التقرير العالمي بشأن العنف ضد الأطفال جرائم معقدة.. لكن حلها ليس مستحيلاً مر

التقرير العالمي بشأن العنف ضد الأطفال جرائم معقدة.. لكن حلها ليس مستحيلاً

«يمثل العنف ضد الأطفال تهديدا رئيسا للتنمية العالمية ولجهودنا من أجل بلوغ الأهداف الإنمائية للألفية.. ولا يمكن أبدا تبرير العنف ضد الأطفال، كما أنه ليس أمرا حتميا، فإذا تحددت أسبابه الأساسية وتم التصدي لها، يمكن الحيلولة دون حدوثه والوقاية منه بصورة كاملة».

هكذا استهل كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة تقديمه للتقرير العالمي بشأن العنف ضد الأطفال الصادر في نهاية عام 2006 هذا التقرير يستهدف توثيق نتائج وتوصيات دراسة الأمين العام للأمم المتحدة لكل أنواع العنف ضد الأطفال، وتعتمد على الدراسة التي أعدتها «جراسا ماشيل» بشأن أثر الصراع المسلح في الأطفال، التي قُدمت إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1996، كما أنها تعتمد في بعض جوانبها على التقرير العالمي بشأن العنف والصحة الصادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2002.

تسعى الدراسة إلى رسم صورة عالمية مُفصلة لطبيعة العنف ضد الأطفال ومدى انتشاره وأسبابه، واقتراح توصيات واضحة للعمل على منعه والتصدي له.

وتهدف هذه الدراسة إلى إحداث نقطة تحول عالمية حاسمة، وهي إنهاء تبرير العنف ضد الأطفال سواء كان مقبولا بوصفه «عرفا» أو كان خفيا تحت ستار «الانضباط». الدراسة التي تقع في 365 صفحة من القطع الكبير تتضمن ثمانية أبواب، أعدها «باولو سيرجيو بنهيرو»، الخبير المستقل الذي عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة لقيادة فريق عمل إعداد الدراسة، بالتعاون مع ثلاث من هيئات ووكالات الأمم المتحدة في جنيف؛ وهي: مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظمة الصحة العالمية.

المفارقة اللافتة التي ينطلق منها الكتاب هي أنه على الرغم من تزايد حجم وأنماط العنف ضد الأطفال، فإن البيانات المتوافرة قليلة جدا، ونادرا ما تعكس مستواه الحقيقي، لكن الإحصاءات الواردة في الدراسة تكشف صورة مذهلة لحجم العنف ومدى انتشاره في كل أنحاء العالم، فعلى سبيل المثال، تقدر منظمة الصحة العالمية أن قرابة 53.000 طفل بين سن الولادة والسابعة عشرة ماتوا في عام 2002 نتيجة القتل. وتحدد الدراسة الفئات الأكثر عرضة للعنف بين الأطفال وذلك لضعف قدرتها على مواجهته أو الإبلاغ عنه، وهذه الفئات هي: الأطفال ذوو الإعاقة، والأطفال بلا مأوى، والأطفال العاملون، والفتيات، والأطفال الذين ينتمون إلى المجتمعات المهمشة أو النائية.

الواقع أن قراءة أبواب الدراسة المختلفة وما تحمله من معلومات وبيانات وإحصاءات عن الظاهرة، بشكل عام، وعن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وجه الخصوص، تدعونا إلى التوقف عند بعض النقاط المهمة والحقائق التي يجب مراعاتها عندما يتناول عالمنا العربي قضية العنف ضد الأطفال. ونستعرض في السطور التالية النقاط الرئيسة التي ركزت عليها الدراسة، وأهم ما احتوته من حقائق وأرقام.

العنف ضد الأطفال في المنزل والأسرة

يتعرض الأطفال في محيط المنزل والأسرة إلى حالات اعتداء وغيره من صور العنف البدني والانتهاك الجنسي، والممارسات التقليدية الضارة، والإذلال وغير ذلك من أشكال العنف النفسي والإهمال، وتتضمن تلك الأشكال- فضلا عن الاعتداء والعنف البدني- حالات اللامبالاة والإهمال، مثل التقصير في حماية الأطفال من التعرض لعنف يمكن منعه، على أيدي أصدقاء، أو جيران، أو زوار؛ وحالات الوصم، أو التمييز الصارخ؛ والتقصير في الاستفادة من الخدمات الصحية وخدمات رعاية الأطفال لتعزيز سلامة ورفاهة الطفل. وقد تشمل فئة مرتكبي العنف في دائرة المنزل: الأبوين، وزوج الأم أو زوجة الأب، وقد تشمل أيضا مقدمي الرعاية الأسرية البديلة، والأزواج أو الزوجات (في حالة زواج الأطفال)، والأصهار.

في تقرير من اليمن، ذكر نحو 90% من الأطفال أن العقاب البدني والمُذل هو الطريقة الرئيسة للتأديب في الأسرة اليمنية، وأن الضرب هو أكثر أشكال التأديب شيوعا. وبشكل عام تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن 150 مليون فتاة و73 مليون فتى دون الثامنة عشرة تعرضوا لعمليات مواقعة جنسية بالإكراه أو لشكل آخر من أشكال العنف الجنسي التي تتضمن الاتصال الجسدي، وأن كثيرا من حالات العنف الجنسي يرتكبها أفراد الأسرة أو أشخاص آخرون يقيمون في منزل الأسرة أو يترددون عليه، وهم أشخاص عادة ما يكونون موضع ثقة الأطفال، وغالبا ما يكونون مسئولين عن رعايتهم. وفي الأرض الفلسطينية المحتلة، أفاد 19% من طلبة إحدى الكليات الذين أُجري عليهم مسح، بأنهم تعرضوا مرة على الأقل لأحد أعمال العنف الجنسي من جانب أحد أفراد الأسرة المباشرين قبل سن السادسة عشرة. وأفاد 36.2% أيضا بتعرضهم للإساءة الجنسية من جانب أحد الأقارب مرة على الأقل، وكانت نسبة هذه الإساءة في مرحلة الطفولة متماثلة بين الذكور والإناث. وكذلك في بعض الثقافات، يُعتبر الشك في فقدان إحدى فتيات الأسرة للعذرية ـ بما في ذلك الفقدان الناتج عن الاغتصاب ـ مهينا ومسيئا لشرف الأسرة، وقد يؤدي ذلك إلى قتلها على يد أحد أفراد الأسرة؛ ففي باكستان، تفيد تقارير منظمات حقوق الإنسان، بأنه في عام 2003 وحده، كان هناك ما يزيد على 1200 حالة من الحالات التي يُطلق عليها «القتل من أجل الشرف». وهو ما يحدث كذلك في الأردن، والهند، والجماهيرية العربية الليبية، والأرض الفلسطينية المحتلة، وتركيا، والعراق، وأفغانستان، وفي البلدان التي توجد فيها جاليات وافدة أصلا من آسيا والشرق الأوسط.

ركزت الدراسة أيضا على الممارسات التقليدية الضارة التي تُمارس ضد الفتيات خصوصا الزواج المبكر وختان الإناث، إذ تقدر منظمة اليونيسيف أن هناك 3 ملايين فتاة وامرأة يخضعن لعملية تشويه الأعضاء التناسلية سنويا وذلك في إفريقيا جنوب الصحراء وفي مصر والسودان.

العنف في المدارس والأوساط التعليمية

العنف الموجود في المدارس يتخذ أشكالا بدنية ونفسية، وعادة ما يحدث هذان الشكلان معا. وتتضمن الأشكال التي يرتكبها المدرسون وغيرهم من موظفي المدارس- سواء بموافقة أو من دون موافقة صريحة أو ضمنية من السلطات التي تشرف على المدارس- عقوبة الإيذاء البدني، وغيرها من أشكال العقاب والمعاملة القاسية والمهينة. أما أشكال العنف الذي يرتكبه الأطفال فتتضمن الترهيب، والعنف الجنسي والعنف المستند إلى النوع الاجتماعي، والشجار في فناء المدرسة، وعنف العصابات، والاعتداء بالسلاح. واللافت أن التكنولوجيا دخلت وسيطًا جديدًا للترهيب، باستخدام شبكة الإنترنت، والهواتف الجوالة، وقد أعطى هذا مجالا لاستخدام مصطلحات جديدة مثل «الترهيب الإلكتروني».

وتشير الدراسة إلى أنه في منطقة الشرق الأوسط لا يتم عادة الإبلاغ عن التحرش الجنسي بالفتيات داخل المدارس والأوساط التعليمية، ربما لأن الفتيات عادة ما يكنّ مفصولات عن الفتيان في المدارس، أو ربما بسبب عدم رغبة الفتيات في الحديث عن ذلك.

كما تكشف ارتفاعًا لمستوى تعرض الأطفال -الذين يعانون من صعوبات في التعلم - للوقوع ضحايا للترهيب أو لمرتكبيه سواء في المدارس أو خارجها.

العنف ضد الأطفال في نظم الرعاية والنظم القضائية

في أرجاء العالم يوجد ما يناهز ثمانية ملايين فتى وفتاة يعيشون في مؤسسات الرعاية، وفي الشرق الأوسط كان هناك ما يزيد على 25 ألف طفل قيد الرعاية المنزلية في الفترة بين عامي 1999 و2000 في لبنان، بينما في المغرب كان هناك نحو 25300 طفل في الرعاية المنزلية بين عامي 1999 و2000.

إن العنف ضد الأطفال في أثناء وجودهم في مؤسسات العدالة أو الاحتجاز ـ في أماكن احتجاز الشرطة، أو السجون بما فيها السجون المخصصة للبالغين، والمدارس الإصلاحية، وغيرها من الأماكن التي يُحتجز فيها الأطفال المخالفون للقانون ـ أكثر شيوعا من العنف ضد الأطفال الذين يودعون في مؤسسات توفر الرعاية فقط. وتفرض المعاملة المؤسساتية للأطفال الذين يُنظر إليهم باعتبارهم غير اجتماعيين أو مجرمين، عقوبات بدنية ونفسية أشد من العقوبات التي تلقاها مجموعات أخرى أو تقع في بيئات أخرى. وتشير بعض المصادر إلى وجود أكثر من مليون طفل محرومين من حريتهم في أرجاء العالم، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة تم اعتقال 1400 طفل فلسطيني من قبل سلطات الاحتلال العسكرية الإسرائيلية ما بين عام 2000 وعام 2004، وأوضحت إفادات الأطفال الفلسطينيين المحتجزين بأن معظمهم تعرض لواحد أو أكثر من أشكال سوء المعاملة خلال فترة اعتقالهم واستجوابهم بما في ذلك التحرش الجنسي والتهديدات البدنية والنفسية.

وتطرقت الدراسة أيضا إلى استخدام ما يُعرف «بالاحتجاز الوقائي» الذي يؤثر في الفتيات اللاتي يكن في معظم الحالات ضحايا للاستغلال الجنسي والإساءة الجنسية. ويكون الاحتجاز بغرض حماية الفتيات اللاتي تعرضن للإساءة الجنسية أكثر حدة وشدة، ولاسيما في البلدان التي تُمارس فيها جرائم القتل من أجل الشرف.

أظهرت الدراسة أنه على الرغم من حظر عقوبة الإعدام بموجب القانون الدولي وحظر عقوبة الإيذاء البدني بوصفه حكما قضائيا بحق الأطفال المدانين بجرائم في 177 دولة ومنطقة، فإن بعض الدول مازالت تجيز عقوبة الإعدام على جرائم ارتكبها الأطفال، ولا تزال 31 دولة ومنطقة تجيز عقوبة الإيذاء البدني إذا كانت بحكم قضائي ضد الأطفال. ومنذ عام 1990 سجلت منظمة العفو الدولية 39 حالة إعدام للأطفال المدانين في ثمانية بلدان هي: الصين، والكونغو الديموقراطية، وإيران، ونيجيريا، وباكستان، والمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية، واليمن.

العنف ضد الأطفال في أماكن العمل

أما في أماكن العمل فتشمل أشكال العنف ضد الأطفال الأكثر شيوعا في مكان العمل العنف البدني (الضرب والركل والصفع والضرب بالسياط والحرق بسائل مغلي، وقد تصل في الحالات المفرطة إلى القتل)، والعنف النفسي (الصياح والتوبيخ والإهانة والتهديد والألفاظ البذيئة والترهيب والمهاجمة والعزل والتهميش)، والعنف الجنسي (التحرش الجنسي والمداعبة والاغتصاب). وتقدر منظمة العمل الدولية أن 218 مليون طفل دخلوا سوق عمل الأطفال في عام 2004، منهم 126 مليونا اشتغلوا في أعمال خطرة. وتشير التقديرات الدولية لمنظمة العمل الدولية لعام 2000 إلى وجود ما يقرب من 8.4 مليون طفل يعملون في أسوأ أشكال عمالة الأطفال وهي غير مصرح بها لأي طفل دون سن الثامنة عشرة، من بينهم 1.2 مليون طفل ضحية للاتجار بالأشخاص، و5.7 مليون طفل ضحية للسخرة أو العمل القسري، و300 ألف طفل مشاركين في قوات محاربة، و1.8 مليون طفل يعملون في البغاء والمجالات الإباحية، و600 ألف طفل يعملون في أنشطة محظورة مثل الاتجار بالمخدرات.

العنف ضد الأطفال في المجتمع

قدمت الدراسة حالة الطفل الفلسطيني في الأراضي المحتلة مثالا على العنف ضد الأطفال في حالات الصراع المستمر والعنف السياسي، وأوضحت أنه على مدى أربعة عقود من الصراع تأثرت حياة الأطفال الفلسطنيين في الأرض الفلسطينية المحتلة. وتدهورت بشكل حاد مؤشرات التنمية وحقوق الإنسان للأطفال، الذين يشكلون 53% من مجموع السكان، منذ بدء الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000؛ فعلى سبيل المثال، في عام 2005 كان 42.1% من الأطفال الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر.

من أجل عالم أفضل للأطفال

وبعد هذا الاستعراض الواسع تضمنت الدراسة عددا من التوصيات والخطوط العامة للإجراءات التي يجب أن تتخذها كل الدول للوقاية من العنف والتصدي له بفاعلية. وتخاطب الحكومات أساسا وتشير إلى مهامها التشريعية والإدارية والقضائية والمؤسسسية، وتؤكد حظر كل أشكال العنف ضد الأطفال، وتقوية الالتزام والعمل الوطني والمحلي من خلال صياغة استراتيجيات أو خطط عمل وطنية واقعية ومحددة المدة الزمنية.

وعلى الصعيد الدولي، أوصت الدراسة الحكومات بتعيين ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة، معنيّ بالعنف ضد الأطفال للعمل داعية عالميا رفيع المستوى للدفاع عن حقوق الطفل ولتعزيز الوقاية من العنف ضد الأطفال.

سؤال ملحّ

مما يلفت الانتباه في الدراسة أنها أغفلت العنف الناجم عن النزاعات المسلحة بدعوى تناوله في دراسة «جراسا ماشيل» التي تناولت أثر النزاع المسلح منذ أكثر من عشر سنوات. ولاشك أن وضع الاحتلال الذي تعاني منه فلسطين والعراق وغيرهما من الدول العربية قد انعكس على وضع الأطفال بشكل مركب، إذ جاءت جرائم الاحتلال لتضيف مظاهر أشد قسوة إلى مظاهر العنف الأخرى التي يعاني منها سائر الأطفال في العالم العربي والعالم. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه دائما: هل سيتم تفعيل التوصيات التي خرجت بها هذه الدراسة التي حظيت بكثير من الانتباه والاهتمام الدولي؟. إذ من الواضح أن المجتمع الدولي يكون بارعا في تحليل الظواهر بصورة شاملة ودقيقة، ووضع الاستراتيجيات والسياسات لمعالجتها والقضاء عليها، ولكنه يستغرق وقتا طويلا في تنفيذ الحلول على أرض الواقع. بالطبع نتمنى أن تسهم هذه الدراسة في مناهضة العنف ضد الأطفال، وأن يتم بالفعل تنفيذ التوصيات وتفعيل القوانين والتشريعات الموجودة بحيث يتم تطبيقها على أرض الواقع، وألا ينتهي بها الحال إلى أن تكون مجرد إضافة إلى إصدارات المكتبة الدولية للأمم المتحدة التي تضم كثيرًا من القرارات والمعاهدات والاتفاقيات والتوصيات غير المفعلة التي لا تخرج إلى حيز التنفيذ!.

 

مروة هاشم