تجنيس كتابة الماغوط

تجنيس كتابة الماغوط

من الجدير بالذكر أن العام نفسه الذي نشرت فيه مجلة "شعر" دراسة خالدة سعيد عن الماغوط شهد نشر كتاب سوزان برنار عن "قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم" في باريس، ذلك الكتاب الذي تلقفه، فور صدوره، المتصلون بالثقافة الفرانكفونية في جماعة "شعر" ووجدوا فيه الأساس النظري الذي يمكن أن يعتمد عليه، سواء في التميزعن أقرانهم داخل الجماعة، أو البحث لتجاربهم عن تبرير نظري يدفع بها إلى صدارة الاهتمام والقيمة، ومن ثم يحسم بعض القضايا الفنية التي لم تكن قد حسمت بعد. وبدأ الأمر بمبادرة أدونيس الرائدة الذي سارع إلى كتابة الدراسة التأصيلية الأولى بالعربية عن قصيدة النثر، فيما أعلم، في العدد الرابع عشر من المجلة الصادر في ربيع 1960، معترفا بإفادته البالغة من سوزان برنار، ومستهلا المحاولة التي واصلها أنسي الحاج في العام نفسه يالمقدمة التنظيرية "الأقرب إلى البيان" التي صدر بها مجموعته الأولى من قصيدة النثر، وهي مجموعة "لن" التي صدرت عن دار مجلة "شعر" في ديسمبر 1965. ومنذ ذلك الوقت، تحديدا، بدأ اصطلاح "قصيدة النثر" يفرض نفسه على مجلة "شعر"، وتتخذ الكتابة عنه منحى موازيا للكتابة عن الشعر الحر ولاحقا عليه بالطبع.

ولكن ذلك لا يعني أن مجلة "شعر" لم تشهد، قبل العام 1960، تجارب أعضائها في كتابة "قصيدة النثر" حسب النماذج التي عرفوها في الشعر الفرنسي الذي تأثروا به وترجموا قصائده. لقد بدأت تجليات هذه القصيدة في الظهور مع مستهل السنة الثانية للمجلة، شتاء 1958، في العدد نفسه الذي افتتحته قصيدتا الماغوط: "حزن في ضوء القمر" و"الخطوات الذهبية". وكان ذلك حين نشر أنسي الحاج "ثلاث قصائد" ذيلها بتاريخ الكتابة: 1956- 1957، وحرص على طباعتها بطريقة قصيدة النثر الفرنسية، الطريقة نفسها التي اتبعتها المجلة، حين نشر أدونيس في نهاية السنة الأولى، خريف 1957، النشيد التاسع من مطولة سان جون بيرس (AMERS) التي صدرت في السنة نفسها. وبعد أنسي الحاج، ينشر أدونيس، في عدد صيف وخريف 1958، قصيدة "وحدة اليأس" التي يمزج فيها بين كتابة التفعيلة والكتابة النثرية، وينتقل من هذا المزج إلى قصيدة "إرواد يا أميرة الوهم" التي تتصدر العدد العاشر من المجلة الصادر في إبريل 1959. وهي قصيدة نثر خالصة "مكتوبة ما بين أكتوبر 1958- 15 أبريل 1959، يبررها أدونيس بتذييل يؤكد إفادته في بنائها الفني، إلى جانب الأسلوب الشعري القديم في فينيقيا وما بين النهرين، من عدة شعراء أوربيين. لكن أدونيس لا ينسب قصيدته هذه إلى نوع قصيدة النثر مباشرة، كما لو كان لا يزال مترددا في استخدام التسمية الفرنسية الأصل. ويبقى كذلك إلى أن يصدر كتاب سوزان برنار، ويفيد منه الإفادة التي يعلنها في دراسته عن قصيدة النثر التي نشرها في عدد ربيع 1960.

الطريف، حقا في هذا السياق، أن انتساب كتابة الماغوط إلى "قصيدة النثر" جاء أول ما جاء على لسان المعارضين للاتجاه الذي أخذ يغلب على مجلة "شعر" مع مطلع سنتهـا الثانية، وتتزايد جذريته في التحرر من قواعد الوزن والقافية عددا بعد آخر. والمفارقة الدالة في السياق نفسه، أن بداية الهجوم لا تقع على التجارب الأولى لأنسي الحاج وأدونيس في قصيدة النثر، وإنما على محمد الماغوط دون سواه، وذلك لاتساع أصداء تأثير كتابته مع تتابع نشرها، خصوصا بعد صدور ديوان "حزن في ضوء القمر" الذي كتبت عنه خالدة سعيد فور صدوره.

وقفة حادة

وأغلب الظن أن دراسة خالدة سعيد لهذا الديوان استفزت العناصر المحافظة في جماعات التجديد الشعري الأقل جذرية، وبخاصة أنصار قصيدة التفعيلة، وعلى أسهم نازك الملائكة التي لم تخل تنظيراتها من نزرع محافظ. وبعد تفاعلات لم تستغرق وقتا طويلا، ومع تصاعد حدة هجوم "الآداب" على مجلة "شعر" التي أخذت تدعو صراحة إلى التحرر الكامل من بقايا الوزن والقافية في الشعر، وتتنبأ بأن الكتابة الشرية الحرة تماما من كل قيد ستغدو كتابة المستقبل، نشرت مجلة "الآداب" في عدد أبريل 1962 دراسة نازك الملائكة عن "قصيدة النثر" ردا على ما دعت إليه مجلة "شعر" بوجه عام ودراسة خالدة سعيد بوجه خاص.

وتقف نازك وقفة حدية في مواجهة ما تسميه بدعة "قصيدة النثر" التي تبنت مجلة "شعر" دعوتها "الركيكة الفارغة من المعنى، وأحدثت حولها ضجيجا مستمرا لم تكن فيه مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية، ولا للأمة العربية نفسها". ولم تشر نازك إلى دراسة أدونيس عن قصيدة النثر أو مقدمة ديوان أنسي الحاج، وإنما إلى دراسة خالدة سعيد التي لم تصف شعر الماغوط بأنه قصيدة نثر بل وصفته بأنه شعر حر. وطبيعي أن ترفض نازك تسمية كتابة الماغوط بمصطلح "الشعر الحر" الذي عملت على إشاعته، لا ليدل على أصل معناه في الشعر الإنجليزي أو الفرنسي، وإنما ليدل على قصيدة التفعيلة دون غيرها. ولذلك تؤكد نازك في دراستها أن كنابة التفعيلة "على نحو ما فعلت هي والسياب والبياتي وصلاح عبدالصبور وغيرهم" شعر حر بكل معني الكلمة، شعر لأنهـا كتابة موزونة تخضع لعروض الخليل وتجري على ثمانية من أوزانه، وحر لأنه كتابة تنوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، متخلصة من قيود العدد الثابت في الشطر الخليلي. وكان من نتيجة ذلك أن استبدلت نازك الملائكة بتسمية "الشعر الحر" التي أعادت إنتاجها تسمية "قصيدة النثر" التي وضعتها موضع الهجوم، ونظرت إلى دراسة خالدة سعيد بوصفها نموذجا للدعوة إليها. ولذلك تقول صراحة إن مضمون دعوى قصيدة النثر هو "ما جاء في مقال كتبته السيدة الأدبية خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ". وتستنكر نازك نفي صفة الوزن عن الشعر في دراسة خالدة عن الماغوط الذي حسبته نازك لبنانيا. وترفض ما فهمته من أن خالدة "خزامى صبري" لا تكتفي برفع النثر إلى مصاف الشعر وإنما تزيد فتزدري الموزون، وتعطي لنثر جماعتها الفضل كله.

ثلاثة أنواع

ولم تمض دراسة نازك الملائكة دون رد من جماعة "شعر" التي كان الصدام بينها وبين جماعة "الآداب" وصل إلى ذروته الحاسمة. ولذلك يأتى العدد الثاني والعشرون "ربيع 1962" بمقدمة طويلة "إلى القارئ" ترد على اتهامات "الآداب" من ناحية، وتوضح التوجهات الأ!ساسية للمجلة وأعضائها من ناحية مقابلة. ويتولى باب "أخبار وقضايا" تفصيل الرد على دراسة نازك الملائكة. وأهم ما يأتي في هذا التفصيل خاصا بكتابة الماغوط أنها كتابة تنتسب إلى الشعر الحر لا إلى قصيدة النثر، ذلك لأن هـناك- اصطلاحا- ثلاثة أنواع عامة من الشعر يعرفها أدبنا العربي المعاصر: شعر الوزن الذي يدخل فيه تنويع التفعيلات، والشعر الحر الخالي من الوزن والقافية والمحافظ على نسق البيت مثل محمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وإبراهيم شكر الله وتوفيق صايغ، وأخيرا قصيدة النثر التي تنال حقها من الدفاع والتأصيل بطريقة تشير إلى أن كاتب الرد هو أدونيس الذي أخذ على عاتقه مهمة التأصيل النظري لحركة جماعة "شعر" في عهدها الأول.

الشعر الحر والمستقبل

وغير بعيد عن هذا الاتجاه يمضي الرد الذي نشره جبرا إبراهيم جبرا (في "أدب" شتاء 1963، وأعاد نشره في كتابه "الرحلة الثامنة")، الذي أشارت إليه نازك إشارة عنيفة في دراستها، بسبب ما كتبه (في العدد الخامس عشر من مجلة شعر- صيف 1960) عن الديوان النثري القديم الذي صدر سنة 1954 بعنوان "ثلاثون قصيدة" لصديقه القديم توفيق صايغ، خصوصا حين ذهب جبرا إلى أن السنين القادمة سترى غلبة الشعر الحر على تمنع النقاد، وأن هذا الشعر سيغدو شعر المستقبل. وبديهي أن يركز جبرا في رده على توضيح مفهوم الشعر الحر Free Verse الذي يخلو من الوزن والقافية كليهما، ويعتمد على الصور الشعرية والموسيقى الداخلية التي تتخطى انتظام التفاعيل، ولا يحفل بالقافية إلا إذا وردت عفوا، وبكثير من الألفاظ التي تتصف بكثرة أحرف المد- أحرف العلة. ويضيف جبرا أن كتاب الشعر الحر من بين شعراء العرب هم أمثال محمد الماغوط وتوفيق صايغ وجبرا نفسه الذي لا يستخدم في رده، تسمية "قصيدة النثر" (التي يعاود تعريفهـا) يوصفها صفة لإنجازه الإبداعي أو إنجاز أقرانه الذين ينتسبون انتسابًا مباشرًا- فيما عدا الماغوط- إلى الشعر الحر في تقاليده الإنجلوفونية.

وما هو دال، في السياق الاصطلاحي لتوصيف الكتابة الشعرية الخارجة على الوزن والقافية، أن الاستجابات المتعارضة لمجموعة الماغوط "حزن في ضوء القمر" وصلت بالجدال حول هذه الكتابة إلى ذروة حماسية أشعلت المعركة بين الداعين إلى التحرر الكامل من العروض الخليلي والقافية من ناحية، والمتشبثين بالتفعيلة أو العروض الخليلي كله من ناحية مقابلة. وذلك وضع فرض تأجيل مهمة تحرير الفارق، أو الفوارق، بين ألوان الكتابة المنتسبة إلى الشعر الحر في تقاليده الفرانكفونية (Veres Libre) والأنجلوفونية (Free verse). وفي الوقت نفسه، تحرير الفارق بين التجليات الغربية للشعر الحر والتجليات الموازية لقصيدة النثر التي لم يفهمها- نظريا- أعضاء، مجلة "شعر" إلا بعيني سوزان برنار. وكانوا معذورين في ذلك، إذ لم يكن متاحا أمامهـم في الكتابة النقدية أو التاريخية الأجنبية إلا كتاب سوزان برنار الذي كان- فيما أعلم- الأول من نوعه في لغته.

ولم يكن الزمن المتوتر والمناخ العصبي لنهاية الخمسينيات ومطالع الستينيات يسمحان بالتروي في المقارنة بين التجليات المختلفة، الممتدة غير الأقطار واللغات، لكل من قصيدة النثر والشعر الحر، أو تحديد تميزات حاسمة بين النوعين اللذين لم تخل العلاقة بينهما من تماس وتداخل، خصوصا أن بعض من عرفوا بكتابة قصيدة النثر كتبوا الشعر الحر والعكس صحيح بالقدر نفسه. يضاف إلى ذلك أن ما تم إنجازه فعليا إلى مطلع الستينيات في مجال التحرر الكامل من الوزن والقافية ما كان يسمح بمثل هذه التمييزات، فالتجارب ظلت محدودة، هامشية ومقموعة من محيط تسلطي وأغلبية لا تعترف فعليا بحق الاختلاف، والمنطق الدفاعي كان يفرض التبرير لا التأصيل، في محاولة انتزاع بعض الوجود لا حق الحضور الكامل. ولذلك ظلت الدوائر الدلالية لتسمية "الشعر الحر" و"قصيدة النثر" متماسة، غائمة، لا يفصل بينها نظرا وتطبيقا ما يؤسس تفرقة حاسمة، فيما عدا طريقة الكتابة "الطباعة" على الصفحة، لا لشيء إلا لأن هذه التفرقة لم تعثر على علة تولدها في التلهب العصابي لهذه السنوات البعيدة.

ودليل ذلك ما ظل يكتبه يوسف الخال رئيس تحرير "شعر" طوال سنة 1959، السنة التى أصدرت فيها المجلة مجموعة الماغوط، إذ يكنب في العدد العاشر "ربيع 1959" عن احتدام النقاش في موضوع التجديد في الشعر العربي. ويرى أن الفئة المعادية للتجديد، تتضاءل معه الزمن، وأن أمر أصحابها لن يدوم طويلا. أما الفئة التي تقف في صف التجديد فيقسمها الخال إلى جماعتين: جماعة غالبة يشترط أفرادها الحفاظ على الوزن والقافية ويتسامحون في أمر القضاء على عمود الشعر القديم. وجماعة ثانية تمثل الأقلية التي تنتمي إليها مجلة "شعر"، من حيث الدعوة إلى إطلاق الشعر من كل قيد أو شرط. من غير قواعد عروضية مسبقة، أو حدود تقف حائلا بين الشاعر والإبداع. ويضيف الخال إلى ذلك في افتتاحية العدد الثاني عشر "خريف 1959" ما يؤكده من مبدأ التحرر الذي تدعو إليه الجماعة، تخليصا للشعر من جميع القوالب الفنية الموررثة، المفروضة على الشاعر خارج موهبته الفردية وذوقه الشخصي. ويقصد الخال بذلك إلى أن المفهوم السائد للشعر في تراثنا الأدبي، القائل بإخضاع العمل الشعري لوزن معين وبناء فني معين، لم يعد يتماشى مع حاجة الشاعر العصري إلى التعبير الحر عن تجربته الكيانية ورؤاه المبدعة. لكنه يدعو في الوقت نفسه، عندما يتحدث عن الجديد الجذري، إلى تجنب "أي نوع من أنواع التسمية والتصنيف في هذه الرحلة".

وليس ذلك منطق من يشغل نفسه بالتفرقة بين دوائر التحرر الجذري، بل منطق المطالب بحق التحرر الذي لم يحصل عليه كاملا بعد. ونتيجة ذلك تأخر الصياغة التأسيسية لقصيدة النثر إلى سنة 1960، بعد ثلاث سنوات من صدور مجلة شعر، وبعد أن أحدثت مجموعة الماغوط ما أحدثت من استجابات تفجرت بها قضية الكتابة غير العروضية في مجملها. صحيح أن محاولة أدونيس التنظيرية الأولى تتضمن تمييزا "عابرا" بين النثر الشعري وقصيدة النثر، وعند أنسي الحاج تمييز مماثل بين الشعر المنثور والنثر الشعري من ناحية وقصيدة النثر من ناحية مقابلة. ولكن كلتا المحاولتين لم تكن من أولوياتها عميلة التمييز أو المقارنة الكاشفة بين قصيدة النثر والشعر الحر. وكلتا المحاولتين اكتفت بالاعتماد على سوزان برنار، والإشارة الصريحة أو المضمنة إلى شعراء فرنسيين بأعيانهم، سرعان ما أصبحوا الإطار المرجعي الأوحد منذ أن صدرت مجموعة "لن".

إجابة مباشرة

هكذا، ظل الفرانكفونيون من جماعة "شعر" يسيرون في اتجاه قصيدة النثر، ويسير في اتجاه الشعر الحر الأنجلوفونيون من المنتسبين إلى الجماعة نفسها. ويتفق كلا الفريقين على وضع الماغوط في دائرة الشعر الحر، إما لإخراجه من جنة قصيدة النشر بشروط سوزان برنار التي تحولت أطروحتها إلى ما يشبه الأقنوم المقدس عند المنتسبين إلى الثقافة الفرانكفونية، وإما لكتابتها على الصفحة بطريقة الشعر الحر من منظور المتصلين بالثقافة الأنجلوفونية، فهي قصيدة تكتب على الصفحة مثل قصيدة التفعيلة، من حيث هي أسطر متعاقبة رأسيا، لا تمضي في الشكل الكتابي كالنثر من حيث امتداد الفقرة، ويمكن للجملة فيها أن تتوزع على أكثرمن سطر.

حصان طروادة

ولكن ماذا عن الوحدة والكثافة والدرجة العالية من المجازية والإيقاع الداخلي الذي يبرز في كتابة الماغوط على نحو لافت، وهي أهم مواصفات قصيدة النثر في بيان أنسي الحاج وتعريف أدونيس؟ لا توجد إجابة محددة أو مباشرة. فقط، يمكن أن تستنتج من بعض إشارات خالدة سعيد في دراستهـا التي سبقت الإشارة إليها "في المقال السابق" أن قصائد "حزن في ضوء القمر" تخلو من الوحدة، وأنها أشبه بانطباعات متناثرة تفتقر إلى الحركة الداخلية. ولكن هذه أوصاف قيمية فيها نظر، يمكن أن تتسم بها مجموعات كثيرة تنسب نفسها إلى قصيدة النثر ومجموعات مقابلة تنسب نفسها إلى الشعر الحر. وهي لا تعني، على نحو حاسم، إخراج كتابة الماغوط من دائرة قصيدة النثر حتى مع الاعتماد على مواصفات سوزان برنار. ولذلك ظلت كتابة الماغوط كالمتصل الذي يجمع بين طرفين متقابلين. ينتسب إلى كليهما في امتداده الواصل بينهما.

ولعل هذا الوضع، مضافا إلى الأثر الإيجابي الذي تركته هذه الكتابة، هو ما منح ديوان الماغوط "حزن في ضوء القمر" حق الحصول على جائزة قصيدة النثر "وقدرها خمسمائة ليرة لبنانية" التي أعلنت عنها ونظمتها للمرة الأولى الصفحة الأدبية في جريدة "النهار".

وفاز بها الماغوط سنة 1961. وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من سليم باسيلا وأدونيس ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا فضلا عن أنسي الحاج المشرف على الصفحة في ذلك الوقت. وكانت هذه الجائزة موازية لجائزة قصيدة التفعيلة "وقدرها ألف ليرة" التي منحتها مجلة "شعر" في السنة نفسها للشاعر العربي بدر شاكر السياب عن ديوانه "أنشودة المطر" مقابل جائزة مجلة "الآداب" المضادة التي ذهبت جائزتهما إلى ديوان "كلمات ريفية" للشاعر عبدالباسط الصوفي. وعندما يمنح المؤصلون لقصيدة النثر والمنظرون لها جائزتها الأولى للماغوط، وهو الشاعر الذي قدموه واحتفوا به، فإن منح الجائزة اعتراف له مغزاة وتقدير له دلالاته، من حيث هو تأكيد لما قامت به كتابة الماغوط التي كانت أشبه بحصان طراودة، في اقتحامها الأسوار العمودية، والدخول من الباب الذي لم تستطع الدخول منه محاولات سابقة ومعاصرة لم تتميز بالزخم الشعري نفسه.

وأظن أن تقدير جائزة قصيدة النثر كان آخر العهد في التآلف بين محمد الماغوط وجماعة "شعر" التي بدأ يستشعر من بعض أفرادها، فيما أحسب، نوعا من الغض من تجربته التي لم تفارق العنصر العمودي في رأي هذا البعض، ولم تعثر على المفاتيح الذهبية لقصيدة النثر التي احتكرت أسرارها سوزان برنار، خصوصا بعد أن قيل إن "قصيدة النثر" هي التمرد "الأعلى" في نطاق الشكل الشعري. ولم يتردد يوسف الخال نفسه في أن يمضي مع التراتب الجديد، ويقول "في عدد شعر الرابع والعشرين- خريف 1962" إن قصيدة النثر شكل يختلف عن الشعر الحر في آداب العالم بأنه يستند إلى النثر ويسمو به إلى مصاف الشعر "فيما يستند الشعرالحر إلى الشعر التقليدي، ومن هنا التزامه الأشطر شكلا". وكان ذلك النقد الذي نشره عن كتاب نازك الملائكة "قضايا الشعر المعاصر" الصادر عن "دار الآداب" في "أكتوبر" سنة 1962.

ولم ينتبه يوسف الخال "أو لعله انتبه" إلى أن عبارته التي نصصت عليها تمس شعر صديقيه جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ قبل الماغوط، وأنها تختزل الفارق بين الشعر الحر وقصيدة النثر اختزالا في الشكل الكتابي دون غيره، وتجعل الشعر الحر مع ذلك أقرب إلى الشعر التقليدي، متجاهلة العامل الحاسم في الأمر كله، وهو الطبيعة النوعية للشعرية الفعلية في هذا النوع مقابل ذاك، لا من منطق التراتب القمعي الذى ينفي فيه الأعلى الأدنى أو ينفرد دونه بالمرتبة العليا، ولكن من منظور حوار الأنواع المتفاعلة والمتكافئة في آن. ونتيجة هذا التجاهل بقيت الحدود غير واضحة بين قصيدة النثر وقصيدة الشعر الحر، غير محررة في تماسها الذي تسارع إيقاعه مع تسارع وقع خطى الإبداع الأحد في العالم كله، واتجاهه إلى الكتابة عبر النوعية، حيث يتساقط أول ما يتساقط الحد الصوري للشكل الكتابي الذي تعلق يه متابعو سوزان برنار.

وأتصور، أخيرا، أن الالتباس الناتج عن المعنى الذي أشاعته نازك الملائكة وأقرانها من شعراء التفعيلة لاصطلاح الشعر الحر، من حيث قصر دلالاته على قصيدة التفعيلة وحدها، هو ما دفع الكثيرين بعد ذلك إلى الاستغناء بمصطلح "قصيدة النثر" عن الشعر الحر، الاكتفاء به وحده دالا على كل أشكال الكتابة الشعرية التي تخرج على الوزن والقافية بمعناهما التقليدي، فكانت النتيجة أن أصبح مسمى قصيدة النثر أفقا واسعا يضم الشعر الحر بمعناه الأصلي، كما يضم أشكالا متباينة من الكتابة التي أصبحت تحتاج إلى دراسات أعمق في التصنيف والمقارنة والتجنيس.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب




ِ