيلسوف السياسي وعالم الاجتماع الإيطالي، وأستاذ القانون الدولي في جامعة تورين من 1895- 932 1. والثاني هو "فليفردوباريتو 1932-1848(" Vilfredo pareto) أستاذ الاجتماع الإيطالي وعالم الاقتصاد الذي درس الاقتصاد السياسي، وظاهرة التوازن الاقتصادي بصفة عامة وأراد تعميمها على الظواهر الاجتماعية.

علم النخبة

ولقد اهتم الاثنان معا بنظرية النخبة أو الصفوة Elitism وهو نظرية سياسية تدعو إلى إقامة نظام سياسي هو ما يسمي "علم النخبة" أو النخبة الحاكمة ، على أساس أنه الشكل الوحيد الممكن في العصر الحديث. وقد ذاعت نظرية النخبة في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، بتأثير تطور الفكر السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت، حتى أصبح "روبرت مايكلز" الشارح الأكبر لها، وهي تقترح ضرورة التسليم بأن في كل مجتمع فئتين: فئة عبارة عن النخبة أو الصفوة وهي قليلة العدد، وهي التي تتولى الحكم. وفئة كبيرة العدد وهي الفئة المحكومة. ولقد بررت هذه النظرية وجود النخبة الحاكمة وأكسبتها شرعية على أساس أنها نتاح طبيعي لبناء القوة في أي مجتمع، وأن الصراع السياسي مصدره الخلافات التي يمكن أن تنشأ بين النخبة الحاكمة والنخب الأخرى أو المحتملة !

غير أننا لسنا معنيين هنا بتفسير "مايكلز" لفكرة النخبة أو الصفوة وشرحه لعلاقتها بالجماهير، بل إن ما يهمنا، أساسا، هو ما يذهب إليه من أن هناك ظاهرة عامة تسود التنظيمات السياسية وهي أن الديمقراطية لابد أن تتحول إلي أوليجاركية، وبالتالي فإن: قيام الديمقراطية مستحيل. ذلك لأن التنظيمات السياسية، في رأيه، قد تنشأ نشأة ديمقراطية قائمة على المساواة، لكنها تتحول بمرور الوقت إلى تنظيمات خاضعة لحكم قلة من الأفراد يتحكمون في مواردها لخدمة أغراضهم الخاصة!

ولقد قام "مايكلز" بتحليل الأحزاب الاشتراكية في أوربا، وانتهـى إلى أنه ليس من الغريب أن تكون الأحزاب المحافظة ذات طابع ارستقراطي وأوليجاركي، مادامت أنها لا تلتزم التزاما واضحا بمصالح الجماهير، ومعنى ذلك أن هناك "نخبة" أو صفوة معينة تميل إلى التحكم في التنظيمات السياسية، مبتعدة بذلك عن تحقيق الديمقراطية الحقة.

من الديمقراطية إلى الأوليجاركية

ويعتقد مايكلز أن هناك أسبابا كثيرة تميل بالتنظيمات السياسية في المجتمع، ومنها النظام الديمقراطي، إلى التحول إلى الأوليجاركية وسوف نكتفي منها بالأسباب الخمسة الآتية :

أولا: أن حجم التنظيمات السياسية وتعقدها يستدعي وجود وظائف متخصصة مما يجعل من المستحيل على الأعضاء العاديين، أو أفراد الشعب "في حالة الديمقراطية" أو أعضاء أي تنظيم متابعة ومراقبة "المتخصصين" الذين يتخذون القرارات الرئيسية في الحزب أو التنظيم بمبادرة شخصية منهم، بحيث يقفون على مجريات الأمور بطريقة مباشرة .

ثانيا: إذا كانت هناك ميول شخصية غريزية لدى الإنسان تدفعه إلى أن يحرص: على أن ينقل ممتلكاته الخاصة- إلى الورثة الشرعيين، فإن هناك تلك الميول نفسها التي تدفعه أيضا إلى نقل السلطة السياسية التي يتمتع بها أبنائه من بعده. وعلى الرغم من أن هذه غريزة في الإنسان، فإنها تنمو وتتطور ، وتتدعم من خلال النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة.

ثالثا: إذا كانت الديمقراطية تعني مشاركة الشعب في الحكم ، أعني مساهمة كل أعضاء التنظيم السياسي فى إصدار القرارات فإن مشاركة هؤلاء الأعضاء مستحيلة بعد أن أصبحت الدولة الحديثة هائلة العدد معقدة التركيب، ذات تنظيمات سياسية ضخمة. وفضلا عن ذلك فإن المشكلات السياسية نفسها، قد وصلت إلى درجة من التعقيد يصعب على المواطن العادي تتبعها، بل يحتاج معرفتها إلى تخصص وخبرة ومعرفة واطلاع واسع ودراية ليست متوافرة لدى الغالبية العظمى من الشعب.

رابعا: لدى الإنسان ميل غريزى يدفعه إلى السعي نحو امتلاك السلطة والقبض على مقاليدها، وما أن يتسنى له ذلك، فتتاح له فرصة الحصول على السلطة حتى يسعى إلى تدعيمها بشتى الطرق. ومن هنا فإنه إذا كانت الديمقراطية تتطلب وجود تنظيم سياسي ، فإن هذا التنظيم السياسي سوف يتحول في الحال إلى الديمقراطية، ويؤكد "مايكلز" أن هذا الاستنتاج يرقى إلى مرحلة القانون السوسيولوجي وهو قانون لا يسمح بأي استثناء، كما أنه صارم في انطباقه على الظواهر الاجتماعية.

خامسا: أن الناس، فيما يقول "مايكلز، لديهم حاجة سيكولوجية داخلية تدفعهم إلى أن يصبحوا منقادين بواسطة قائد، وهكذا نراه ينظر إلى جماهير الشعب على أنها ذرات غير منتظمة، عاجزة عن الفعل الجمعي ما لم تقدها الأقلية النشطة. وهو بذلك لا يصف جماهير الناس بالفتور واللا مبالاة فحسب، بل أيضا بالميل إلى الانضواء تحت لواء قائد قوي وتوقيره بل إضفاء القدسية عليه أحيانا!

وهكذا تصبح الأوليجاركية محصنة ومنيعة بل و"حديدية"! والتغيرات التي تحدث في القيادة عن طريق إزاحة النخبة أو الصفوة واستبدالها، تصبح أقل من التغيرات التي تحدث نتيجة لامتصاص أعضاء جدد في الأوليجاركية القائمة.

استحالة الديقراطية

وعلى هذا النحو يحلل "مايكلز" التنظيم السياسي ويعرض "القانون الحديدي للأوليجاركية" وخطورة هذا القانون أنه ينتمي إلى القول بأن الديمقراطية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة "مستحيلة"! ولقد تابع "مايكلز" على نحو أبعد- في كتاباته المتأخرة- تحليلاته السياسية عارضا أفكاره عن "سمو النخبة" و"تفوق الصفوة"، مبرزا إذعان الجماهير وميلها إلى الاستسلام ، من الناحية السيكولوجية، والسير في اتجاه معاد للديقراطية على طول الخط، حتي انتهى الرنجل إلى أن يصبح نصيرا واضحا للفاشية Fascism ومؤيدا واضحا للبندتو " موسوليني" على نحو لم يفعله "موسكا Mosca" نفسه!

وهكذا قام "مايكلز" بتفجير ما أسماه "بوهم الديمقراطية"، اعتمادا على أن الديمقراطية في أعلى صورها تقوم علي المساواة بين أعضاء الجماعة، وعلى المشاركة المستمرة والتامة، من جانبهم، في توجيه الجماعة والتخطيط لها،. إلخ مع أن ذلك كله " وهم " لا أساس له إن التمثيل النيابي، والحكومات النيابية، والبرلمانية.. وغيرها لا تعبر عن الديمقراطية في شيء لأن جوهرها في الواقع هو الأوليجاركية!

وفي النهاية: ماذا نقول في أمر هذا القانون الغريب؟! نقول إنه على الرغم من صحة الفكرة العامة التي يقول بها "مايكلز"، فإننا لا نستطيع أن نوافقه على أن كل نظام ديمقراطي ، بل كل تنظيم سياسي ، لابد أن ينقلب إلى "أوليجاركية" وفقا لقانونه الحديدي! صحيح أن لـ"مايكلز" الفضل في التنبيه بقوة إلى أن هناك خطرا دائما من وقوع الديمقراطية في قبضة هذا القانون، لا سيما أن الإلف والعادة كثيرا ما تجعل الناس تميل إلى الكسل، وعدم الاهتمام، كما تجرفهم دوامة الحياة إلى اللامبالاة، والإذعان والاستسلام .. الخ.

وتلك محمدة نحمدها لهذا القانون بغير شك، لكن التوعية المستمرة ، والحرية التي يتمتع بها قادة الفكر في أي بلد ديمقراطي ، يمكن أن تحذر الناس باستمرار من خطر وقوع الديمقراطية في قبضة هذا القانون الرهيب الذي ينسف في النهاية عصب الديمقراطية ، وهو أن يشارك الفرد في حكم نفسه، وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه!

ثم إن مشاركة الفرد في حكم نفسه لا تعني، بالضرورة، الديمقراطية المباشرة على نحو ما كانت تمارس في أثينا، وإنما هي الحكم عن طريق الممثلين النيابيين، وإذا كان هؤلاء في رأي مايكلز يتحولون إلى أوليجاركية، بل إذا كانت الأوليجاركية تظهر من داخل المجلس النيابي نفسه وتمارس ضربا من السلطة على بقية الأعضاء، فسوف تظل الفكر الأساسية التي تعتمد عليها هي أن السلطة تستمد من الشعب. وأن جوهرها يكمن في مراقبة تصرفات الحكومة وما تتخذه من قرارات. ولا يشترط أن يقوم بهذه الرقابة جميع أفراد الشعب بل يكفي أن يقوم بها بعض الأفراد عن طريق مؤسسات معين وتعلنها للجميع كما هي الحال في الصحافة ، والإذاعة، والتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام، ومن هنا فقد سميت الصحافة بـ"السلطة الرابعة" لما تقوم به من دور بالغ الخطورة في مراقبة الحكومة وتقييم ما تتخذه من قرارات ، ولصالح من تتخذ؟ وليس بخافٍ أن فضيحة "ووترجيت" في الولايات المتحدة فجرها صحفي واحد وأعلنها للجميع فأحدثت ضجة كبرى، وكان لها نتائج خطيرة! وقل مثل ذلك في في "الفضائح المالية" أو "التجس" أو علاقة الوزراء بالبغايا، أو إهدار المال العام ... إلخ.

سيكولوجية النظم السياسية

لقد اعتمد " مايكلز " في تحليله لكثير من النظم السياسية على جوانب سيكولوجية طورها فيما بعد اريك فروم Erich Fromm
"1900- 1980" في دراسته القيمة التي عرضها في كتابه الشهير " فرار من الحرية EScape From Freedom " حيث قام بتحليل الشخصية المازوخية التي ترتكز أساسا على "الخوف"، وتمتليء رعبا من الشعور بالحرية، ومما تحمله من عبء الجرية، الذي يعني المسئولية في النهاية، فتعمد إلى التخلص من عبء الذات نفسها بأن يسعى الفرد للخضوع لشخص آخره هو "القائد" أو "الزعيم "، أو يحاول أن يصبح جزءا من كل أكبر وأعظم وأشد قوة خارج ذاته وبحيث ينغمس فيه ويتلاشى معه ، وقد يكون هيئة أو مؤسسة.. إلخ.

غير أن "فروم" في الواقع كان يحلل العلاقة " السادومازوخية " أي بين الشخصية السادية "شخصية القائد المتسلط " وشعبه المازوخي المستسلم، وهي العلاقة التي رأى أنها كانت قائمة في ألمانيا النازية بعد أن تولى هتلر "1889- 1945" السلطة، وهو شخصية "سادية متسلطة" ، وكذلك على نحو ما كان قائما في إيطاليا بعد أن تولى موسوليني "1883-1945" مقاليد الحكم. لكن ليس كل أفراد البشر لديهم هذه النزعة المازوخية، المستسلمة التي تستعذب الألم وتريد لنفسها أن "تذوب" في شخصية قائد!

من أجل توعية سياسية

وفضلا عن ذلك فإنه على الرغم من براعة التحليلات التي قام بها "مايكلز"، فإنها لا تخلو، مع ذلك، من خلط وغموض واضطراب، فلا هي دقيقة، ولا هي واضحة، فهو مثلا لا يفرق بين "المعرفة التقنية"، و "القيادة السياسية" ، وكثيرا ما يختلط عليه أمر الضغوط الداخلية مع الضغوط الخارجية داخل الحزب الواحد. كما أنه فشل في إدراك الكم الهائل من القيادات المتنافسة الذي يمكن أن تخلقه التنظيمات المعقدة. بل إنه في دراسته لضرورة وجود نوع معين من القيادة، لم يفرق بين أنواع القيادة المختلفة "كما هي الحال، مثلا، في قيادة فرقة موسيقية والقيادة الأوليجاركية بمعنى تحكم قلة من الأفراد وتسلطها وفرض سيطرتها على المجتمع. ويعود " مايكلز" ويعود فشل "مايكلز" في التمييز بين هذين النوعين من القيادة، في رأي بعض الباحثين ، إلى تسليمه المسبق بأن أي قيادة- ولو كانت ديمقراطية- لابد أن تتحول في النهاية إلى أوليجاركية وما أشبه ذلك "قانونه الحديدي" بقانون الأطوار الثلاثة عند أوجست كونت Comte الذي أراد أن ينقد به الميتافزيقا، فكان هو نفسه قانون ميتا فيزيقيا!!

ومع ذلك كله فلابد لنا، في النهاية، من أن نعترف بأن الجهود التي بذلها هذا المفكر في دراسة النظم السياسية، والأمثلة التي ذكرها وهو يصوغ قانونه الحديدي تمثل جهدا مشكورا بغير جدال، وهي إنذار قوي يلفت الأنظار إلى ضرورة توعية الناس توعية سياسية مستمرة لممارسة حقهم السياسي، والمشاركة في حكم أنفسهـم، والرقابة المستمرة لا لتصرفات الحكومة فقط بل أيضا للأعضاء النيابيين الذين يمثلونهم في البرلمان. فالديمقراطية في النهاية ممارسة، والتوقف عن ممارستها يقتلها عند الناس.

كما أن " قانونه الحديدي" وجهوده في التحليلات السياسية تمثل نداء قويا إلى المفكرين السياسيين في كل جيل للانتباه جيدا إلى أن الديمقراطية ليست نظاماً مكتملاً وتاما، بل لا تزال ممتلئة بالثقوب والثغرات والمثالب، وأنه سوف تظهر كثرة من المشكلات تبرزها- حتما- الممارسة المستمرة لهذا النظام الوحيد الذي يعمل على احترام البشر وتقدمهم، ومن واجب المفكرين التصدي لهذه المشكلات ومحاولة حلها. إما أن نتصور في يأس أن القانون يجعل "الديمقراطية مستحيلة"، فذلك تخاذل يعني في الحال الفرار من عبء الحرية للوقوع في قبضة الاستبداد.

 

إمام عبدالفتاح إمام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات